“الرسوم المسيئة” وسيكولوجية ماكرون؟

كأنّ هذا الزمان هو زمان صعود الحمقى! وكأنّه قد قُدِّرَ أن تكون نهاية الحضارة المعاصرة على أيديهم؛ فكل واحد منهم يستدعي النهاية على طريقته، اختلفت الوسائل وتعددت الطرائق، بينما المنهج واحد: حماقة ممزوجة بالكبر والادعاء، وصدق القائل: “لكل داء دواء يستطب به … إلا الحماقة أعيت من يداويها”.

   لقد تملكني العجب عندما قرأت أنّ سبعة من رؤساء أمريكا كان عندهم هوس بفكرة نهاية العالم عبر معركة نووية تعتمد على نبوءة توراتية يسمونها “هرمغدون”، هذا الهوس كان صادرا عن عقيدة سيطرت على الشعب الأمريكي إلى حد أن كتاب “نهاية أعظم كرة أرضية” لـ “هول لندسي” قد بيع منه 18 مليون نسخة وظل على مدى سبعينيات القرن المنصرم على رأس الأكثر مبيعا من الكتب في أمريكا”([1]).

   غير أنّ العجب يبلغ منتهاه عندما نرى “ماكرون” يستدعي نهاية الحضارة على طريقة غاية في الشطط؛ إذ يُصِرُّ إِصْرار الْمُنْتَحِرِ الذي يمضي قدما حتى لا يقال إنّه تراجع في قراره، ويعلن في خطاب بدت فيه خِفَّةٌ غير خافية: “سوف نمضي قدما في الرسوم الساخرة ولو تراجع الآخرون” رغمّ أنّ الرسوم المسيئة تلك لم تبن على عقيدة أو فكر، وإنّما فقط على أحقاد وضغائن، ولا علاقة لها بحرية التعبير ولا بأيّ صورة من صور الحرية سواء منها الجديد المعاصر أو التليد الغابر.

      ألا يعلم هذا أنّه بكثرة النطح لا يكسر إلا قرنه! ألا من ناصح يقول له: إنّك بهذا الإسراف في إهانة رسول الله صلى الله عليه وسلم تستجيش في قلوب المسلمين ما لو جاش لما صمدت في وجهه حضارتكم بكل ما أُوتِيَتْ من آلات وتكنلوجيا واقتصاد وإعلام؟! ألا من عاقل يرده عن هذه الأفعال الصبيانية ويعلمه أنّ السلام وحسن التعايش ليس ضروريا للضعيف وحده وإنّما للقويّ بدرجة أكبر؟

خراب الديار

   لا ريب في أنّ العقلاء من الفرنسيين متشائمون ومنقبضون من هذه الحماقات التي يرتكبها رئيسهم، ولو أمكنهم ردعه لردعوه لمصلحة أنفسهم وبلادهم؛ لأنّه ينتهج سياسة “خراب الديار”، ولو أمكنهم أن يحولوا بينه وبين العودة إلى منصبه عبر الانتخابات القادمة لفعلوا؛ ولكن للأسف الجميع يعلم أنّ أمثال هؤلاء الموتورين صاروا الآن هم الأقرب إلى اجتياز الانتخابات، ولا عجب؛ فقد قيل في الغرب: إنّ “الطريق الملتوي يتمثل في صعود دكتاتوريات على أكتاف ديمقراطية وانتخابات صحيحة”([2])!!

   هذا الصعود لليمين المتطرف هو المنذر بخراب الديار، وقد رأينا كيف أَوْرَدَ “جورج دبليو بوش” بلاده موارد الهلاك بحقده الممزوج بالطيش؛ إذ كانت الحرب القذرة في العراق وما صاحبها وتلاها من تراجعات عن كثير من المبادئ التي قامت عليها الحضارة الغربية، كانت بمثابة رأس المنحدر الذي وضعت عليه أقوى إمبراطورية امتطت ظهر البسيطة؛ فكيف لو تولى كبرها رجل مثل “ماكرون” مع ما هو معروف عن العرق اللاتيني أنّه أكثر انفعالا ونزقا وطيشا من العرق الإنجلوسكسوني([3])؟!

   إنّ العصبية والعنصرية والأحقاد الصليبية والميل للعنف والدموية أمراض ملازمة لحكم اليمين المتطرف؛ وهذا هو الذي يدعو للتشاؤم، وقد تنبه كثير من مفكريهم وصاحوا فيهم: “إنّ مورثات العدوان الصليبيّ المنحرف، والمدعومة بالعلم والتقنية وأقوى النظم الاقتصادية والعسكرية التي شوهدت في أيّ وقت قد قوت الغرب بقوة شديدة وأدت في القرن التاسع عشر للهيمنة على العالم، وفي النصف الأول من القرن العشرين مزقت هذه المورثات المنحرفة الغرب تقريباً ومن ورائه العالم إلى أجزاء، وحين يُعاد توحيد مورثات التعصب المفرق مع الأصولية الدينية؛ فإنّ هذه المورثات تبقى تهديداً قوياً للغرب، لا من الخارج فقط بل من الداخل الذي يعتبر أكثر تهديداً”([4]).

   وإنّ هذه الظواهر المنحرفة التي تتخذ من حرية التعبير قناعا زائفا ليست سوى رغبة محمومة في تنفيث الأحقاد الصليبية، فحرية التعبير لا تعني قط الإساءة للأنبياء أو التعدي على الحرمات والمقدسات، ومن تعلل بالحرية لممارسة سخف كهذا فهو جاهل أو متجاهل لفلسفة الغرب نفسه وتعريفه للحرية وقيودها، فيكاد إجماعهم ينعقد على أنّ حرية الفرد تنتهي حيث تبدأ حقوق الآخرين، ومن حقّ كلّ إنسان أن تصان حرماته ولا تنتهك مقدساته.

   لقد كان من أوائل الذين قرروا مبدأ وضع القيود على الحرية المفكر والشاعر الفرنسيّ: “فولتير” الذي قال: “بأي معنى إذاً يجب أن ينطق الإنسان بعبارة (الإنسان حرّ)؟ بالمعنى ذاته الذي ينطق به كلمات: الصحة والقوة والسعادة، فالإنسان ليس قويا دائما، ولا صحيحاً دائماً ولا سعيداً دائما … فكلمة الحرية أو الإرادة الحرة كلمة مجردة عامّة، مثل الجمال والصلاح والعدالة، لا تقرر هذه المصطلحات أن كل الناس دائماً جميلون وصالحون وعادلون، وبالمثل فهم ليسوا دائماً أحرارا”([5]).

    وهذا “هنري برغسون” يحاول أن يقترب من الطبيعة البشرية وهو يتحدث عن الحرية؛ باعتبار الإنسان مخلوقاً مكوناً من مجموعة عناصر هي في جملتها تشكل الطبع العام للشخصية؛ فيقول: ” إنّ أطروحة الحرية يمكن التأكد من صحتها إذا ما قبلنا تحديد هذه الحرية بطبعٍ ما يميز القرار المتخذ وبالتالي من خلال الفعل الحر”([6])، بل إنّ “جون استيورت مِلْ” – وهو من أنصار الحرية شبه المطلقة – يقرر بصراحة: “فمن المعلوم أنّ المرء لا يجد قيمة للحياة إلا إذا قيدت أعمال الغير بدرجة ما؛ فينبغي إذاً  تعيين قواعد للسلوك يفرض اتباعها على الناس فرضاً، إمَّا بسطوة القانون وإمَّا بقوة الرأي العام حيثما لا يصح تدخل القانون، وتعيين هذه القواعد هو كبرى المسائل في شؤون البشر”([7]).

الحرية

   فالحرية المطلقة لا وجود لها في فلسفة ولا فكر ولا قانون ولا سلوك إنسانيّ سَوِيّ، يقول أحد فلاسفة الغرب الحرّ (ليبنتر): “وحده الله حر تماما، أما المخلوقات العاقلة فهي ليست حرة إلا من حيث أنها تتحكم في الأهواء”([8])، ومن قبله قال (أوجست كونت): “الحرية الحقيقية توجد في كل مكان ملازمة وخاضعة للنظام … إن أحسن حرية تكمن فينا هي عندما نعمل ما في وسعنا لكي تتغلب الميولات الحسنة على الميولات السيئة”([9]).

    فالدوافع إذن ليست سوية ولا علاقة لها بالحريات ولا بحقوق الإنسان، بل هي وثيقة الصلة بالحقد الصليبي الذي يحمله اليمين المتطرف الصاعد بقوة في الغرب الآن، فعلى المسلمين أن يستمروا في إحتجاجاتهم ومقاطعتهم للمنتجات الفرنسية حتى يتعلم هؤلاء الحمقى أنّ هذه الأمة تستطيع أن تفعل الكثير دون التعويل على حكامها الذين غرستهم فرنسا وانجلترا وأمريكا في ضلوع الأمة، والله وحده هو المستعان على الظالمين المتجاوزين لكل الحدود.

 


([1]) راجع: النبوءة والسياسة – غريس هالسل – ترجمة محمد السماك – دار الشروق – القاهرة – ط ثانية 2003م – صــــ 18

([2])  مستقبل الحرية (الديمقراطية الضيقة الآفاق في الداخل والخارج) – فريد زكريا – ت فادي أديب – ط أولى – دار مجالات – بيروت – صـ66-69

([3])  راجع: سيكولوجية الجماهير – غوستاف لوبون – ترجمة هاشم صالح – دار الساقي – ط أولى 1991م صـــــ 66

([4])  انتحار الغرب – ريتشارد كوك ، كريس سميث – ترجمة محمد محمود التوبة – ط أولى 2009م العبيكان السعودية صــــــ 88-89

([5]) قاموس فولتير الفلسفيّ – فولتير – ترجمة يوسف نبيل – مؤسسة هنداوي (C.I.C) – المملكة المتحدة – بدون تاريخ – صــــ146

([6])  هنري برغسون 1889م وغاليمار لا بلياد 1991م نقلا عن: الحرية – إعداد وترجمة: محمد الهلالي وعزيز لزرق – عدد 16 من سلسلة دفاتر فلسفية – دار توبقال للنشر – الدار البيضاء – المغرب – ط أولى 2009م – صـــــ21-22

(7)  الحرية – جون ستيوارت مل – ترجمة طه السباعي –  مطبعة الشعب – مصر – ط أولى 1922م – صـــــ 24-25

(8) الحرية – ترجمة: محمد الهلالي وعزيز لزرق – عدد 16 من سلسلة دفاتر فلسفية – دار توبقال للنشر – الدار البيضاء – ط 2009م – صـــــ11-12

(9) راجع: الحرية – مرجع سابق صـــــ11-12

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه