الروك السيساوي

من يسرق أرض مصر؟.. سؤال يعرف الجميع إجابته بمن فيهم “رئيس الطابونة”، فهل يستطيع السيسي (فعلاً) أن يواجه أمراء الإقطاعيات الحرام؟، أم أنه يسعى فقط لمصادرة الصغار، والحصول على مزيد من الموارد لإعادة توزيعها بما يرضي الحاشية المهيمنة؟

(1)

يثبت السيسي كل يوم أنه “سلطان مملوكي” هارب من العصور الوسطى، يرتدي نظارة شمسية وأزياء عصرية، لكن أفكاره ونزعاته وتطلعاته كلها أسيرة للتقاليد المملوكية في الحكم، والتي تتمثل في تدعيم سلطته بالمماليك الموالين، والإغداق عليهم، وعلى الجانب الآخر يسعى للتخلص من المنافسين ومصادرة أموالهم، وحلب الشعب لضمان الموارد اللازمة لهذه الالتزامات، بالإضافة إلى الموارد التقليدية للسلطة والتي تتمثل في ملكية الأرض أولا، ثم الضرائب والمغارم التي تفرضها السلطة على التجار والحرفيين والمزارعين، وكل من يقدر على الدفع.

(2)

كانت “الأرض” هي بطلة المشهد الهزلي الذي تداولته وسائل الإعلام أثناء افتتاح الرئيس و”جوقته” لبعض المشاريع “التنموية” في محافظة قنا جنوبي مصر، فقد صرخ أحد الحضور من أبناء قنا قائلا للرئيس المنتشي بمعجزاته: اللي المسؤولين بيقولوه لك غلط.. كلامهم مش صحيح.. وظلم لنا في المراشدة (قرية تابعة لمركز الوقف في قنا). كانت عبارات الحاج حمام عمر واضحة وقاطعة: المسؤولون يخدعون السيسي بمعلومات خاطئة، وبيانات على غير الحقيقة، تشير إلى كثير من الأوهام الرسمية في التعامل مع المشروعات التي يفتتحها السيسي على الورق والشاشات، بينما الواقع يغوص في الفقر والظلم والمحسوبية، فقد فضح الحاج حمام خدعة مشروع الريف الذي تم إسناده لشركات محلية ويابانية، وتحدث عن معاناة أهل قريته من الفقر برغم توفر مقومات الخير، وتحدث بوضوح عن جشع ما أسماهم “الأغنياء” وقال “لولا كذا وكذا…. كان الأغنيا موتونا”، واحنا تقدمنا للمهندس إبراهيم محلب أثناء زيارته بطلب للحصول على 5000 فدان، وماحصلش حاجة، ولا يتم تعيين أحد من أولادنا في المشاريع.. الصوامع دي كلها مافيهاش ولا واحد من أولادنا، ووزيرة التعاون رصدت 5 ملايين جنيه لحفر آبار للشباب، لكن الأموال راحت للشركة اليابانية”، ولم يهتم السيسي بكل هذه المخالفات والكوارث: لا الأغنيا الذين يقتلون، ولا وزير الإسكان الذي يكذب على الرئيس، ولا اضطهاد الفلاحين وعزلهم عن “مشروعات بوتيمكين الوهمية”، ولا كذب الحاشية وتقديمها لمعلومات مغلوطة، لكنه كعادته وعادة أسلافه، تصرف كسلطان يملك العطايا، وأنعم على “الرواشدة” بألف فدان في فرمان شفوي فوري مشفوع بمبرر أكثر غرابة، وهو أن القوات المسلحة ستدفع من جيبها ثمن الأرض وتكلفة تجهيزها!

(3)

في اللقاء نفسه الذي تبرع فيه “السلطان” فجأة بألف فدان، خارج أي خطة مسبقة، وبعيدا عن أي دراسات، تحدث السيسي عن ضرورة التشدد في استعادة أراضي الدولة من واضعي اليد، مستخدما تعبيراً جديدا يضاف إلى باقة تعبيراته التي سيحفظها له التاريخ وهو تعبير “مصر مش طابونة”، فبعد أن استمع إلى وجود أكثر من 100 ألف فدان تحت سيطرة واضعي اليد، اعترض غاضباً، كأنه يسمع هذه المعلومات لأول مرة، وكأنه يتلقى معلوماته عن البلد بالصدفة في المناسبات الإعلامية التي يحضرها، فقال: “احنا بنحاول نقنن”، لكن كلمة “نقنن” أزعجته فتنصل منها فورا مستدركا: “مش نقنن.. ننظم هذا العمل كدولة، ما يبقاش الموضوع بيتحرك بشكل مش علمي!! (وكأن قرار منح الألف فدان تم دراسته بشكل علمي!!)، ثم أضاف وهو يتوعد: بمنتهى القوة.. الأراضي دي ترجع بالكامل، الكلام ده مش هيبقى مقبول في مصر تاني خلاص.. إن حد يمد إيده ويقول لك الأراضي دي بتاعتي.. لأ مش بتاعتك.. دي بتاعة مصر.. مش بتاعتنا.. مش من حقي أديهالك.. “ماحدش ياخد حاجة مش بتاعته.. هي مش طابونة”.

(4)

الأرض لمن؟

سؤال خطير في تاريخ مصر، وقد زاد الاهتمام بالنظام الإقطاعي في الدولة الأيوبية حيث بدأ السلطان يوزع الإقطاعات الزراعية على كبار القادة، وعلى الجند، بدلا من الرواتب الشهرية، ومع تغير السلاطين تتغير نسبة التوزيع والملكية حسب الظروف السياسية والمالية، وهذا التغيير يستلزم القيام بمسح للأرض الزراعية لحصرها وتقدير درجة خصوبتها، وسميت هذه العملية باسم “الروك” والكلمة تعني على الأرجح “الحبل الذي كان يستخدم في قياس مساحة الأرض”، وكان اول روك في تاريخ مصر سنة 97هـ وقام به ابن رفاعة والي مصر في عهد الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك، ثم سنة 125 هـ  وقام به “ابن المدبر” عامل الخراج في خلافة المعتز العباسي، ثم “الروك الأفضلي” سنة 501 في عهد الخليفة الفاطمي الآمر ، ثم الروك الصلاحي نسبة للسلطان صلاح الدين الأيوبي سنة 572 هـ، لكن “الروك اتخذ طابعه السياسي، وارتبط بصراعات الحكم في عصر المماليك، وكان “الروك الحسامي” نسبة للسلطان حسام الدين لاجين 697هـ، هو الأشهر في انعكاساته على الحكم، حتى أنه أحد أسباب مقتل لاجين ونائبه الداهية الطماع منكوتمر، فقد تضمن الروك الحسامي بعض الإصلاحات ظاهرها تخفيف الضرائب عن أصحاب الأراضي غير المنتجة، ورد الأراضي المغتصبة من جانب البدو الذين لايدينون بالولاء للسلطنة، وباطنها الانتقام من الخصوم السياسيين ومصادرة ممتلكاتهم، ومكافأة الموالين وشراء دعمهم، وقد استمر أسلوب السيطرة على الأرض لصالح الحاكم وحاشيته خلال العصر العثماني، وحكم أسرة محمد علي، ومع النظام الجمهوري بدأت فكرة تمليك الفلاحين للأرض بعد أن كانوا مجرد مزارعين فيها، لكن “الروك الجمهوري” ظل معمولا به تحت مسمى “أرضي الدولة”، وهي معظم أرضي مصر ماعدا المساحات المملوكة للأشخاص، وفي العقودة الأخيرة عادت الإقطاعيات السلطانية بصور عدة، مع محاولة تقنينها، حيث امتلك “الأمراء الجدد” آلاف الأفدنة برضا وتسهيل من سلطان الفساد، مما شجع آخرين للسيطرة على الأرض خارج القانون، ومحاولة تقنين ذلك برشوة كهنة الجهاز البيروقراطي، حتى إن رئيس هيئة النيابة الإدارية محمد رزق، قد أكد في تصريح مخيف قال فيه: إن الاستيلاء على أراضي الدولة هو ثاني أكثر الجرائم التي يتم ارتكابها في مصر!، فهل يستطيع “الروك السيساوي” أن يواجه هذه الجريمة التي يتورط فيها معظم الكبار في نظامه، حتى إن طريق القاهرة الاسكندرية الصحراوي أصبح معروفا لدى عموم المصريين باسم “طريق مزارع اللواءات”؟!

(5)

قنبلة الإقطاعيات الجديدة، واحدة من الأسباب الخطيرة التي أدت إلى تفصيل قانون مخصوص تمت به إقالة المستشار جنينة من رئاسة الجهاز المركزي للمحاسبات، ولا أظن أن السيسي يجرؤ على فتح هذا الملف بجدية، لأنه يعرف مدى خطورة رد الفعل من جانب العصابات الرسمية المستفيدة، لذلك سيكتفي (كالعادة) بسياسة “الجباية من الصغار” التي بدأها منذ بداية حكمه، ولن يجدي غضبه التمثيلي أمام الميكروفونات في استعادة الدولة لأراضيها، خاصة وأنه أوكل تنفيذ “الروك” لمن يستولون على الأراضي في الواقع، علما بأن السيسي يزمجر ويرفع إصبعه مهددا لاستعادة 90 ألف فدان فقط، وهي نسبة ضئيلة من الأراضي المسروقة، ويكفي أن يعرف فخامته أننا نعرف أنه يعرف أن اللجنة التي شكلها قبل عامين أكدت في تقرير رسمي أن وادي النطرون وحدها بها 166 ألف فدان تحت سيطرة واضعي اليد من الكبار، فلماذا اقتصرت تصريحاته على هذه المساحة البسيطة، وما قيمة هذه المساحة في الاقتصاد، إذا نجح سعادته في الوفاء بوعده الذي صدعنا به طوال عامين عن استصلاح مليون ونصف مليون فدان؟!

عموما.. القضية كبيرة ومتشابكة، ويصعب الإلمام بها في مقال واحد، لذا قد يكون من المفيد أن نعود إليها بعرض أكثر تفصيلا في وقت لاحق.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه