السودان بعد البشير

 

 

كتبت منذ اللحظة الأولى عن حراك الشارع في السودان، وتحدثت في وسائل الإعلام عن وجوب رحيل البشير بعد الثلاثين العجاف التي جثم فيها على صدور الطيبين، وعن حق هذا الجيل في التغيير واختيار من يحكمه بنزاهة وشفافية، مخالفا بذلك السواد الأعظم من التيار الإسلامي الذي سكت عن البشير رعاية لحسن العشرة، وخوفا من البديل الذي يحمله التغيير!

ولما كتبت عن البشير بعد سقوطه مبددا مخاوف الإسلاميين من السقوط زادت الهوة بيننا وارتفعت نبرة النقد، وفات إخواني أنه من الظلم البين للحركة الإسلامية أن ننسب تجربة البشير إليها، بعدما خرج منها وانقلب عليها، وإن بقي حليفا لها ومستندا على دعمها!

انقلاب على البشير

وحتى نضع الأمور في نصابها ونسمي الأمور بمسمياتها، فما حدث في السودان هو انقلاب على عمر البشير، والتفاف على مطالب الجماهير التي لا تحمل أفكارا، ولا تنتمي إلى أحزاب ولا مؤسسات، بل كانت معبرة عن عموم الشعب السوداني بكل مكوناته، لكن تسلط النخب وتصدر أصحاب الأيديولوجيا لمرحلة ما بعد النجاح سنة مضطردة في الثورات وحراك الشعوب، ودائما ما تتحول دفة صراع المصالح إلى نزال بين النخبة والدولة العميقة التي تحسن تغيير جلدها القديم بما يتناسب مع المرحلة الجديدة.

وإحقاقا للحقيقة لا ينكر أحد من أهل السودان أن قطاعا كبيرا من الإسلاميين شارك في غضبة الناس على نظام البشير من اليوم الأول.

وكان د. عوض حسن سيد أحمد المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في مقدمة الصفوف وعلى منصات الحراك وبياناته ومقالاته شاهدة على ذلك، لكن نظرا لصعوبة تفكيك المشهد الإسلامي في السودان، وانقسام جماعة الإخوان المسلمين إلى فريقين – وكأنها من سنن الربيع العربي – سهل على بعض المتربصين محاولة صبغ الحراك السوداني بالصبغة اليسارية بل والشيوعية!

ومن مفارقات السودان التي لا تنتهي أن الحزب الشيوعي السوداني يعد أقوي تيار شيوعي في الوطن العربي من حيث طبقة النخب وعدد المنظرين، لكن بقيت القاعدة الشعبية عصية عليهم لأن الإسلام جزء من الإنسان في تركيبة السودان، وبقيت الشريحة الأكبر كما هي على نقاء الفطرة، وسماحة الطبع الذي طبعت عليه أخلاق “الزول” وهما لحمة الإسلام وسداه، ومرتكزه وقطب رحاه، لذا بقي “السودان سمحا شديد السماحة”.

أما بعد سقوط البشير فأظهر التيار المعادي للإسلام وليس للحركة الإسلامية وجه قبح، وظهر غله الدفين على الشريعة الإسلامية، وليس على حكومة الإنقاذ!

وبدا أن همهم اجتثاث التيار الإسلامي وليس اقتلاع جذور الفساد والاستبداد، وظهر أن هذا التيار في العالم العربي يكرع من كرمة فاسدة، ويقرأ من أجندة واحدة، ففي الوقت الذي أعلن فيه عساكر السودان عن بقائهم في الحكم لمدة سنتين على طريقة المشير طنطاوي إذا بهم يطالبون ببقاء الحكم العسكري لمدة أربع سنوات استنانا بالتيار المدني المصري الذي ظن أن الدبابة ستوصله إلى سدة الحكم، وأكد هذا التيار أنه لا يثق في اختيار الجماهير، ويوقن أنها لن تعطيه ما يريد، فقرر التحصن خلف صندوق الذخيرة، حتى لا يذهب إلى صندوق الاقتراع !

إنها العلمانية واليسارية على الطريقة العربية!

الاستبداد اليساري

وهنا تعالت أصوات حلفاء البشير: ألم نقل لكم؟ انظروا هؤلاء هم خلفاء البشير، وكأن الشعب السوداني رفض الاستبداد العسكري المتستر باسم الدين، ليقبل الاستبداد اليساري بخلفيته الحمراء!

إن خطاب الإقصاء الذي ظهر على بعض الألسنة سيعجل بوقوع ثمرة الحراك في حجر العسكر، وكأن قدر أبناء النيل أن يشربوا من نفس الكأس، ويحصلوا على نفس النتائج!

وهذا ما جعل مثلث الثورة المضادة يبادر بالوقوف إلى صف الانقلاب لضم السودان إلى معسكر الليكود العربي، وتحويل عبد الفتاح البرهان إلى عبد الفتاح السيسي، أو أن يكون خليفة لحفتر على أضعف الإيمان.

فهل خلع السودانيون البشير ليحكمهم محمد بن سلمان، ومحمد بن دحلان؟ ما أسرع ما طووا صفحة البشير الذي لم يغن عنه اللعب معهم على كل الحبال، حتى تمكن منه السم الزعاف بعدما أدمن الرقص على رؤوس الأفاعي.

أخشى على الطهر الثوري الذي يحرك جموع الشباب أن يفسده خبث النخب التي لا تعرف إلا بريق السلطة، وليس أدل على ذلك من رفض الشباب لتدخل مصر والسعودية والإمارات، والتأكيد على عودة السودانيين من حرب اليمن التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل.

في الوقت الذي صمتت فيه النخبة عن ذلك، وأعلن فيه العساكر تمديد بقائهم في مهمة قتل الأطفال والنساء، ولا يستغرب هذا من عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس الحالي الذي كان المسؤول الأعلى عن القوات السودانية في اليمن.

التيار الإسلامي في السودان أقوى من نظيره في باقي البلدان العربية، ويملك من القوة والتجربة مالم يتحصل لغيره، كما أن الحاضنة الشعبية لن تقبل بديلا عن الإسلام، وإن خذلهم الدعاة إليه.

رب ضارة في قياسكم، نافعة لحاضركم ومستقبلكم، ولكن اعملوا على وحدة الصف وتوحيد الهدف، وإدراك اللحظة الفارقة فهذا واجب المرحلة، وفرض على الأعيان، والذي يعرف تاريخ السودان يدرك أن أهله دائما ما يصنعون الفارق، وأنهم لا يسلمون قيادهم لماجن أو مارق، إنه السودان حيث الإسلام جزء من الإنسان.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه