“الساروت” مثقف ميداني يكتب الواقع!

 

ملفت للنظر محاولة الإحياء الاعتباري للشهيد عبد الباسط الساروت على حساب الطعن في رمزية المثقف السوري وعالم الأفكار المتغير المستقل في صناعة الذات الاجتماعية والسياسية والثقافية، المعتبرة بدورها الوسيلة الأنجع في إسقاط الاستبداد والجهل واحتلال الأنظمة لشعوبها، وكأن الفكرة المراد نقشها في عقل العامّة هي؛ أنّ الحالة الفكرية والثقافية مرآة العمالة والخيانة والارتهان بل وتجسّد النقيض المقابل لواقع الإرادة الاجتماعية العفوية الصادقة، فلم تعد المحاولة خافية نحو خلق هوّة بين الفكرة والتطبيق والمنظّر والمنفذ والمثقف والحراك والقائد والمقاد القادر على تطبيق التنظير الفكري والثقافي في حيّز الواقع وتحويله لكيان اجتماعي وثقافي وسياسي متين. ولم يعد خافياً على مراقب من خلال تعامل الرأي العام مع استشهاد الساروت أنّ الواقع السوري يعاني اضطرابات بالغة في هويته الثقافية والفكرية والاجتماعية وعدم ثقته بذاته، ما دفعه بشكل غير واعٍ بالاتجاه نحو تصنيم الأشخاص وعبادتهم بمعزل عن أفكارهم ظانّاً أنّه بذلك يتقرّب إلى الحرية زُلفى! لا سيما وأن ذلك أتى بالتوازي مع رجم الذات ولعن الأفكار والتقاليد والدين والأيديولوجيات وكل القوالب ذات الصلة بتشكيل الذات الاجتماعية لمنظومة الأفكار المتراكمة، متجاهلاً الواقعُ السوري الناطق بأنّ الساروتَ ليس حالةً فردية تغرّد خارج السرب، بل حالة متكررة واسم لجيل يولد في رحم المنظومة الفكرية المتدينة العفوية البسيطة للحراك والتي يلعنها أبناؤها بالتزامن من تصنيم أفرادها!، وعليه نلحظ أنّ الحراك يعيش الساروت نفسه لا ما عاش الساروت من أجله فيغرق بالشخصنة ويجنح عن الفكرة ليتحول لضحية آمنةً في شباك الوثنية الحديثة! لذلك فإنه من الأهمية بمكان السعي نحو التركيز على “أيقنة” الفكرة وعدم الاقتصار على تحويل الشخص لأيقونة وثنية لا معنى لها، فبذلك نضمن توجيه العقيدة الاجتماعية للحراك على المستوى البعيد، وهذا لا يكون إلا بالتركيز على ما مات الشهيد من أجله لا على الشهيد ذاته، وعندها فقط نحوّل الشهيد والمنكوب والمهجّر السوري من مرتبة الضحيّة الآمنة إلى مستوى الشهادة الفاعلة والساعية نحو البناء وصناعة الواقع وليس الموت ودخول الجنة فحسب!

ليس نقيضاً

   فمن الخطأ البالغ تعامل الحراك السوري مع الساروت وأمثاله بوصفهم النقيض للحالة الثقافية والفكرية، مقتصرين على التغنّي بسماره وقوامه وصوته وتحويله شعبياَ لحارس مرمى أو عارض أو مغنٍّ لا أكثر! فلا شكّ في أنّ إصرار الحراك والمثقف على ترميز القيم غير القادرة على توجيهه وتفعيله هو تقزيم للواقع الثوري ودفنٌ مؤسف لأسطورة عبد الباسط الساروت! فإنّ “صوفنة” الحراك وتحويل الثائر لدرويش يطوف بكفنه حول اللاشئ يكرّس بدوره حالة الفوضى الشعبية غير القادرة على التنظيم و”المأسسة”.

      أمثال الساروت هم حالة فكرية وثقافية تطبيقية لا تخرج عن سياق تطور الحراك الفكري والثقافي للثورة!. لكن عدم قدرة السوريين على التعامل مع ظاهرة الساروت وتوصيفها بدقة على أنّها نتاج ثقافي واع وغير عفوي، يعود إلى اختلال المفاهيم والصورة المختزنة حول المثقف في اللاوعي السوري والعربي، فالصورة الذهنية للمثقف في عقل الرأي العام العربي، هو ذاك الرجل صاحب النظارة التي ينظر من أسفلها إلى من حوله باستعلاء ويكتب بقلمه ما لا يفهمه إلا الخاصة، وهذه الصورة الخاظئة التي استنبتها الإعلام الاستعماري في العقل اللاواعي للواقع العربي، هي المسؤولة عن إطلاق الحكم على أمثال الساروت بأنّه إنسان ارتجالي ودرويش وغير مثقف! مع العلم أنّ المطّلع على خطابه ناهيك عن هيئته العفوية، يلاحظ أنّه ليس منظّراً لكنّه واعٍ ومثقف وقارء غير أنّه يكتب الواقع، لذا فإنّ مؤلفاته ليست كتباً بل واقعاً ملموساً، باختصار الحالة الساروتية أعادت تشكيل مفهوم المثقف العربي والسوري ونقلته من حالة المثقف الكمّي المكتبي إلى حالة المثقف الكيفيّ الميداني، فشريحة عبد الباسط هي الطبقة الواعية المثقفة الغير قادرة على التنظير الفكري، لكن بذات الوقت لا تخرج عن الإطار الثقافي بل هي العنصر الحاسم والمتغير المستقل في الدورة الحياتية لأي مجتمع، فالحالة الثقافية والفكرية لأي مجتمع تحتاج لهذه الشريحة التي تشكّل الوعاء القادر على تحويل الإرادة إلى قوة والقوة إلى عزيمة والعزيمة إلى خطة توضع في حيز التنفيذ، وإلا ستبقى الثورة على طاولات المقاهي وسطور الكتب وأسيرة المراكز الثقافية وسفوح الجبال والمغارات، وعليه فشريحة الساروت ذو الثقافة الكيفية الميدانية التي أبت أن تبقى أسيرة الحرف والكلمة هي القادرة على الصناعة الاجتماعية وإشعال الوقود في محرّك الحراك لتحويل حركته ومظاهراته ونضاله المسلح وغير المسلح لحركة عصية على الاستغلال السياسي وقادرة على الإنتاج وتحريك الأشرعة بالاتجاه الصحيح.

الثقل الاجتماعي للساروت

    وظاهرة الساروت توضح أنّه بعد فشل الحراك السوري في تشكيل ذاته الجماعية وبناء كيانه السياسي الموازي للحراك الشعبي، يراد له الفشل في المحافظة على كيانه الاجتماعي والفكري والثقافي والديني، لتجنب حضور المتغيرات السابقة وتفعيلها خلال إعادة إعمار الذات السورية في الإطار الاجتماعي والثقافي ما بعد الحراك. وتتجلى أمارات الفشل بدقة في محاولات إنكار اللاوعي السوري العلاقة بين الساروت وأي أبعاد فكرية دينية أو ثقافية!، فسرعان ما سعى الحراك وعناوين الصحف الكبرى إلى سلخ عبد الباسط عن إطاره الثقافي وأفكاره الإسلامية البسيطة بشكل تعسفي وغير مبرر! فالبعض لم يستطع تجنب وتجاهل ثِقل الساروت وحضوره الاجتماعي المتزن، فتقصّد فصله عن إطاره الإسلامي بدافع عدم الاعتراف بالإسلام الاجتماعي كأحد مكونات البناء الثوري والنسيج الثقافي السوري الجديد، عامداً بسلوكه تجاهل هوية الساروت الإسلامية التي أوضحها علناً في أغانيه وسيرته، ما يبدوا أنّ هذا الفريق يخشى من إظهار الدين كأحد المكونات الحضارية البعيدة عن الصورة المعقدّة والداعشية التي نجحت السياسات المعادية بصبغ الإسلام بها منذ بداية الحراك السوري، وكان ذلك بهدف تغريب الكيانات السياسية السورية عن واقعها الاجتماعي بالتوازي مع تغريب الواقع الاجتماعي ما بعد الحراك عن الواقع الاجتماعي الأصيل ما قبل الحراك. وفريق آخر رغم علاقته الجيدة بالإسلام الاجتماعي الذي يعتقد به غير أنّه أنكر بعفوية علاقة نضال عبد الباسط بالإطار الثقافي الإسلامي، ويعزا سلوك الفريق الثاني إلى دروشته الفكرية وانهزامه الذاتي والثقافي واعتقاده بعقله اللاواعي أنّ الاعتراف بالدين كأحد مكونات الواقع الثقافي السوري تخلّف وأنّ الإسلام تهمة من الواجب تبرئة الرموز الشعبية منها، في حين أنّ الاعتراف بالدين كأحد مكونات الحراك الثقافي السوري واقع لا يمكنه تجاهله! وهكذا يُراد لعبد الباسط ساروت وغيره التحوّل لرمزٍ شعبيٍّ أخرسٍ خالٍ من السعرات الحرارية ويقتصر إحياؤه الاعتباري على تجييش الرأي العام السوري لصالح حراك سياسي يخالف فكر الساروت ربما أو تجييشه في حلقة مفرغة استنزافية لا معنى لها بأحسن الأحوال، وهكذا يكون إعادة بعث عبد الباسط اجتماعياً وثورياً وفكرياً لا يحتوي على أي سعرات فكرية قادرة على توجيه الحراك السوري وترميم الإطار الثقافي والفكري لذاتنا الثقافية ولصورة الإسلام الاجتماعي البسيط المراد إجهاضه بغية خلق هوّة بين الواقع الاجتماعي والبناء السياسي بقصد تغريب الحراك، فالأمر واضح بأنّ المستهدف سياسياً ليس الإسلام السياسي، كما يتراءى لنا ظاهراً، بل الهدف الأكبر هو إجهاض الإسلام الاجتماعي، أحد أهم المكونات الاجتماعية السورية، وذلك بتكتيكات سياسية مدروسة بغية الإجهاز عليه اجتماعياً وثقافياً وفكرياً في الوطن العربي

الهوة بين الحالة الثقافية والحراك الشعبي

     أخيراً ليس لصالح الواقع السوري تعزيز الهوّة بين الحالة الثقافية الفكرية والحراك الاجتماعي الشعبي، وإنّ عدم الخلط بين المثقف والحالة الفكرية وكذلك بين الدين ورجل الدين والتطبيق وأصل الشيء أمر في غاية الأهمية، فما لا ريب فيه أنّ الخطأ في التطبيق لا يعني عدم الصحة في المبدأ، وخيانة مثقف لفكره وانقلاب كاتب على قلمه  لا يبرر التعميم ولا التسويق لخلق عداوة مع الثقافة والفكر والتنظير والمرجعية النظرية  للحراك كحالة، فلا شكّ أن الحالة التنظيرية والفكرية هي الجناح الثاني لأي حراك شعبوي أو سياسي أو ثقافي، أمّا الطبقة الساروتية أي الشريحة الثقافة الكيفية التطبيقية والوعاء الواعي للحالة الثقافية هي الجناح الأول الأكثر تأثيراً في إنجاح الحراك، واستنبات هذه الشريحة في الواقع الاجتماعي العربي والسوري المثقف والشعبوي يجب أن يشكّل أولوية الحراك الثقافي والفكري، ولكن ذلك لا يكون إلّا بالتوازي مع خلق كيان منظّر وثقافي واعٍ موازٍ للحراك الشعبي والشريحة الساروتية في المجتمع السوري، فالمعركة السورية الأكبر اليوم هي المحافظة على واقع اجتماعي متجدد يقوم على أسس ثقافية وفكرية أصيلة بعيدة عن التغريب والباقي تفاصيل وتحصيل حاصل!.                         

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه