السجون المصرية في زمن الـ “كورونا”

 

قضية السجون في مصر من القضايا التي تشغل الرأي العام، لوجود عشرات الآلاف رهن الحبس والاعتقال لأسباب سياسية، ولهذا تصاعدت في الأيام الماضية الدعوات لفتح السجون خشية انتشار فيروس كورونا في هذه التجمعات المغلقة، والتي تفتقد الاهتمام والرعاية، بسبب حالة العداء والتربص من السلطات، التي تتعامل بعدوانية غير مبررة.

موضوع السجون من الملفات الصادمة في مصر، وهي تشير إلى حالة الانسداد والطغيان السياسي، وإصرار السلطة الحالية على استمرار الانقسام الداخلي، وصناعة عدو محلي للإبقاء على حالة الاستقطاب إلى مالا نهاية، دون مراعاة لما نمر به من الكوارث والوباء، وانعكاس ذلك على التماسك المجتمعي والجبهة الداخلية.

الكل يعرف أن السجون ممتلئة منذ الانقلاب على الرئيس محمد مرسي، وأن عمليات الاعتقال تخطت في بشاعتها ممارسات الأنظمة الاستبدادية عبر التاريخ، وفاقت في قساوتها ممارسات الاحتلال الأجنبي، وكان من الواضح أن هناك حرصا من الحكم على إظهارالقسوة وعدم مراعاته لثوابت الأديان والقوانين والمواثيق والأعراف لإرهاب المعارضين.

إن ظلم الإنسان وتعذيبه وأسرته يجلب غضب الرب، فالله أدخل امرأة النار في هرة، حبستها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، كما أن الله شكر صنيع رجل وأدخله الجنة لأنه سقى كلبا يأكل الثرى من العطش، وما قد يغيب عن القساة في مناخ الظلم أن الإنسان خلقه الله، والروح التي في جسده ملك لخالقها، وينبغي أن تكون حقوق الإنسان فوق الخلافات السياسية وبعيدة عن الصراعات على السلطة.

المواطن ليس عدوا

ملف السجون يحتاج إلى مناقشة جادة وعدم الاكتفاء فقط بالإدانة، التي لم تعد تجدي مع أصحاب القلوب المتحجرة والعقول المتسلطة، التي تسيطر عليها روح انتقامية لا حدود لها؛ كما أن الخسائر الفادحة لهذه السياسة اللانسانية تسيء لصورة مصر والمصريين، وتفضح كل دعاوي البناء والتنمية الكاذبة؛ فالدول لا تقوم على سحق الإنسان واستباحته والنظر إلى المواطن كعدو.

بالتأكيد لن يكتب الاستمرار لهذه الروح العدوانية ضد قطاعات واسعة من الشعب المصري، فالبشر الذين يتخلون عن انسانيتهم يتحولون إلى كائنات متوحشة لا يقتصر جنونها على الخصوم وإنما تصبح وبالا على محيطها وأهلها وتأكل نفسها، فمن يبيح لنفسه الغدر بغيره يتلقى الغدر في صدره قبل ظهره، وكما تدين تدان، كما أن الشعوب لن تصمت ابد الدهر.

لن تحيا دولة على تقسيم الشعب إلى موالين وأعداء، ولن يستمر نظام حكم على فكرة تسليط جزء من الشعب على الجزء الآخر، ولا يمكن لمصر أن تقف على قدم واحدة وقطع الأخرى، ولن يستقر الوطن بتقنين إهدار الكرامة وإفساد مؤسسات العدالة واضطهاد قطاعات من المجتمع وإطلاق دعاوى التخلص منهم كي يعيش الآخرون.

لا توجد عداوة أبدية

في السياسة لا يوجد ثابت، والكل يبحث عن المصلحة، والحكام يرحلون والأنظمة تتغير وتبقى الأوطان والشعوب بقيمها وأديانها، ولا يمكن أن يستمر هذا الصدود إلى الأبد، وما يجري حولنا كفيل بتذويب هذه القساوة غير المعهودة في تاريخ المصريين.

التجارب حولنا كثيرة وآخرها ما حدث بين أمريكا وأفغانستان؛ فبرغم العداوة التي وصلت إلى غزو الجيش الأمريكي لإفغانستان في عام 2001 واستمرار القتال لمدة تصل إلى 3 عقود أبرم الرئيس الأمريكي اتفاقا للمصالحة مع قادة حركة طالبان بعد جولات من المفاوضات، واستجاب ترمب لمطالب خصومه وأعلن سحب الجيش الأمريكي.

لم يتهم الأمريكيون ترمب بأنه تحاور مع الإرهاب رغم أن حركة طالبان ظلت تقاوم الاحتلال الأمريكي بالسلاح وقتلت آلاف الأمريكيين، وتسببت في إصابة عشرات الآلاف بعاهات مستديمة وبالأمراض النفسية، بل حظي الاتفاق بتأييد الأمريكيين لحقن دماء أبنائهم ووقف النزيف.

الوضع في مصر لم يصل إلى ما كان بين أمريكا وأفغانستان، بل بالعكس؛ فالسجناء والمعتقلون هم الطرف الأضعف الذي تعرض للعدوان، ولم يحدث أن مارس السياسيون المعارضون أي نوع من العنف، حتى بعد حبس الرئيس الذي انتخبه المصريون ووفاته داخل القفص.

من يقبعون في السجون لم يمارسوا العنف، وتمسكوا بمقولة “سلميتنا أقوى من الرصاص” وفشلت كل محاولات الاستفزاز لدفعهم لممارسة العنف أو تبنيه، وهذا يحسب لهم، ويرفع من قدرهم، ويظهر حبهم لوطنهم رغم كل ما يتعرضون له من ظلم يشيب له الولدان.

المصلحة الوطنية العليا تقتضي وقف الظلم الواقع على قطاع من المصريين؛ وتصحيح وضع لا يليق بصورة بلادنا، وخاصة اعتقال النساء الذي لم يحدث في بلاد العرب والمسلمين في أكثر العهود ظلاما، ومثل هذه الممارسات تضرب فكرة المواطنة في جذورها.

وقت السلام الداخلي وليس الحرب

لم تعد شعارات الحرب على الإرهاب مقنعة في تبرير الممارسات القمعية، وفشلت الدعاية الحكومية في إشعال حرب داخلية وإقناعنا بأن “العدو من داخلنا” خاصة مع التحالف مع أعداء الخارج مثل الكيان الصهيوني والتنازل عن حقوقنا في نهر النيل لإثيوبيا والشركات الأمريكية والصهيونية الممولة لسد النهضة.

مصر لا تحتمل هذا التناقض المثير للفتن في توجهات السياسة الرسمية، فهي نار وحرب على المواطنين المصريين وبردا وسلاما على الخصوم والأعداء الخارجيين، لا تعرف غير القمع والمحاكم الخاصة مع مواطنين ضعفاء لا حيلة لهم. بينما لا تعرف غير السلام والتفاوض والتنازل مع من يسرقون حقوقنا في الأرض والبحر والنهر.

نحن في أيام صعبة تداهمنا فيها الكوارث من كل اتجاه، والبركة منزوعة بسبب كثرة المظالم، والشعب المصري أولى بالرحمة، فافتحوا السجون عسى أن يرحمنا الله وينظر إلينا بعين الرضا، ويكفينا ما حدث من ظلم، وآن لهذا الملف أن يغلق لإغلاق الجروح ووقف النزيف الإنساني.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه