السودان وإثيوبيا.. هل هي الحرب؟!

 

نهاية الأسبوع الماضي ارتدى الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس السيادي الانتقالي السوداني بزته العسكرية، واصطحب معه هيئة الأركان في زيارة مفاجئة إلى الحدود الشرقية بين السودان وإثيوبيا، وأطلق من هنالك تصريحاً مدوياً، أثار عاصفة من الاستفهامات. قال فيه “لن نسمح بالتعدي على أراضينا”

دق طبول الحرب

وبالرغم من أن الميدان الشرقي لم يكن هادئاً، منذ أيام الرئيس المخلوع عمر البشير، حيث كانت عصابة الشفتة الإثيوبية تتوغل إلى داخل الأراضي السودانية، تقتل وتنهب الماشية، بشكل مستمر، لكن الأمر ظل تحت السيطرة نسبياً، إلا أن توقيت زيارة البرهان ورسائله العسكرية، هذه المرة أثار حالة من الجدل، والمخاوف أيضاً، من دق طبول الحرب .

ظلت الحدود الإثيوبية السودانية تشهد توترات صامتة، تُعَبر أحياناً عن تقلبات المِزاج السياسي، حيث ظل السودان يتهم أثيوبيا باحتلال منطقة (الفشقة) والسماح للمزارعين الاثيوبيين باستغلال أراضٍ سودانية، غنية بمزارع السمسم والذُرة، إلى جانب النشاط الاجرامي لعصابات مُسلحة تتحرك في مساحات غير محدودة، تنهب وتقتل دون أن يردعها الجيش الإثيوبي، مما جعل الحكومة السودانية تنشر قوات من الجيش والدعم السريع على الشريط الحدودي أخيرا.

رسائل البرهان ودور ترمب

ومع ذلك فإن حالة من السيولة البشرية والنشاط التجاري، كانا يميزان تلك المنطقة الجغرافية، ولم تتأثر العلاقات الدبلوماسية اطلاقاً بالتوترات الحدودية، فما الذي يجري بالضبط خلف الكواليس؟ وماهو تفسير غضبة البرهان في هذا الوقت تحديداً إلى درجة التلويح بالرد العسكري ؟

في شباط/ فبراير الماضي أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية أنها سوف تحتضن قمة مهة بين الدول الثلاثة، السودان ومصر وإثيوبيا، للتوقيع على وثيقة تضع حداً للخلافات حول سد النهضة، بتشغيل وملء البحيرة. ولعل اهتمام دونالد ترامب بهذا الملف لدرجة ممارسة الضغوط على أديس أباباً كان جلياً، ويصعب فهمه، في ظل علاقة واشنطن المميزة بمصر وإثيوبيا، على حد سواء، حتى إن الخبير في الشؤون الأفريقية بالمجلس الأطلسي كاميرون هادسون، أورد تغريدة على حسابه في تويتر كانت لافتة ومحيرة، قال فيها ” لم تستثمر واشنطن في أي قضية أفريقية كما استثمرت في مباحثات سد النهضة” لكن الحكومة الأثيوبية التي تعاني من ضغوطات داخلية هائلة، تعتبر أهمية اكتمال وتشغيل السد قضية مصيرية، إلى درجة تهدد بانهاء الطموحات  السياسية لرئيس الوزراء أبي أحمد، إن حاد عن الهدف، أربكت المشهد مرة واحدة، وقطعت طريق صفقة البيت الأبيض وزارة الخزانة الأمريكية، الغامضة !

قضية مصيرية للإثيوبيين

على نحوِ مفاجئ اعتذرات إثيوبيا رسمياً عن عدم المشاركة في تلك الاجتماعات، وشددت على أنها لن توقع على الاتفاقية الدولية قبل إجازتها من البرلمان الإثيوبي. سيما وأنه سوف تنسحب أي تنازلات في هذا الملف الذي يعني للإثيوبيين الكثير، ويرقى إلى خطورة تهديد الأمن القومي، واستقرار الأوضاع السياسية، وهو ما سيهدد العملية الانتخابية التي سوف تجري خلال هذا العام. في نفس الوقت كان السودان أقرب إلى التحالف الأمريكي المصري في ما يخص حل الخلاف والتوقيع على مسودة اتفاق ملء وتشغيل بحيرة السد، ولعل الدور الذي تقوم به وزارة الخزانة الأمريكية في الضغط على السودان، والتعهدات برفعه من قائمة الدول الراعية للارهاب، إلى جانب الدور الإماراتي أيضاً في دعم جهود واشنطن حملت الخرطوم للتماهي مع الموقف الأمريكي والمصري معاً، وإتخاذ موقف مناوئ لإثوبيا لأول مرة تقريباً منذ تفجر أزمة سد النهضة، حيث ظل السودان يقوم بدور الوسيط في الظاهر، ودعم قيام “سد النهضة” في الخفاء، نسبة لمصالحه المرجوءة من ذلك، والرغبة أيضاً في استثمار حصته من مياه حوض النيل 18.5 مليارًا من جملة 55.5 مليار متر مكعب، التي تذهب إلى مصر سنوياً .

مواقف متضاربة

 لكن مع ذلك بدأ أن الخرطوم أكثر تفهماً لموقف إثيوبيا من التوقيع على مسودة واشنطن، بعد زيارات متواصلة لمسؤولين من الحكومة الإثيوبية إلى السودان، وشرح طبيعة المأزق السياسي والأمني، وعدم ملاءمة الوقت للتوقيع على المسودة، نسبة لاقتراب موعد الانتخابات، بل ذهب السودان أكثر من ذلك عندما تحفظ على قرار الجامعة العربية الداعم لمصر في سد النهضة، لكن ضغوط أخرى أيضاً كانت تُمارس على الخرطوم من قبل مصر وأمريكا، حيث تواصلت زيارات رئيس جهاز المخابرات العامة المصرية اللواء عباس كامل إلى الخرطوم، بمعدل زيارتين خلال شهر واحد، مما تسبب في انقسامات داخل مكونات السُلطة الانتقالية في السودان إزاء الموقف من إثيوبيا، حتى بدأ أن المكون العسكري مع واشنطن ومصر، والمكون المدني إلى جانب إثيوبيا، وكاد الشرخ يتسع، بل إن إثيوبيا شعرت بخطور الوضع، وربما تخسر السودان الحليف الأخير في ما يخص سد النهضة، خصوصاً وأن رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد هو الذي رعى المفاوضات بين المكون العسكري والمدني بما أفضى إلى التوقيع على الوثيقة الدستورية منتصف العام الماضي، وكان أبي أحمد، أقرب إلى دعم خيار الحكومة المدنية، وهذا ربما خلق جفوة بينه والقوات المسلحة مُنذها .

ضغوطات مصرية

بالطبع لم يعد خافياً الدور المصري للتأثير على موقف السودان من سد النهضة، انطلاقاً من رغبة أكيد تبذلها الحكومة الانتقالية السودانية للتخلص من قائمة الدول الراعية للارهاب، وتداعيات العقوبات الاقتصادية، وهنا أصوات على رأس المؤسسة العسكرية الحاكمة في الخرطوم، تبدو أقرب إلى القاهرة، وهو ما يفسر التحركات العسكرية على الحدود السودانية الإثيوبية، في حين تعتقد بعض الأصوات الأثيوبية أن التصعيد تقف خلفه مصر، بقصد التأثير على موقف إثيوبيا بخصوص سد النهض.

 لكن ذلك لا ينسف حقيقة ماثلة، وهى أن تسخين الجبهة الشرقية، وتوترات الفشقة ليست قضية سياسية فحسب، وإنما نتيجة للصعوبات في ضبط الحدود بين البلدين، نظراً لتداخل المصالح بين السكان والمزارعين، والحرب المشتعلة بينهما، دون أن ترقى إلى حرب الدولتين، وهو مؤشر لوجود أزمة، لكن يصعب وصفها بالخطيرة، مع أهمية أن ينعتق السودان من موقف الوسيط إزاء سد النهضة، وأن يعي باعتباره شريكا أصيلا في هذا الملف، ويبذل مواقف واضحة تخدم مصالحه الاستراتيجية، دون أي مؤثرات خارجية .

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه