السعودية بعد خاشقجي ليست كقبله

 

ليست جريمة قتل وتقطيع الكاتب الصحفي السعودي جمال خاشقجي كغيرها من الجرائم مهما تعاظمت، وليست تركيا كغيرها من الدول التي شهدت جرائم سابقة بحق معارضين سعوديين، ولن تكون السعودية (نظامها وعائلتها المالكة ونخبها) بعد هذه الجريمة كما كانت قبلها، هي حادثة فارقة في التاريخ السعودي كما كانت أحداث 11 سبتمبر2001 فارقة في الولايات المتحدة، وفي العالم بأسره الذي اختلت أوضاعه بعد هذا التاريخ عما كانت قبله.

العراقيل

لم تنته الجريمة فصولا، ولا تزال تنتظر القول الفصل من النائب العام التركي الذي فتح فيها تحقيقا، ولا يزال يواجه عراقيل سعودية في تفتيش بعض الأماكن المشتبه بصلتها بالجريمة، وسيواجه عراقيل أكبر عند طلبه استدعاء بعض الأشخاص المتهمين سواء كانوا رجال أمن أو دبلوماسيين أو موظفين الخ، لكن الجانب التركي لا يزال مصمما حتى هذه اللحظة على إكمال تحقيقاته بكل جدية، وهو يدرك أن سمعته على المحك، فعيون شعوب العالم أجمع تتجه صوب إسطنبول تنتظر منها إظهارا للحقيقة، وكشفا لكل تفاصيلها وتحديدا للجناة الحقيقيين فيها، ومن يقف وراءهم، أو من حرضهم على ارتكابها، وهنا ينتهي دور المحققين الأتراك في تحديد المسؤوليات، لكنه لن ينتهى في رد الاعتبار للدولة التركية التي تعرضت سيادتها وأمنها للاختراق والعدوان، وهو ما سيحتاج ثمنا كبيرا من الجانب السعودي.

رغم أن القضية لم تنته، بل لا تزال تتفاعل إقليميا ودوليا، فإن النظام السعودي يمر بأسوأ أيامه، ولا يشبه هذا الوضع سوى حالته عقب تفجير برجي التجارة العالميين في الولايت المتحدة في سبتمبر 2011 حيث كان معظم المهاجمين سعوديين، لكن النظام خرج من تلك الأزمة بتبرئه من الجناة، وبتعاونه الكامل مع الأمريكان في التحقيقات، والمشاركة معهم فيما وصف بالحرب على الإرهاب، وتمويل كل الغزوات الأمريكية في أفغانستان والعراق الخ، الوضع يختلف هذه المرة لأن المتهمين ليسوا مجرد شباب غر، ينتمون للقاعدة أو داعش إلخ، بل هم رؤوس النظام بدءا من ولي العهد وكبار مساعديه وقنصله في إسطنبول، وبالتالي فالذي سيدفع الثمن بشكل مباشر هو النظام السعودي، الذي بدا متشنجا في مواقفه، في مواجهة ضغوط دولية مكثفة ومتصاعدة، المثير فيها هو تصاعد الغضب الأمريكي خاصة من أكبر أصدقاء السعودية (من نواب الكونغرس الجمهوريين)، وسيل من المعلومات التي تظهر تباعا وتنقلها كبريات وسائل الإعلام الدولية متضمنة أدلة على ضلوع بن سلمان نفسه في الجريمة، وبالتالي المطالبة برأسه شخصيا كما فعل السيناتور الأمريكي ليندسي غراهام الذي قالها بشكل صريح إن بن سلمان شخص مدمر لا يصلح لأي موقع سياسي، ووجه حديثه مباشرة للسعوديين عبر قناة فوكس نيوز مطالبا إياهم بالتخلص منه، واختيار ولي عهد غيره.

خروج الملك من عزلته

من المظاهر اللافتة في الأزمة ظهور الملك سلمان بعد أن كان قد ترك الحكم فعليا لنجله، ولكنه وجد الأمور تفلت سريعا بين يديه، فخرج من عزلته محاولا إنقاذ الموقف عبر اتصال مباشر مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وعبر إرسال مبعوث شخصي له هو الأمير خالد الفيصل أمير مكة، وقبله خالد الحميدان رئيس المخابرات السعودي  لـ”لملمة” الأمر مع الأتراك، وهو ما فشلا فيه بسبب تشدد الموقف التركي، كما أن من المظاهر اللافتة اختفاء عادل الجبير وزير الخارجية المسؤول المباشر إداريا عن القنصلية، وكذلك محمد بن سلمان بعد مقابلته مع وكالة بلومبرغ التي جزم فيها بخروج خاشقجي من القنصلية بعد 20 دقيقة، وظل بعيدا عن اللقاءات الرسمية إلا في أضيق نطاق حتى مقابلته مع وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو الذي يسعى بتكليف من رئيسه ترامب لإيجاد مخرج له مع تحميل المسئولية لمن وصفهم ترامب بـ”مجموعة مارقة” تحركت بدوافع شخصية وليس بتعليمات من بن سلمان، وهي الرواية التي سخرت منها وسائل الإعلام الأمريكية ذاتها.

ليس معروفا حتى هذه اللحظة النهاية التي ستنتهي إليها القصة، ولكن المعلوم حتى الآن أن سمعة النظام السعودي تضررت كثيرا دوليا حيث اصبح ينظر له على نطاق واسع باعتباره نظاما همجيا ينتمي لعصر الجاهلية، كما تضررت سمعة النظام محليا، فالشعب السعودي الذي ظل في غالبه يصدق الرواية الرسمية المنقولة عبر وسائل الإعلام السعودية، وعبر تصريحات كبار الأمراء والمسؤولين، أفاق الآن على صدمة اعتراف النظام السعودي بوقوع الجريمة مع مساعيه للتهرب من المسؤولية عنها، وتحميلها لبعض صغار الموظفين بالاتفاق مع الأمريكان الذين وجدوها فرصة جديدة لهم لمزيد من الإبتزاز المالي.

لم تعد الضغوط على النظام السعودي تركية فقط، بل أصبحت ضغوطا دولية واسعة تشارك فيها الشعوب والحكومات والمنظمات والمؤسسات الدولية، وعلى رأسها منظمات تابعة للأمم المتحدة، وتجدها بعض الأطراف فرصة لتصفية حسابات أو لتحقيق مكاسب على جثة خاشقجي، وحتى إذا رغبت بعض الأطراف في عقد صفقات أو تسويات مع الجانب السعودي فإن الأمر لن يكون سهلا أمامها، نظرا لتعدد الأطراف المهتمة بالموضوع، وتعارض مصالحها.

محاكمة بن سلمان

لا يمكن النظر إلى الموقف الرسمي الأمريكي باعتباره موقفا مبدئيا، أو أخلاقيا، فهو أبعد ما يكون عن ذلك، ولا نريد ضررا للشعب السعودي نتيجة عقوبات قد يفرضها نظام ترامب لإجبار آل سعود على زيادة قيمة الجزية، لكن ليس مطلوبا منا في الوقت نفسه التعاطف مع من قتلوا خاشقجي وقتلوا من قبله آلاف المصريين واليمنييين واللبيين بطائراتهم، وقنابلهم، وبتمويلهم وحمايتهم للقتلة المباشرين.

العدالة تقتضي محاكمة محمد بن سلمان مباشرة على الجريمة التي تمت بتكليف منه، فلا أقل من ذلك ثمنا لدماء جمال خاشقجي، وأي تحايل على هذا الأمر، وأي محاولة لإخراجه من دائرة الإتهام ستكون جريمة جديدة، وستمنحه فرصة أخرى لمزيد من القتل والتنكيل، ولذلك فإن واجب الأحرار في كل مكان هو التحرك لوضع الجرس في رقبة المتهم الحقيقي، فكل أولئك الذين باشروا القتل والتمثيل بالجثة على أنغام الموسيقى الهادئة هم مجرد صبيان، ومنفذون لأوامر الدب الداشر، وإذا كان النظام السعودي يعتمد سياسة إطالة الأمد في التحقيقات بهدف تبريد القضية والبحث عن مخارج آمنة، فإن واجب الجميع هو الحفاظ على وهج القضية وزيادة سخونتها، وكسب أنصار جدد لها كل يوم وفي كل مكان، حتى لا يهلكنا الله كما أهلك من قبلنا “كانوا إذا قتل الشريف تركوه وإذا قتل الضعيف أقاموا عليه الحد”

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه