الرحالة محمد ثابت الذي علّمنا أدب الرحلات

يتناول الرحالة الأستاذ محمد ثابت في دقة وجرأة عددا كبيرا من العادات والظواهر المريضة في المجتمعات التي زارها، وعلى سبيل المثال فإنه استعرض ظاهرة انتشار عقم النساء نتيجة لهذه الممار

 

 

كان الرحالة الأستاذ محمد ثابت ولا يزال نموذجا فذا للشخصية الحضارية النبيلة التي قدمت لوطنها العربي أفضل الخدمات المعرفية في عطاء نادر ومتصل، وعلى الرغم من أننا الآن نستمتع باللجوء إلى محركات البحث فقد كان هذا الرجل ممن استشرفوا هذه الحاجة المعرفية منذ زمن مبكر، ولو أن محركات البحث باللغة العربية التزمت بمنطق المعرفة القديمة لكان اسمه في مقدمة الأسماء المرجعية ، ومع هذا فإننا وقد أوشك العقد الثاني من القرن العشرين على نهايته لا نزال نعرف فضله ، ونقدر دوره ،  ونرى أنه كان بمثابة أبرز أعلام الجيل الأول من كتاب الرحلة العرب المحدثين،  قبل أن تنال الأجيال التالية له حظها من الشهرة والتكريم .

على سبيل الإجمال يمكن القول بأن كتاباته في الرحلات كانت مشبعة بالروح الجغرافية التي تنظر بتأمل معرفي  ووجداني إلي تجربة الارتحال في المكان ، وتعبر عن هذا الارتحال بطريقة مدرسية تجمع بين الجغرافيا والتاريخ السياسي ودراسة السلوك الاجتماعي على نحو تفصيلي ودقيق ، بعيدا عن الصياغات الدرامية أو الخطابية ،  ومن واجبنا أن نقول إنه سبق جيله و الأجيال التالية إلى كثير من الإنجازات و الفضائل ، ومع هذا ومن باب إعطاء الحقوق لأصحابها فمن المفيد أن نفرق بينه وبين بعض من كتبوا في الرحلات من بعده ، فقد كتب الدكتور حسين فوزي وهو من اللاحقين به سلسلة الكتب التي حملت عناوين السندباديات  معبرا عن رؤيته للتاريخ القومي من خلال الارتحال في طبقات الزمن ، ثم كتب الأستاذ أنيس منصور الرحلة في كتابه الأشهر وما تلاه من تجليات شبيهة به بأسلوب صحفي لا يخلو من الارتحال الوجودي، وهي المدرسة التي انتشرت ثمراتها بجهد الكتاب الصحفيين  حتى تكاد تستغرق ما هو منشور في اللغة العربية من كتب هذا الأدب ، ثم قدر لكاتب هذه السطور في مجموعة كتب الرحلات السبعة التي نشرها أن يعنى بالتركيز على صناعة الحضارة  ومؤسساتها و تشابكاتها مع الحياة المعاصرة بأكثر من وصف الطبيعة .

تخرج الرحالة الأستاذ محمد ثابت في مدرس المعلمين العليا  في عصرها الذهبي ، وعمل بالتدريس في بعض المدارس الثانوية، و عين مراقبا للنشاط الاجتماعي في وزارة التربية كما شغل منصب عميد معهد المعلمين الابتدائي في الزيتون ،  ثم اختير لتدريس المواد الاجتماعية في كلية النصر بالمعادي (من ضواحي القاهرة). وأصيب وهو يحاضر تلاميذه فيها بنزيف في المخ توفي على إثره.

كان الرحالة الأستاذ محمد ثابت قد عوّد نفسه أن يقوم في عطلة الصيف من كل سنة برحلة يدون مشاهداته فيها، ويقدمها للقراء في صورة محببة  وبطريقة تربوية معلمة ،  و مع هذا الجهد فإنه  لم يلق حتى الآن ما  كان يستحقه من التقدير الأدبي والنقدي و الرسمي.

و قد كدت أنشر بابا مفصلا عنه في كتابي النجوم اللامعة في تاريخنا المعاصر الذي نشر في ٢٠١٥  بيد أني راجعت نفسي يومها و ليتني ما راجعتها فقد توقف نشر كثير من أعمالي لأسباب قاهرة نرجو الله بفضله وكرمه أن تضع أوزارها عن قريب .

يكتب الرحلات من أجل التربية بمعناها الواسع

 إذا أردت أن ألخص منهج الرحالة الأستاذ محمد ثابت في كتابة الرحلات فإني أقول إنه كان يكتب الرحلات بالاستذكار من أجل الاستبصار والاعتبار أي أنه كان يكتب الرحلات من أجل التربية بمعناها الواسع.

 وقد سجل الأستاذ محمد ثابت في مقدمة الطبعة الأولي من كتابه «جولة في ربوع آسيا بين مصر واليابان» ما يدل علي سعادته بالنجاح الذي حققه كتابه «جولة في ربوع أوروبا» معبرا عن أمله في أن ينجح من خلال كتابه عن آسيا في إتاحة الفرصة لتفهم تلك الشعوب التي تربطنا بها روابط عريقة توثقها العاطفة، ثم قال: «وإني لأصورها هنا كما رأتها عين مصرية شرقية غير مغرضة، لا تبتغي من وراء ذلك إلا النفع»، وهكذا عبر عن غايته النبيلة فيما كان يكتب.

وقد عبر محمد ثابت عن هدفه الوطني والتعليمي من سلسلة كتبه (واضعا أسباب ومظاهر التقدم الياباني المبهر نصب عينيه، ومتخوفا من وضع الصين «البائس» على نحو ما كانت الأمور في ذلك الوقت) فقال:

«… ولقد حاولت جهدي استقراء عناصر نهوضها وقعودها علنا نستنير بطرائقها الموفقة فنهتدي، وعسانا نعتبر بما أصابها، فنأمن العثار الذي يتهدد الأمم في فجر نهوضها، وطور انتقالها، ونحن أحوج ما نكون للمثل العليا نترسم خطاها، ولنا في اليابان أسوة حسنة، فلنسلك نهجها، ولنا في الصين وما يحوط نهوضها من قذي وشباك أكبر العبر، سدد الله خطانا، وهدي الوطن وأبناءه سبيلا رشدا»

وقد زاد الرحالة الأستاذ محمد ثابت هذا المعني توضيحا وجلاء في مقدمته للطبعة الثانية من كتبه:

«لقد كان رغبتي الأكيدة يوم بدأت جولاتي في ربوع الدنيا، أن أدرس شعوب العالم، وأتدسس إلى الصميم من حياتهم، لأخلص إلي ما يسود بينهم من الأخلاق والعادات، وقد كنت أصدر عقب كل جولة كتابا يضم مشاهداتي عن البلاد التي زرتها».

«وكم كان سروري عظيما أن تهافت أبنائي البررة، وزملائي الكرام على اقتناء هذه «الجولات»، حتى نفذت الطبعة الأولي، وها أنا ذا أحقق اليوم رجاء الكثيرين ممن لم تسعد «جولاتي» بشرف اقتنائهم لها، فأقدم الطبعة الثانية، بعد أن أعملت فيها يد التهذيب، وأضفت إليها من مذكراتي بعض ما كنت قد أغفلت نشره في الطبعة الأولي».

يعتبر الرحلات مرحلة متقدمة من دراسة الجغرافيا و السياسة

ومن الطريف أن الرحالة الأستاذ محمد ثابت كان يري في الرحلات مرحلة متقدمة من دراسة الجغرافيا، ولم يكن واعيا بالدرجة الكافية إلى أنه بما يؤلفه ويقدمه يرسي أساس مدرسة عظيمة في ميدان معرفي وثقافي وأدبي كبير لا يقل أهمية عن الجغرافيا التقليدية، وهو يقول في هذا المعني:

«… وإني لسعيد إذ أري مصر تسمو بدراسة الجغرافيا إلى العناية بوصف الشعوب وحياة الإنسان، تلك الناحية التي قصدت إليها جولاتي هذه».

«ولقد زادني غبطة ما لاحظت من أن كثيرا من الإخوان تتجه عنايتهم إلى الرحلات، حتى لقد تحدث إلي في ذلك غير قليل من حضراتهم، ولعلهم يحرصون على تدوين مذكرات ينشرونها بعد عودتهم، حتي نستطيع بجولاتهم وجولاتي أن نزف إلي أبناء هذا الوطن العزيز، بلغته العربية «كتاب الدنيا» يطالعون فيه أحوال شعوب تقدمت ركب الأمم، وأخري تخلفت، وعسي يكون لنا من هذه أحسن العبر، ومن تلك أجمل الأثر».

و الحق أن تجليات الرحالة الأستاذ محمد ثابت (في كل كتبه وفصولها) كانت حريصة كل الحرص علي كل عناصر الجغرافيا السياسية بصورة واضحة، وكان واضحا أيضا عشقه للتاريخ بمعناه الواسع، وهو ما تنبئ عنه المقدمات الطويلة التي كان يكتبها عن تاريخ كل دولة يمر بها، وكان يجيد هذه الكتابة الوافية الشافية بصورة ملحوظة، وهي إجادة لا تتأتي إلا للمدرسين الذين تعودوا التجويد من خلال تكرار ما يقدمونه من معلومات، وعلي سبيل المثال فإننا نراه يلخص تاريخ الهند كله في فقرات قصيرة يبدأها بجملتين تمثل كل منهما غاية التركيز، كما تمثل مفتاحا لما يليها من حديث:

«قصة الهند سلسلة من غارات شنتها أقوام متعاقبون وفدوا من الشمال الغربي، وبخاصة عن طريق ممر خيبر، وأخضعوا البلاد لسلطانهم».

«ويتخلص تاريخ الهند في عصور ثلاثة: عصر الهندوس بين 2000ق.م و1000م، والعصر الإسلامي بين سنة 1000 و1757، وعصر سيادة الأوروبيين ويبدأ من سنة 1757».

 يجيد تقديم التاريخ السياسي

كان الرحالة الأستاذ محمد ثابت يجيد تقديم التاريخ السياسي ، ونحن نري فيما يقدمه كل ما هو ممكن من ذكاء العرض التاريخي المفعم بروح الوطنية وتوجهاتها .

وعلى سبيل المثال فإن هذا المعنى واضح كل  الوضوح فيما قدم به الرحالة الأستاذ محمد ثابت  مراحل التاريخ السياسي لمدينة عدن واحتلالها وظروف هذا الاحتلال القائم علي فكرة التربص واستغلال القوة:

«احتلها الإنجليز سنة 1837 ولاحتلالها قصة عجيبة: ذلك أن سفينة إنجليزية تحطمت علي صخور عدن فأساء أهلها معاملة مَنْ نجوا منها، فأعقب ذلك أن طلبت الحكومة البريطانية شيئا من الترضية والتعويض من السلطان فأجيبت مطالبها، لكن السلطان قد مات وخلفه ابنه الذي لم يبر بوعد أبيه، فلجأ الإنجليز إلي القوة وفتحوها عنوة ووضعوا فيها حامية صغيرة، وزادت أهميتها بعد فتح سكة حديد السويس سنة 1858، ولما فتحت قناة السويس سنة 1869 أصبحت محطة عسكرية مهمة، إذ عدت مفتاح البحر الأحمر خصوصا بعدما سارعت إنجلترا إلي احتلال جزيرة (برم) وسط بوغاز باب المندب، وكانت فرنسا تتطلع إليها من قبل، وأعقب ذلك احتلال الصومال البريطاني قبالتها، لأنه المورد الرئيسي الذي منه تستمد عدن وبرم الصخريتان المجدبتان حاجتهما من الغذاء».

نبدأ بأن نعرض قائمة موجزة  لكتب الرحالة الأستاذ محمد ثابت :

  • جولة في ربوع أوروبا.. بين مصر وأيسلندا،

 عن طرائف المدنية الأوروبية ومشاهدها ونظمها الاجتماعية.

  • جولة في ربوع آسيا.. بين مصر واليابان،

 عن بدائع الشرق الأقصى ومدهشاته (اليابان والصين والهند.. إلخ).

  • جولة في ربوع إفريقية.. بين مصر ورأس الرجاء الصالح،

عن عجائب القارة الغامضة وغابات جوفها وأسرار همجها وأخطار وحوشها.

  • جولة في ربوع الشرق الأدنى.. بين مصر وأفغانستان،

عن مميزات بلاد إيران والعراق والأفغان والأناضول والشام.

  • جولة في ربوع الدنيا الجديدة بين مصر والأميركتين

عن مدهشات الدنيا الجديدة ونفائس بلاد المغرب والأندلس.

  • الموجز في الجغرافيا الإقليمية، مدرسي.
  • جولة في ربوع الدنيا الجديدة.
  • رحلاتي في مشارق الأرض ومغاربها.
  • العالم الديمقراطي كما رأيته.
  • العالم العربي كما رأيته.
  • نساء العالم كما رأيتهن.
  • دنيا الجنس اللطيف.
ثناء عميد الجغرافيين المبكر على جهده

في عدد من أوائل أعداد مجلة الرسالة هو العدد السابع (١٩٣٣) كتب أستاذ الجغرافيا العلامة الدكتور محمد عوض محمد ( وزير المعارف وعضو مجمع اللغة العربية فيما بعد ) يثني على الأستاذ محمد ثابت و رحلاته و ينقد  كتابه “جولة في ربوع أفريقية” ، وافتتح الدكتور محمد عوض محمد  مقاله القيم بقوله:

” ليس من السهل أن نجد في هذا القطر كله لمحمد ثابت ضريبا ولا شبيها في حبه للرحلات البعيدة، وفي التضحية بوقت نفيس وبمال أنفس، في سبيل إرضاء هذه الرغبة السامية، التي تدفعه في كل صيف إلى أطراف العالم، لكي يرى بعينيه تلك الأقطار البعيدة التي طالما سمع عنها وتاقت نفسه لمشاهدتها. . وأي امرئ لا يملك الإعجاب الشديد حين يرى محمد ثابت ينفق من ماله القليل الذي اذخره بكثير من حرمان النفس، ينفق عشرين جنيها كاملة من أجل رحلة بالسيارة من (كمبالا) على بحيرة فكتوريا إلى (فورت بورتال) على سفح رونزوري (مسافة لا تزيد كثيرا على ما بين القاهرة والإسكندرية) لكي يمتع الطرف بالتأمل في تلك الجبال الشامخة ساعات قلائل، وقد اختفت قللها تحت غشاء كثيف من السحاب والضباب. ثم يعود أدراجه إلى كمبالا لكي يستأنف سياحته الطويلة.”

ويؤكد العلامة الدكتور محمد عوض محمد على هذا المعنى فيقول:

” وفي المصريين كثير ممن ينزحون عن قطرنا صيفا. . . ولكن هؤلاء لهم شأن غير شأن صديقنا ثابت، وقصة غير قصته. فهؤلاء قبلتهم إما فيشي أو كارلسباد يتداوون بمائها الشافي بما أنزلوه بأجسامهم من نتائج الإفراط أو التفريط. أو قبلتهم باريس حيث يحيون حياتهم في القاهرة، يجلسون النهار كله وشطرا من الليل في مقاهي مدينة النور (وهم لا يرون من نورها شيئا) يقضون وقتهم قعودا كسالى يتحدثون وهم في ميدان الأوبرا بذلك الصوت المصري الجهوري فيسمعهم جميع من بالبوليفارد، يعلنون عن أنفسهم، وما في أنفسهم شيء يستحق الإعلان، ومنهم من هو شر من هذا. . وأي شر؟ ولكن مالي أكدر نفسي بالكلام عن هؤلاء وأنا أريد أن ينشرح صدري بالكلام عن محمد ثابت؟

” منذ ثلاثة أعوام جال محمد ثابت في ربوع أوربا، فلم يزل ينتقل من قطر إلى قطر حتى بلغ جزيرة أيسلندا وكان من الدائرة القطبية قاب قوسين أو أدنى. . . وفي الصيف التالي يمم شطر المشرق وجال في بلاد الهند والصين واليابان؛ وفي الصيف الماضي حملته السفينة باسم الله مجراها ومرساها إلى شرق أفريقية وجنوبها. فاخترق خط الاستواء للمرة الأولى (إذ لا أظنه اجتازه في جولته الآسيوية) ثم عاد إلى مصر بطريق البر والنهر (نهر النيل) مجتازا بلاد كينيا وأوغندة والسودان المصري” .

بيد أن الدكتور محمد عوض محمد كان حريصا على أن ينتقد الأستاذ محمد ثابت في أن تصل عنايته بالمعلومات إلى أكثر من عنايته بالانطباعات والتجربة، وهو يقول في هذا المعنى :

” وإني ليحزنني أن إعجابي الذي لا حد له بالرحالة محمد ثابت لا ينصرف إلى الكتاب الذي بين يدي الآن (جولة في ربوع أفريقية) فإن شخصية المؤلف لم تنصف شخصية الرحالة. ولم تقم بالواجب نحوها. فتحت (جولة في ربوع أفريقية) وأنا أتوقع أن أطالع كتابا يصف لي رحلة المؤلف وحركاته وسكناته بدقة، ويصور لي كل شيء رآه، وما مر به من الحوادث. لكي أشعر أنني معه ألازمه في رحلته أسافر كما يسافر وأرى ما يرى. وهذه هي اللذة الخاصة التي أجدها في مطالعة كتب الرحلات. لكن محمد ثابت لم يفعل هذا بل أخرج لنا كتابا يتضمن بيانات (لا أنكر أن أكثرها نافع مفيد) عن جغرافية شرق أفريقية، وقد ضاع حديث الرحلة بين الفصول الجغرافية كما تضيع قطع الذهب وسط أكوام من التراب فكنت أجده لأقل المناسبات يترك موضوع الرحلة تماما، ويأخذ في كتابة فصل جغرافي في شيء من الإسهاب، ولكنه خارج عن موضوع الرحلة. ففي صفحة 76 بيان طويل عن السكر وزراعته لا في أفريقية وحدها بل وفي غيرها من الأقطار، ويتكلم في صفحة 56 و57 عن بلاد روديسيا والكنغو مع أنه لم يرهما ولم يمر بهما، ويكتب فصلا طويلا عن جبل كلمنجارو مع أنه رآه عن بعد مائة كيلو متر، وفصلا عن تاريخ أوغندة أو عن نقل السفن إلى بحيرات فكتوريا منذ عشرات من السنين. وبيانا عن الكركدن ولم يره، …….. “.

و يوجه الدكتور محمد عوض محمد عتابه ونصحه للأستاذ محمد ثابت فيقول .

” وإني أريد أن أذكر لصديقنا الفاضل أن أمامنا كتبا كثيرة نستخلص منها تاريخ أفريقية وجغرافيتها !. ولكن الذي بنا إليه شغف شديد، والذي يستطيع هو وحده أن يعطينا إياه، هو كتاب عن رحلة محمد ثابت. ولهذا كان أمتع فصول الكاتب على الإطلاق هو ذلك الجزء الذي يصف لنا فيه كيف منع من دخول جنوب أفريقية، وكيف جنت عليه مصريته في تلك الأقطار النائية. هذا الفصل للقارئ هو بمثابة الجوهرة وسط الأحجار.

ثم يقدم  الدكتور محمد عوض محمد حلا عمليا جميلا يقترحه على الأستاذ محمد ثابت فيقول :

” ويخيل إلي أن محمد ثابت لم يكن يكتب مذكرات (يومية) أثناء رحلته. ولو فعل لكان لديه محصول وافر يغنيه عن تلك الفصول الجغرافية. وإنك لتقرأ الكتاب فلا تستطيع أن تستبين منه تفاصيل حركات السائح. فقد دخل (نيروبي) ولكنه لا يذكر لنا في أي تاريخ نزل بها. وبات ليلة في (ناكورو) فلا يخبرنا أين بات. ويمر بأوغندة ويقضي بها أياما، ولكنك لا تعرف متى دخلها ومتى خرج منها. ولست أستطيع أن أعزو هذا الإغفال إلا لشيء واحد هو أنه لم يكتب مذكرات يومية أثناء السياحة. ولهذا أرجو منه في سياحته المقبلة ألا ينام ليلة قبل أن يدون مشاهدات يومه. وسيرى القراء الفرق بين الكتاب الجديد والقديم.

عادات الشعوب و تقاليدها الغريبة

كان الرحالة الأستاذ محمد ثابت في كتبه ورحلاته مهتما بالعادات والتقاليد الاجتماعية التي تختلف بالطبع من شعب إلي شعب، وقد تميزت كتاباته عنها بالدقة في وصفها مع إيجاز دال علي الحقيقة، وخذ مثلا علي ذلك وصفه لنظام الزواج المبكر جدا في مدينة مدراس الهندية وآثاره السيئة، بل الفظيعة علي نسل الأمة وصحتها:

«… ومما أثار اهتمامي الزوجات الصغيرات اللاتي كن يحملن أطفالا نحالا لا يزيد وزن الواحد علي أربعة أرطال أو خمسة، وكنت أخالهن يحملن إخوتهن لا أبناءهن، لكني دهشت لما علمت أن زواج البنت يبدأ من سن الثامنة، فإن أخرت إلي الثانية عشرة عد بقاؤها عارا لا يمحي، ودل علي وجود عيب فيها، ولذلك لم يكن عجيبا ما يبدو من جسمها الضئيل، وبنيتها الضعيفة لصغر سنها، ولأنها من سلالة ضعيفة مثلها، أما الزوج فقد يكون طفلا مثلها، وقد يكون كهلا أنهكت السنون قواه، وفي الحالين هو غير صالح إلا لإنتاج نسل بائس ضعيف، وهم الزوجين أن يخلفوا من الأبناء ما استطاعوا، وبخاصة الذكور، فإن الأم لا تجد لها حديثا أمام أطفالها إلا ما يتعلق بالزواج فتنشط بذلك الميول الجنسية بين الأطفال، وتفسد أخلاقهم عاجلا، وهذا يخلف أثره السيء في قوي النشء العقلية والجسمية، والزواج المبكر عند الهندوس واجب لأن فيه عصمة من الأمراض، وتعجيلا بالخلف من الذكور، ذاك الذي يعده الآباء شرف العائلة، وقد نسي القوم الأثر السيء لذلك في إضعاف الذرية، وإنهاك القوي الحيوية، لذلك ليس بعجيب أن تري الهندي فاقدا لتلك القوي عند بلوغه الثلاثين كما أثبت الإحصاء الطبي ذلك، لهذا لجأ الكل إلي تناول سموم المخدرات (خصوصا الحشيش والأفيون) والمقويات التي يعلن عنها في جميع جرائدهم بشكل فاضح مخجل، حتي إن الحكومة كثيرا ما تصادر بعض الجرائد لجرأتها علي هذا النوع من الإعلان، وكثيرا ما كنت أري من المدمنين علي تناول الأفيون والحشيش يركنون إلي الجدران في كل مكان بشكل قذر خامل وكأنهم الذباب».

أما وصف الرحالة الأستاذ محمد ثابت لعجائب الرحلات والشعوب فيتسم بالدقة دون تهويل أو فبركة، وهو يصوغ وصفه بلغة صادقة ودقيقة ورصينة في الوقت ذاته، مع حرص علي كل مميزات الأساليب الكتابية في عصره من قبيل التمسك بالإيقاع الجميل للنص، واللجوء إلي المترادفات من أجل بيان المعني، وانظر علي سبيل المثال إلي وصفه لجزيرة سرنديب :

«… وفي باكورة اليوم الثاني عشر من مغادرتنا بورسعيد تجلت كولمبو بمينائها الكبير، وقصورها السامقة في أحيائها الافرنجي، وما أن بدت طلائع الحي الوطني، وهو غالب المدينة، حتى راعنا منظر الناس البشع في مظهرهم القذر، وجسومهم العارية، وألوانهم الشاحبة، ونظرتهم المخيفة فهم يترامون حولك كالدويبات لا تدري من أين يفدون في جماهير لا حصر لها، فكأنهم يحشرون إليك حشرا في فقر مدقع، وبؤس مبيد، يمسكون بتلابيبك ملحفين جميعا في طلب معونتك المادية».

«ويزيد منظرهم قبحا أفواههم المفتحة وكأنهم البلهاء يمضغون عشبا أخضر يباع في كل مكان، وبمجرد ملامسته للعاب يبدو وكأنه الدم يلوث أفواههم، ولا ينفكون يمضغونه أينما كانوا، وهم يعتقدون أنه مصلح للأسنان، ومسكن للأوجاع، ومكسب للمناعة ضد المرض بين أفراد شعب غذاؤه نباتي شحيح، وشجره يسمي بيتل مقدس لديهم، لذلك فهم يلفون في ورقه النقود والقرابين التي يقدمونها للآلهة منذ القدم، وعند مضغه يضعون داخل الورقة الخضراء فتات بندق اسمه (أريكا)، وفتات الجير من أصداف البحر أو المرجان، وتري حتي النساء والأطفال دائبين علي مضغه علي مرأي تعافه الأعين، وتشمئز منه النفوس».

«طال تجوالي في تلك الأحياء وأنا أركب الركشا، وهي المطية الرئيسية هناك، أشبه بعربة صغيرة من عجلتين يجرها رجل بائس كنت أشعر بالألم الشديد من أجله وهو يجري في ذلك الحر القائظ وكأنه الدابة المجهدة».

«زرت هناك معبدين أحدهما بوذا أكبر آلهة الجزيرة، إذ يدين به غالب السكان، وفي تماثيل لبوذا في أحجام كبيرة، وتزين الجدران صورة نعرف منها قصة بوذا منذ كان شخصا عاديا فأضحي أميرا ثم صعد إلي السماء فأصبح إلها، وعند دخولنا تقدم إلينا بعض القسس بزهور الفل والياسمين ملأنا منها سلة صغيرة دفعنا ثمنها وحملناها إلي قدمي الإله حيث أخذنا ننثرها كما يفعل القسيس الذي كان يرش بين آونة وأخري جانبا من ماء الورد يعطر به المكان».

«أما المعبد الثاني فهندوسي نظرنا إليه من الخارج إذ لا يباح للأنجاس من الغرباء عن الدين أمثالنا أن يطأوا داخله رغم ما كان يلوثه من أقذار، ويحوطه في الخارج من زرافات المتسولين والفقراء والعراة في أشكالهم القذرة المنفرة».

«وخير ما نراه في الأحياء النظيفة من المدينة صخرة لافينيا التي تشرف علي البحر بتقوسات جذابة، يحفها نخيل النرجيل، ويتوجها نزل فاخر تناولت فيه الشاي ذائع الصيت، وبعد ذلك قصدت إلى حديقة النبات التي نسقت أيما تنسيق تزينها الفصائل الوفيرة لنبات المناطق الحارة».

عقم النساء في الهند

يتناول الرحالة الأستاذ محمد ثابت في دقة وجرأة عددا كبيرا من العادات والظواهر المريضة في المجتمعات التي زارها ، وعلى سبيل المثال فإنه  استعرض ظاهرة انتشارعقم النساء نتيجة لهذه الممارسات الخاطئة، كما يتحدث عن نشأة الأخلاق السيئة في ظل تقاليد سقيمة، وهو يروي هذا من دون أن يورط نفسه في اتخاذ صورة الحكم القاسي علي ما يراه فاسدا، مكتفيا بالتصوير الذكي الكفيل بالوصول إلي هذا الحكم:

“… وكثير من النساء هناك عقيمات، وقد أيد البحث أن ذلك راجع إلي ضعف قوي الرجال من جهة، وإلي تشويه الرحم من أثر الزواج المبكر من جهة أخري، وكثيرا ما يلجأ الرجال إلي المعابد فيرسلون إليها زوجاتهم بالقرابين كي يمن الله عليهم بالحمل، وفي العادة تظل المرأة هناك أياما فينوب القسيس عن الآلهة ليلا فيبارك المرأة وتعود وهي حامل، ولعل أسوأ نتائج هذا الزواج المبكر تقصير العمر، خصوصا بين النساء، وكثرة الموتى من الأطفال، فمتوسط العمر في بلاد الهند 23 سنة، ويموت من الزوجات في كل جيل 25.3 مليون، تسعون في المائة منهن بسبب التهاب الرحم».

«ومن العادات العجيبة أن الآباء قد يهبون المولود القادم للآلهة ابتغاء مرضاتها، فإذا كانت أنثي سلمت لنساء المعبد، وإذا شبت تعلمت النساء والرقص، وإذا ناهزت الثامنة أضحت خليلة أحد القسس، وإذا ملها أضحت راقصة المعبد، وفي مواسم الحج يستأجرها بعض الحجاج فإذا ما ذبلت محاسنها يمنحها المعبد جعلا صغيرا وتترك المعبد ولا يري أهلها في ذلك معرة، لأنها اكتسبت اسم (عاهرة الآلهة)، وهؤلاء من مستلزمات المعابد كلها».

«ويوصي الدين البرهمي بأن الزوج إله الزوجة في الأرض، خلقت لسروره، وخضعت له مهما فسد جسمه أو خلقه أو عقله، ولابد أن تطيع حماتها، ويا  ويلها إن لم تعقب طفلا أو عقبت أنثي، فلها أن تستعبدها عندئذ، لذلك كان عدد المنتحرات بين سن 14 و19 مروعا، وإذا مات زوجها حتم الدين أن تحرق جثتها معه، وإلا كانت موضع اللعنات، ولم يبح لها شيء من السرور، ولا تتزوج ثانية، بل تحلق رأسها وتقصد أحد المعابد لتظل فيه أيامها الباقية، ويجب ألا تظهر كثيرا أمام الناس لكيلا يؤثر فيهم نحس طالعها…».

ويصف الرحالة الأستاذ محمد ثابت مظاهر البؤس الذي تتعرض له الحوامل عندما يشارفن مرحلة الولادة، وهو وصف دقيق وإن كان مؤلما:

«وبمجرد شعور الحامل بألم الوضع تنبذ في غرفة ضيقة مظلمة، ولا يقترب أحد منها قط لأنها أصبحت نجسة، وفي الحال تأتي المولدة (داية) وهي من الطبقات النجسة البائسة، فترتدي أقذر أسمالها، وتسد المنافذ، وتحرق الحطب لأن الدخان والحرارة تساعد علي سرعة الوضع، وإذا دخل الحجرة غريب أحرقت بخورا منتن الرائحة لمنع أثر العين الخبيثة، وتباشر عمليتها بأيديها القذرة، وتحاول إخراج المولود بالقوة، فتشبع بطن الأم لكما بالأيدي والرأس، وقد تطرحها أرضا وتمشي علي بطنها وتضع في الرحم كرات من مواد حريفة، وقطعا من شعر الماعز، وأذناب العقارب، وجلود الأفاعي ما إليها، وإذا تم الوضع لا تجرؤ المولدة أن تقطع الحبل السري لأنه من عمل امرأة أخري أحط درجة من المولدة، فتنتظرها حتي تجيء، أما الطعام فيمنع بتاتا عن الأم بين أربعة أيام وسبعة، ويظهر أن السبب الأصلي ألا تصاب أواني المنزل برجس».

«وكثيرا ما تتعسر الولادة بسبب ضيق عظام الرحم نتيجة الزواج المبكر فتموت الأم، فإذا رجحت المولدة موتها عجلت بتكحيل عيونها بمسحوق الفلفل لكي تعمي الروح فلا تستطيع الخروج والمكث في الدار، وقد تمد ذراعيها وتدق مسمارا يثبتهما في الأرض لكيلا تستطيع الروج التجول في المنزل ومضايقة الأحياء!».

أيقونة الفن الإسلامي في تاج محل

كان الرحالة الأستاذ محمد ثابت يزين مؤلفاته بالصور الجميلة التي تضيف إلي النص روحا فنية معبرة ، وقد يصل متوسط عدد هذه الصور إلي صورة في كل صفحة، وفي هذا الصدد فإنه كان متقدما علي عصره و علي كثير منا في عصورنا اللاحقة.

ولا يخفي الرحالة الأستاذ محمد ثابت انبهاره بالآثار الجميلة، وانظر إلي هذه الفقرة من الوصف الجميل الذي قدمه لتاج محل:

«حق للهندسة المغولية أن تفاخر بتلك القطعة الفنية، فما أن وقع ناظري عليه حتي ذهلت من عظمة ما رأيت، جلال في دقة صنع، ورواء في حسن تنسيق، وآيات للفن بينات في كل ناحية من نواحيه، فهو وحده خير مبرر لزيارتي للهند، تلك البلاد التي كنت حتي الساعة لا أذكرها بالخير الكثير».

«دخلت من الباب الرئيسي، وهو وحده قصر فاخر بأقبيته وقبابه ومناراته فانكشفت حدائق التاج الفسيحة التي نسقت بالنافورات والمنحدرات والطرقات الملونة، والنقائع يزينها زهر البشنين وورقه صفت من حولها مخاريط الشجر الباسق، وفي وسط كل أولئك يقوم التاج كالعروس، ولكن أني لقلمي الكليل أن يصور بدائعه، ويحكي اعجازه، فقد تنقل الكلمات والصور إلي القارئ شيئا عن المكان، ولكن أني لها أن تشعره بالذهول والإكبار الذي يحسه مَنْ يراه بعينه! صور لنفسك قصرا فاخرا أقيم كله من الرخام الوضاء، والمرمر البراق تحوطه من الأركان مآذن دقيقة رشيقة، و تتوسطه قبة كبيرة رائعة تحوطها القباب الصغيرة، والمنائر الرفيعة، والأرض والجدران قد رصعت كلها بالزهور والزخارف الفارسية، لا بالرسم الزيتي، بل بالياقوت والزمرد والزبرجد وما إليها، وتزين الجدران إلي جانب هذا آيات الذكر الحكيم كلها لا بالمداد، بل بمقصوص الرخام الأسود ألبس الجدران البيضاء، والمدهش أن المهندس قد راعي المنظور في كتابتها بحيث أنك تراها تبدو في أعلي المكان وفي أسفله بحجم واحد رغم علوه الشاهق، وفي بعض الصفحات تري الرخام قد خرط في أشكال شتي بين بارز وغائر، أما النوافذ والفتحات فأشبه بشباك المخرمات في دقة فائقة، وهندسة عجيبة قدت في الرخام، وكان يغطي غالب الفتحات الزجاج الطبيعي (الميكا البيضاء)، ولم يبق منها اليوم سوي لوح واحد، وفي قلب المكان تري المقبرة من المرمر رصع بمختلف الأحجار الكريمة يحوطها سور من مقصوص الرخام، وهذه تضم رفات زوجة شاه جهان (ممتاز محل)، وكان يحوطها سور من فضة، ويكسو القبة غشاء ثقيل من ذهب كانت زنته 2650 رطلا، ويدخل الضوء من الباب فقط فيسقط علي المقبرة رأسا فتشرق وسط الأركان المظلمة، وقد الصقت بجانبها مقبرة أخري فيما بعد دفن فيها زوجها، وكان قد بدأ يقيم لنفسه مقبرة علي مثال التاج في الجانب الآخر من النهر».

كذلك يعمد محمد ثابت في حديثه عن الآثار إلى مقارنات علمية جميلة وذلك من قبيل تسجيل انطباعاته الحسية في أثناء وصف لقبة تاج محل:

«وللقبة الرئيسية أثر ساحر في ترديد صدي الصوت يفوق ذاك الذي لاحظته في بيزا بإيطاليا، وقفت داخلها وكأني طربت لما أن تصورت المقرئ بصوته الرخيم يردد الآيات البينات، أو يصيح بعبارات التأبين والندبة في أنغامها الشجية التي تبدو وكأنها دوي أصوات الملائكة تردده تلك القبة من السماء، ولا أنسي زيارتي الثانية للتاج في المساء وكانت ليلة مقمرة فبدا وهجه في ضوء القمر الشاحب، وسكون الليل الرهيب فأثار في النفس من ذكريات، وأهاج من شجون».

ولا يفوت الرحالة الأستاذ محمد ثابت أن يصور الإنجاز بلغة الأرقام والحسابات المادية:

«وقد قيل إن السلطان استدعي عباقرة الفن من العرب وفارس والهند وأوروبا فاستلزم البناء 17 سنة، وكان طوال هذه المدة يشتغل عشرون ألف عامل حتي بلغت أكلافه (أي تكلفته) أربعة ملايين من الجنيهات في ذاك الوقت الذي كانت الأموال فيه نادرة».

مشاهداته لظاهرة عبادة البقر

كذلك فإن الرحالة الأستاذ محمد ثابت كان حريصا علي أن يقدم العجائب الوطنية المرتبطة بالمعتقدات والعادات والتقاليد بصورة علمية تتحري الحقيقة ولا تثبت إلا ما رآه بعينيه، ومن ذلك حديثه عن مظاهر عبادة البقر في الهند في ذلك الوقت الذي قام فيه برحلاته:

«… وكل فرد وهو على سرير الموت يمسك بذنب البقرة حتى تفيض روحه إن أراد الجنة.. بلغني أنه لما حضرت الوفاة مهراجا كاشمير الأخير طلب أن تساق البقرة إليه في غرفته، فلما لم يفلحوا في ذلك حُمل الأمير إليها فأمسك بذنبها حتى فاضت روحه، وقد قيل إن العصيان الهندي الكبير كان من السهل تلافيه لو أن بريطانيا منعت ذبح البقر، وكان ولايزال بعض الجند يأبون حمل السلاح لظنهم أن دهن البقر يدخل في تركيبه، وثار الكثير لأنهم كلفوا أن يفرغوا قطرا تملأها لحوم البقر المحفوظة في علب جيء بها من استراليا».

«ويقدس الجميع خمسة منتجات في البقرة وهي: اللبن، والمسلي، واللبن المتجبن، والروث، والبول، وتلك توضح في أوان ساعة الصلاة ثم تمزج ببعضها ويشربها القوم تبركا كأعظم مطهر من الآثام، وهذا المزيج يسمي في عرفهم (Panchagavia)، وغريب أن يكون أثر البول في الطهر أبلغ لديهم، فكثيرا ما كنا نري الناس يقفون أثر بقرة لكي يحملوا البول وهو دافئ في آنية، ويسرعون بها إلي بيوتهم ليشربوه علي الفور، أو ليدهنوا به وجوههم ورؤوسهم، وقد يتلقاه الرجل في يديه ويحتسيه أمامنا وهم يعدوننا أنجاسا لأننا نأكل لحم البقر، ولذلك فهم لا يسلمون علينا باليد مطلقا، وإن اضطر وجهاؤهم لبسوا القفازات، فكم من مرة مددت فيها يدي لأصافح بعض مَنْ تعرفت بهم من زملاء القطار من بين المتعلمين فكان خجلي شديدا عندما كنت أراهم يرفضون ذلك ويضمون أيديهم إلي صدورهم لرد تحيتي لهم، وحدث مرة أن خادم القطار قدم لي الطعام في العربة التي كنت أركبها، وما كاد يقع نظر إخواني الهنود من حولي علي اللحم الذي آكله حتي تنحوا عني وأخذت ترمقني نظراتهم بشيء من الاشمئزاز، وقد عانيت طويا حتي استعدت علاقتي الحسنة معهم كرة أخري، وصارحني بعضهم أنه يري في ذلك الرجس كله، وأن نفسه تتقزز ويعروها لشعور بالقيء لمجرد رؤية اللحم، وكثيرا ما كنا نري البقر تطوق جيده العقود، وتخضب قرونه بالألوان، وتزينها أطواق النحاس البراق، ويقبل المارة علي البقر لثما وتقبيلا».

«ومن عجيب أمرهم أنهم يهملون إطعام البقر علي قداسته، ويكتفون بتركه يجوب الطرق، ويرعي ما ألقي فيها من قمامات، لذلك نري غالب (البقر) عجافا هزالا قد أصابتها مختلف الأمراض، ومما ساعد علي انحطاط نوع البقر هناك أن من يهب عجلا أو بقرة للمعبد تبركا أو لمناسبة موت عزيز لديه يبتاع أرخص الأنواع و أردأها وتطلق هذه وتظل ملكا للمعبد بدون رعاية أو استغلال، وقد قدر عددها بحو سبعين مليونا لا يستفاد منها بشيء، ولو استغل هذا العدد لأنتج ما قيمتها 117.5 مليون جنيه في العام، وطالما تقع المشاحنات المبيدة بين الهندوس والمسلمين يوم عيد الأضحى بسبب ذبح العجول، وإن نعجب فعجبنا من تناقضهم، فالبراهما هو الذي يبيعها للمسلمين أحيانا إلي ذلك تضاف قسوة الهنود جميعا في معاملة ذاك الحيوان المقدس عند استخدامه في جر العربات، والعجول هي دابة الجر الرئيسية في الهند، فلا تكاد تري حيوانا سليم الذنب لأن السائق يضغط علي فقرات ذنبه طول الطريق يستحثه علي مواصلة السير، لذلك تراها تتكسر، إلي ذلك تعذيب البقرة ساعة حلبها، إذ يُدخل الحالب في دبر البقرة عصي زودت بأهداب خشنة ولا يفتأ يحركها معتقدا أن ذلك يدر اللبن، غير آبه بما يحدثه ذلك في البقرة من الآلام المبرحة».

الملايو جنة الدنيا  وطوكيو تتفوق على أوربا

وكان الرحالة الأستاذ محمد ثابت يتعمد تقديم أوصاف عمومية دالة على الأوطان التي زارها، وقد تكون هذه الأوصاف من الألفاظ الشائعة عند أهل هذه البلاد، فمن ذلك أنه يصف الملايو بأنها جنة الدنيا، وبستانها اليانع، لكنه يضيف إلي هذا الوصف ما توصل إليه بمشاهداته وعقيدته في الحضارة والتقدم الحضاري، وهذا علي سبيل المثال هو وصفه البليغ المنبهر بما رآه في مدينة طوكيو:

«… بأي لسان أستطيع أن أقص ما أري من عظمة ودقة، تنميق حسن، وذوق سليم، مدينة تتجلي في كل مناحيها أبهة الملك، وعزة السلطان».

«هي تفوق في نظري كثيرا من عواصم أوروبا بقصورها الشامخة، وطرقها الممدودة، وحدائقها الوارفة تكاد تمتد كل طرقها الرئيسية علي نمط واحد، واتساع رحب يتوسطها ممر الترام ، والعجلات الكبيرة، ثم أفريز من خضرة، ثم ممر للعجلات الصغيرة فإطار للمارة، والمصابيح تعلو في عناقيد إلي مد البصر، ورجل البوليس يتوسط مفارق الطرق، ويسير الحركة بالمصابيح الملونة، والصفافير، واليدين في دقة عجيبة، ومهابة يقدرها الجميع، وتوزيع مخافر البوليس في بلاد اليابان، يغايره في البلدان الأخرى، إذ تري جوسقا صغيرا به ضابط البوليس ومعاونه، وحولهما التليفون والسجلات والخرائط، وتتوزع تلك الجواسق في مسافات متقاربة، وحتي داخل الأزقة لتكفل الأمن من جهة، ولتهدي المارة لما يطلبون، أما نظام البوليس المركز في أقسام كبيرة نائية عن بعضها كما نراه عندنا فليس له وجود، لذلك إنك تري البوليس ملما هناك بكل شيء، عالما بدقائق منطقته الصغيرة وسكانها، حدث مرة أن أحد النزلاء من الطليان انتقل إلي دار جديدة، فلما كان المساء عاد الرجل فاشتبه عليه الأمر وضل طريقه إلي داره الجديدة، فباغته رجل البوليس وهو حائر قائلا: أأنت فلان؟ ماذا تريد؟ فخبره أنه ضل طريقه، فقاده رجل البوليس إلى بيته الجديد! لذلك قلما تفلت البوليس هناك جريمة لا يهتدي إليها عاجلا».

………………..

«قصدت قصر الإمبراطور، وهنا تجلت العظمة بأحلى معانيها، هو شبه قلعة مشرفة كأنها الجبل يحوطها خندق تعبره القناطر تؤدي إلي القصر، وهندسته مزيج من اليابانية والصينية في طابق واحد، وسقوف منحدرة خشبية تتقوس أركانها إلي السماء، ولا يباح لأحد دخول القصر ولا تصويره تقديسا له وللإمبراطور ابن السماء، حدث أني كنت أحاول أخذ صورة لم أشعر إلا وفارس قد أقبل مسرعا وأخذ الفوتوغرافية وأفسد الفيلم بيده وهو يعتذر بأن ذلك غير مباح، وتركني بعد أن بش في وجهي وانحني تأدبا، أما الميدان الذي يتقدم القصر فعظيم لا يعرف مداه، وتقوم عليه حول القصر كثير من دور الحكومات في قصور سامقة أخصها دار البرلمان في هندستها الغريبة، ووزارة الحربية والبحرية بأعمدة اللاسلكي تسامت السماء، وتهول الناظر بضخامتها، وتتناثر هنا وهناك تماثيل عليتهم ممن أبلوا للوطن البلاء الحسن».

«وتقديس القوم للإمبراطور يثير الدهشة، فكل شيء هناك يتلاشى إلى جانبه، فهو مطلق التصرف في البلاد، وسلطة البرلمان ضئيلة أمامه، خصوصا فيما يختص بالمالية والشئون الحربية، ومجلس الوزراء مسئول أمامه فقط، وهو الذي يعين رئيسه ولا يشترط اختيار الوزراء من رجال الحزب السائد في البرلمان، ووزيرا الحربية والبحرية يقابلان الإمبراطور رأسا ولا يسقطان بسقوط الوزارة».

انبهاره بمستوى الفندقة اليابانية

وهذا على سبيل المثال ايضا هو وصف الرحالة الأستاذ محمد ثابت المنبهر بالخدمة الفندقية في اليابان:

«حللت نزل (Chuo) الفاخر، وهو علي النمط الافرنجي، يديره اليابانيون رجالا ونساء، فقوبلت بالانحناءات والابتسامات، وما أن حللت غرفتي حتي أقبلت الفتاة تقدم شاي التحية، وهذا يكرر كلما عدت إلي النزل، وفي أية ساعة، ثم عقبته بإخباري أن قد أعد الحمّام، وحتي في غرفة الطعام الافرنجية تراهن وقوفا زرافات يحاولن تسليتك ولو لم يعرفن لغتك، حدث أن مرت فتاتان بباب النزل وأنا في غرفة الطعام تعزفان علي الشامسين، وترقصان وتغنيان، فأسرعت إليهما ومعي صاحب الفندق وفتيانه، وقالوا إن تلك هي الوسيلة الوحيدة التي يباح فيها الاستجداء، يؤيد ذلك أني لم أر متسولا واحدا في جميع البلاد التي جبتها هناك، وما كدت أبرز آلة التصوير لآخذ صورتهن حتي غضب الجميع ومنعوني دفاعا عن عزتهم القومية، فاعتذرت لهم رغم أن الفتيات كن في هندام نظيف جذاب».

«هداني تجوالي في المساء إلي شارع (جنزا) بأضوائه الخاطفة، وتنسيقه الياباني الخلاب، هو متنزه الشباب، ومحط سرور حوي 348 من الأنزال والملاهي ومشارب الشاي وما إليها، إلي ذلك بعض المحال التجارية تعرض بها المستحدثات التي تروق الشباب، ولن أنسي قعقعة (القباقيب)، ولا سحابات الفراش الآدمي في ألوانه الجميلة، ومن المقاهي ما هو ياباني تري الأحذية والقباقيب، وقد صفت أمام الباب، إذ يجب خلعها قبل الدخول، ولعل أكبر مميزات هذا الشارع الباعة الرحل الذين يفترشون الإطارين بسلعهم طوال الطريق، وهي نفائس الصناعات اليابانية الصغيرة التي تدل علي مهارتهم الكاملة خصوصا إذا علمت أن غالبها صنع في البيوت (كلعب الأطفال، وأشغال الورق والغاب وما إليها)، وإذا ما انتصف الليل عكف كل يطوي معروضاته قطعة  – قطعة بثبات وصبر غريب، ثم يحملها إلي بيته ليعيد الكرة في الغد. نشاط وصبر إلى نظافة وتقشف امتاز بها الياباني فكان مزاحما قويا لزميله الأمريكي والأوروبي».

ويحرص الرحالة الأستاذ محمد ثابت علي أن يدلنا على معني الأسماء الوطنية للبلاد التي زارها من قبيل أن سنغافورة مدينة الأسد، وأن كوريا معناها أرض الصباح الهادئ، وأن طوكيو معناها العاصمة الشرقية، وبكين معناها العاصمة الشمالية، وكيوتو عاصمة العواصم.. وهكذا.

قسوة فكرة الثأر عند اليابانيين

يتحدث الرحالة الأستاذ محمد ثابت بالطبع بتفصيل وتأمل ومقارنة عن بعض العادات المشابهة لعادات المصريين، وهو على سبيل المثال لا يخفي تعجبه من أن يسمح القانون الياباني بالثأر، ومن ذلك حديثه عن الثأر عند اليابانيين:

«… والأخذ بالثأر كان لديهم مقدسا لمحو العار، فإذا أهان أحدهم غيره قتله، لكن يعود القانون فيحكم علي القاتل بالانتحار، وإلا قتل نفسه قبل ذلك، فإن نفذ فيه الحكم ظل الثأر في رقبة أتباعه الذين لابد أن يأخذوا بثأر سيدهم يوما ما، وعجيب أن كان قانونهم يبيح ذلك، وكان يحتم علي المنتقم أن يبلغ الأمر للمحكمة لكي تحدد له ميعاد الانتقام، وإذا احتمي القاتل في الأشراف أو أصبح جنديا سقط عنه القصاص وقيل إن تلك التعاليم أخذت عن (كونفوشيوس)، والانتحار أشرف لديهم من الإعدام، لذلك كان يفضل القاتل أن ينتحر أمام الناس بيديه، وكان القانون يعطي للمجرم الحق في الانتحار أمام الناس، أو ينفذ فيه الإعدام، ويؤثر المنتحر أن يموت بسيفه الخاص، وهاك وصف حادثة انتحار حدثت أمام جمع من الأوروبيين:

«حكم علي الأمير تاكي زنزابورو بالانتحار ترضية للأجانب لأنه هو الذي أمر بضرب النار عليهم سنة 1868 فدعا الميكادو الأجانب إلي أحد المعابد واصطف الجند وجيء بالمنتحر ومعه اثنان من أعز أصدقائه ليساعداه علي قتل نفسه إن خانته قواه، وتسلم الخنجر المدبب ماضي الحدين وجلس القرفصاء كعادة اليابانيين، ثم رفع الخنجر فوق رأسه شجاعة واحتراما وأخذ يعترف بجريرته في جرأة وإقدام، وطلب معذرة الحاضرين وسألهم أن يسبغوا عليه شرف مشاهدتهم إياه وهو يبقر بطنه، ثم انحني مرات احتراما ورفع قميصه ومال إلي الأمام قليلا مخافة أن يقع علي ظهره ساعة انتحاره، وهو عار لا يمحي، ثم أخذ يرمق الخنجر بنظرات العجب والتيه وطعن به جانب بطنه الأيسر وطفق يشقه محركا يدا إلي الجانب الأيمن، وهنا اجتذبه إلي أعلي إمعانا في الشجاعة والجلد، وهو خلال ذلك كله لم يمتقع وجهه، بعد ذلك انحني إلي الأمام ساجدا، وفي لمح البصر هوي سيف صديقه علي رأسه ففصلها عن جسمه، ثم مسح الحسام بورقة وأعاده إلي غمده بعد أن انحني وانسحب».

ثم يعلق الرحالة الأستاذ محمد ثابت علي هذا الطابع القاسي لتنفيذ الثأر عند اليابانيين فيقول:

«منظر مزعج، لكنه يدل علي مبلغ ضبط النفس، ورباطة الجأش، وهدوء الأعصاب في المنتحر وأعصابه، وعجيب أنهم يعدون ذلك أكبر فخر، خصوصا إذا قام أقرب المقربين بالإجهاز علي حياة صديقه، وهذا يقدسه جميع اليابانيين لدرجة أن بعضهم عرض علي البرلمان سنة 1869 إلغاء الانتحار فرفض اقتراحه بأغلبية 200 ضد 9 بحجة الإخلاص للمبدأ، والشعور القومي وحفز الفضيلة، وعجيب أن (أرنو سيجورو)، وهو الذي اقترح هذا الإلغاء، مات بالطريق نفسها بعد ذلك بزمن يسير، هذا ورغم تحريم القانون ذلك اليوم نري الانتحار منتشرا هناك، لمناسبات تافهة».

الرحالة لا يوافق على ما يمنحه اليابانيون من الحرية  

يتلمس الرحالة الأستاذ محمد ثابت بعقليته المحافظة بعض ما يعتبره الجوانب السلبية في نهضة اليابان من وجهة نظره، وعلى سبيل المثال فإنه ينتقد في صراحة شديدة فكرة إعطاء اليابانيين قيمة لرأي الطلاب في المدرسين مفصلا القول فيما يترتب على هذا المبدأ من سلبيات من وجهة نظره هو كمرب ومعلم ممارس للمهنة:

«… ويلفت النظر ما للرأي العام بين الطلبة من الأثر علي المدرس، فإن لم يرق الطلبة نقدوه علنا وطالبوا بتغييره، ويغلب أن يجاب طلبهم، ولا يعد المدرس ناجحا إلا إذا استمال طلبته إليه، ولهذا أثره السيء في تغافلهم عن التعمق في الدرس وهم يحاولون أن يظهروا بمظهر العلماء، وفي هذا ما فيه من الغرور الأجوف الذي زاده احترام أهل تلك البلاد للرقي العقلي، والثقافة أكثر مما يلاحظ ذلك في بلاد الغرب التي لا تعطي للمتعلم ذاك الاحترام الكبير، لذلك يحاول المتعلمون طلاء أساليبهم في إغراب كبير، وقد يدخلون بعض الكلمات الأجنبية زيادة في التنميق وجبا في الظهور، حدث مرة أن قام وزير يخطب في دعاية دينية فلما انتهي من كلمته في لغتها المتكلفة التفت أحد الحاضرين إلي جاره وقال: أنا لا أفهم الإنجليزية! كذلك حدث لما زار أينشتين اليابان وحاضرهم في موضوع النسبية أن كان يستمع له أستاذ ألماني وتلميذ له ياباني تلقي عليه الألمانية لمدة نصف عام، فلما انتهت المحاضرة قال الطالب لأستاذه: أنا أفهم كل شيء بالألمانية، ولم تكن بنا حاجة إلى هذا المترجم، فقال له أستاذه: إذن فأنت أقدر مني في الألمانية لأنني لم أفهم من الموضوع إلا القليل!».

ويتحدث الرحالة الأستاذ محمد ثابت بعمق وذكاء عن وضع النساء في اليابان بادئا بالحديث عن عناصر الانتقاد التي توجه إلى هذا الوضع:

«… وأمر النساء في اليابان يثير الدهشة والنقد من عدة وجوه: فإنهم يبيحون للفتات، ما دمن غير متزوجات، كامل الحرية في التريض والمصادقة، وقد ناقشت بعضهم فكان منطقه أن العزوبة أمر غير طبيعي، فإن لم يكن للفتاة زوج فخليل، وهم لا يعتدون بالبكارة والعرض اعتدادنا به في الفتيات، علي أنها إذا تزوجت أصبحت مثال الوفاء لزوجها، والعجيب أنها لا يصح لها أن تظهر الغيرة علي زوجها من غيرها، وكثيرا ما تخاطب زوجها عند أوبته من رحلته قائلة: أرجو أن تكون قد استمتعت ليلتك الفائتة، فيقص عليها نبأ ما كان يحوطه من فتيات وجيشات وصويحبات سرين عنه كثيرا».

«وأعجب من ذلك وأنكي أنهم يحترمون العاهرة احترامهم للزوجة، فالأب هو الذي يتخير لها الزوج، كما أنه هو الذي يدفع بنته إلي الدعارة إن أعوزه المال، لأن في عوزه هذا هدما للعائلة، ويجب تلافيه وإلا انهار ركن قومي يوثر علي كيان الدولة والوطن، وهم يطلقون علي العاهرة اسم (أوجوروسان) أي العاهرة العظيمة، حدث مرة أن اقترض نجار خمسين جنيها من دار جيشات مقابل ارتهان بنته الجميلة في سن الحادية عشرة لمدة خمس سنين، بعدها يدفع الدين ويتسلم الفتاة، فأصبحت تلك الفتاة من كبريات الجيشات فأكبرها الجميع، وإذا احتاج الرجل المال وكانت بنته كبيرة فوق السابعة عشرة دفع بها إلي بيت الدعارة، فإن هربت ساعده البوليس علي إرجاعها إلي بيت الدعارة حتي يتم سداد دينه لأنها ملزمة بذلك قانونا إذ قبلت الدين عن والدها! تصرف نراه همجيا وحشيا لكنهم يبررونه بأنه واجب الأبناء طاعة الآباء، والعمل على إنقاذهم من الشدائد لأن في ذلك معني الإخلاص للأسرة والدولة التي يُضحي في سبيلها كل شيء، ويتهافت الشبان على الزواج من (أمثالهن) إكبارا لهن، وتفاخرا بهن! منطق لا تسيغه عقولنا ألبتة ».

«أضف إلى ذلك أن من أخص وسائل إكرام الضيف أن يقدم المضيف السميرات لضيفه، وهل هذا في زعمهم إلا واجب طبيعي! وقد كانت العادة فيما مضي أن يبالغ المضيف في إكرام ضيفه فيقدم له زوجته، ولا خطر هناك من اختلاط النسل، فكلهم أبناء الإمبراطور ابن السماء، ولم يقلعوا عن تلك العادة القبيحة إلا تفاديا لمرارة النقد الأجنبي، وأنهم لا يطيقون أن ينقد بلادهم أحد قط».

«تناولت العشاء ورغبت في النوم وسرعان ما تقدم الفتيات إلي وسط الغرفة يفرشن لي حشية (مرتبة) قصيرة تتناسب مع قاماتهم القصيرة، وإلي ناحية الرأس وسادة من خشب عليها غشاء رقيق من قماش يحشوه القش، وشدت (ناموسية) خضراء في حجم الغرفة كلها إلي الأركان، ووضع إلي جانب الفراش الشاي الذي يحسن شربه قبل النوم ليطهر الفم، ويساعد الهضم، ثم قدمت المبخرة وأشعلت بها فتائل خضراء حلزونية تظل متقدة طوال الليل طردا للبعوض، علي أني لم أطق رائحته المنفرة، فمددت جسمي وكانت قدمي تتدليان خلف (الفراش) إلي نصف الساقين، ورأسي لا تكاد تستقر علي وسادة الخشب القاسية التي لا يلذ لهم النوم إلا عليها، فتري الرقبة مشحوذة عليها، والرأس يتدلى من طرفها الخارجي غالبا، ويظهر أن الباعث عليها شدة محافظة السيدات علي تنسيق شعر الرأس مخافة أن تعبث به الوسائد الأخرى، ويقولون إن نساء اليابان امتزن بجمال الرقاب الممشوقة غير المجعدة، وتلك نتيجة النوم علي هذه الوسائد، ويغلب أن يوضع بجوار الفراش مصباح من ورق ملون علي أني لم أنم إلا غررا، وكنت أدهش لهم إذ ينامون نوما عميقا رغم قعقعة أخشاب الغرفة ومصابيحها، وطنين البعوض والفراش، ويكاد يخيل للمرء أن الدار ستنهار أمام شدة الرياح، فهي ترتجف أبدا وكأنها الخيام المؤقتة، إلي ذلك أني كنت أسمع كل همس يقع في الحجرات الأخرى».

اليابان  وخصوصيتها في الارتباط  بأوروبا و مجتمع الصناعة  

يحاول الرحالة الأستاذ محمد ثابت أن يشخص أزمة اليابان في محاولتها الارتباط بالتقدم الأوروبي في الحضارة ويقول:

«…منذ عهد ميجي كان غرض التعليم هناك نقل المدنية المادية عن الغرب لحفظ كيان الدولة، ولم تعترف اليابان بأن حضارتها ونظامها الاجتماعي دون حضارة الغرب مقاما فكان هم الزعماء الوطنيين الجمع بين الاثنتين رغم ما بينهما من تنافر، ففي أوروبا يرمي التعليم إلي ترقية عقل الفرد وخلقه بصرف النظر عن قومه وعائلته، لكن الياباني خاضع للأسرة وللدولة بحكم نظامه الاجتماعي، لذلك كان الغرض من تعليمه خدمة السياسة القومية، ومن ثم نجح التعليم هناك في تخريج طائفة قديرة من رجال الإدارة والجند ورجال الصناعة والتجارة والأعمال المالية، وبفضل هؤلاء بلغت البلاد هذا المستوي من الرقي، أما النابهون المبرزون العباقرة فيندر وجودهم هناك».

«علي أن التغير بدأ يسود طوائف الطلبة منذ الحرب الكبرى، فقد تدفقت عناصر الحضارة الغربية تلك التي قوت روح النقد لتصرفات القدماء، وأصبح موقف الشبان هناك شبيها بموقف شباب إيطاليا عهد لنهضة حين ثملوا بخمر ما داهمهم من حضارة الغرب، خصوصا في الفن والموسيقي والنظام الاجتماعي والسياسي، فبعد أن كان (التعليم) يلقن الطاعة للآباء والولاء للدولة، والخضوع لتعليم الدين الشنتوي، أخذ يدرس في الجامعات الحرية الشخصية، والحكومات النيابية مما يثيره علي النظم القديمة، فتراه اليوم  (الضمير يعود علي الشباب) حائرا أي السبيلين يسلك، مما أضعف إيمانه فلم يرم لغرض واحد، ذلك الذي كان خير كفيل بتقدم اليابان الأخير، وقد أحس بافتقاره لوسائل التسلية التي يتمتع بها نظيره الغربي، وكذلك أحس بضيق فسحة الفراغ التي تساعد الاطلاع والبحث».

«ولايزال ينقد الأجانب نظام المدارس لكبر الفصول، وحداثة عهد المدرسين ذاك الذي لا يوجد التعارف الشخصي بين المدرس وطلبته، ويزيل التأدب الظاهر، ويحل الحب المتبادل والإخلاص محله، ولايزال المدرس الذي يمتزج بالطلبة عرضة للإهانة هناك، وقد أخذ الآباء يتهمون النشء بنقص في الوطنية يبدو جليا في نفورهم من التجنيد، وأوضح ما يظهر ذلك في كراهية الطلبة للضابط الذي يخصص لتعليم الطلبة النظم العسكرية في جميع الكليات، علي أن الفرنسيين عموما والإنجليز خصوصا يرون أن نظام التعليم الياباني علي ما به من عيوب أفضل من نظمهم لأنه يسوي بين الطبقات جميعها، فلا يفضل طالب لجاهه أو ثروته، بل لكفاءته مما ساعد الحب المتبادل بين أفراد جميع الطبقات، فكان لذلك أثره القومي الجليل».

وفي موضع آخر تتبدي رؤية الرحالة الأستاذ محمد ثابت لعظمة اليابان فيما يقدمه من صور أتاحت لنا وصفا بديعا لما وصل إليه النمو الصناعي في اليابان مقدما حديثا تفصيليا دقيقا:

«خالفت اليابان في نهوضها الصناعي سائر بلاد الدنيا من قبل، ففي إنجلترا مثلا كانت التجارة والصناعة خاضعة لقوانين حكومية إلى القرن الثامن عشر حين نهضت الصناعة علي أساس المجهود الفردي، والمنافسة الحرة، وتلك تغلبت علي ملاك الأراضي ونزعت منهم نفوذهم الحكومي وأصبح تدخل الحكومة في الصناعة أمرا غير مرغوب فيه، وعلي ذلك لم تقم الصناعة في إنجلترا علي التعاون العام، ولا علي الإشراف الحكومي، بل علي مجهود الفرد ومزاحمته لغيره».

«أما في اليابان فقد قامت الصناعة على كواهل الدولة وذلك لعدم وجود طبقة من أغنياء التجار الذين أمدوا الصناعة الإنجليزية بالمال، (أضف) إلي ذلك احتقار طبقة التجار في اليابان عندئذ، وقلة خبرتهم بسبب عدم احتكاكهم بالأجانب كثيرا».

«فبينما نجد النهوض الصناعي في الغرب هو الذي أثر في النظم السياسة، إذا بالأمر علي النقيض من ذلك في اليابان، حيث كان الانقلاب الصناعي نتيجة مباشرة لتغيير نظام الحكم، فالدولة هي التي فتحت المصانع ولاتزال تديرها، وهي التي أوفدت الطلبة ( لتعلم ) الصناعة والتجارة في الخارج، واستقدمت الخبراء من الأجانب، وأنشأت المدارس الحكومية، وفتحت الغرف التجارية، ولاتزال تمنحها الإعانات المالية، كذلك أقامت المتاحف الصناعية في كل البلدان، وهي التي تزود التجار بالمعلومات عن الأسواق الخارجية، وحتي المصانع التي انتقلت إلي أيدي الأفراد لا تخلو من الرقابة الحكومية، والحكومة تمون المصانع كلها بالقروض والإعانات المالية، وتراها تشرف علي الهيئات التعاونية التي تفوق الألف، والتي تتعاون علي تنظيم الإنتاج والتصدير وظروف البيع، ولهذه حق قانوني في فحص صادرات البلاد محافظة علي سمعته الصناعية في الخارج».

«ومما ساعد الصناعة في اليابان أنها نجت من مقاومة فئة الممولين الأقدمين الذين تعرضوا في سائر الدول للخسائر الفادحة فناوأوا الصناعة زمنا، أما في اليابان فلم توجد تلك الفئة، ذلك لضعف الأفراد هناك، إلي ذلك أن النهوض الصناعي في اليابان جاء في عصر ظهر فيه فضل الإنتاج الكبير الذي لا يقوي عليه الفرد بل الجماعات والمتعاونات، وشعر الكثير بضرورة معاونة الحكومات وتدخلها في تحديد المزاحمة، ولايزال للنظام القديم أنصار يقاومون تدخل الحكومات حتي في إنجلترا نفسها، أما في اليابان فالإشراف الحكومي منطبق علي نظمها الاجتماعية التي تقضي علي الأفراد بالطاعة للأسرة، والولاء للدولة، فهم جميعا يؤيدون التعاون بفطرتهم ولا يثقون بالمجهود الفردي، رغم ما لهذا من أثر سيء في القعود بقوة الابتكار، فإذا كان إنجلترا قد ضربت المثل الأعلى للصناعة إبان القرن التاسع عشر، فإن اليابان هي المثل الأعلى في هذه الأيام» (كتب هذا الكتاب في الثلاثينيات من القرن العشرين)

يفيض الرحالة الأستاذ محمد ثابت في حديثه بانبهار عن المحلات التجارية الكبرى في اليابان:

«تفقدت بعض المحال التجارية الكبري، وأخصها (متسو كوشي) شبيه لافاييت  بباريس، وشيكوريل بمصر، إلا أنه أفخم بناء، وأعظم امتدادا حوي كل شيء حتي الطيور والفاكهة، والمطاعم، والمقاهي، إلي جانب مستلزمات النساء والرجال جميعا، وفوق سطحه بعد الدور السابع حديقة يابانية أشبه بالحدائق المعلقة ينمو شجرها، ويتفتح زهرها، وتتوسطها النافورات والصخور، وتري المقاعد صفت للمتريضين، وأراجيح الأطفال، وملاعبهم منتشرة خلالها، وأمثال تلك الحدائق تعلو غالب المباني وتسمي بالحدائق السماوية، وفي أقصي أركان الحديقة هيكل يقام لإله النجاح يزوره الجميع لكيلا تنسيهم المادة واجبهم المعنوي، وللمحل عدد كبير من السيارات الضخمة الفاخرة تنقل رواد المكان إلي محطة سكة الحديد ومنها بدون مقابل».

رؤيته لسر الصعود الياباني

ويكاد الرحالة الأستاذ محمد ثابت ينفرد بقديم أوفي وأقدم نص عربي مكتوب عن نهضة اليابان ومراحلها وطبائعها ومؤثراتها، وهو نص جميل مركز ومكثف ودال علي كل الحقائق من دون تغليب النظرة الأيديولوجية أو الفكرية:

«ولتطور الصناعة في اليابان ثلاثة عصور، الأول من بدء عصر ميجي (1868) إلي انتصار اليابان علي الصين في حرب 1894، وهذا العصر امتاز بنشاط الدولة العظيم في بناء ما تتطلبه دعامات الصناعة، لذلك مد أول خط حديد سنة 1870، وفي 1894 بلغت السكك الحديدية 2117 ميلا، وفي سنة 1872 تأسس مصرف (بنك) علي النظم الحديثة، وأعقب ذلك نشر التعليم علي أحدث النظم، وبدأت السفن تبني تحت إشراف الحكومة ومعاونتها، وأقيم كثير من المصانع سنة 1870 للحرير والقطن، والصوف، والورق، والزجاج، والآلات، ثم أعقب ذلك بناء مراسي السفن، ومناجم الفحم والنحاس».

«على أن هذا العصر لم يغير شيئا قط من ميول الشعب الزراعية، وتبدو الحالة الاقتصادية جالية في تجارة البلاد الخارجية إذ ذاك حين كانت جل وارداتهم من المصنوعات، خصوصا المعدنيات والمنسوجات، وهذا شبيه بنا الآن، وجل الصادرات كانت من الخامات، وبخاصة الحرير ذاك الذي كان إنتاجه ضعيفا في عهد الإقطاع لما أن كان الحرير قاصرا على ملابس الطبقة الحربية والأرستقراطية وحرم علي غيرهم، لذلك كانت زراعة القطن أكثر انتشارا، وكان ينسجه الكل في بيوتهم».

«لكن عقب انقضاء عهد الإقطاع وردت المنسوجات القطنية من الخارج رخيصة، ثم أسست مصانع القطن في البلاد فزاد الطلب علي الخام من القطن الأمريكي والهندي والصيني، ذاك الذي كانت تزرعه تلك البلاد بنفقات أقل من زراعته في اليابان، وسرعان ما زاد الطلب الأجنبي علي الحرير الياباني فأحال الفلاح الياباني أرضه القطنية إلي أرض للتوت لتغذية دود القز، وساعدت رقي إنتاج الحرير ملاءمة الأرض له، ومهارة اليابانيين في القيام بشئونه المتعبة، واليوم نري الحرير الخام أكبر صادرات البلاد، كما أن القطن الخام من أكبر الواردات، ويلي الحرير في الصادرات الشاي، والنحاس، ومنتجات المصانع الصغيرة».

«وعلى أثر حرب الصين زادت خبرة البلاد الصناعية، واستطاعت محو القيود الأجنبية علي الواردات، وتلك القيود كانت ترغم اليابان علي ألا تزيد الضرائب علي الواردات علي 5% (وتلك الخطوة شبيهة بما اتخذناه في مصر في العام الفائت)، وقد ساعد هذا النهوض الصناعي هبوط سعر الفضة التي كانت أساس التعامل هناك إلي سنة 1897، مما رخص أثمان المنتجات اليابانية فزاد الطلب عليه وتشجعت صناعاتها (هبوط الجنيه في مصر اليوم شبيه بذلك)»، ونحن نذكر قارئنا بأن هذا النص كتب في الثلاثينيات من القرن العشرين.

«وعقب حرب الروس سنة 1905 ضمت اليابان لها كوريا وجزئا من منشوريا، هذا إلي جانب فرموزا ولوشو التي أخذتها من الصين من قبل، وتلك البلاد تطلبت القيام بمشروعات اقتصادية كبري كالسكك الحديدية، والمصارف، والمتاجر، مما شجع الصناعة اليابانية التي أمدت تلك المنشآت، إلي ذلك تنشيط استغلال الكافور، وقصب السكر في فرموزا، والبنجر في كوريا ومنشوريا، وذلك يصبح اعتباره الطور الثاني للصناعة، وفيه بدأت تسلم الحكومة المصانع التي ثبتت أقدامها للشركات تعمل تحت إشرافها، وظلت الصناعة الرئيسية إلي آخر القرن الماضي: السفن، والنسيج، أما المعادن فظلت متأخرة، لذلك وجهت الحكومة همة إليها هذا القرن، لكنها لاتزال متأخرة لنقص حاجاتها في البلاد، فالحديد نادر ويستورد من الخارج، وبخاصة من الصين، والفحم رديء النوع بعيد عن مناطق التعدين».

ويصل الرحالة الأستاذ محمد ثابت من خلال رحلاته إلي تقديم أحكام فاصلة في التأريخ لتقدم اليابان الصناعي وهي أحكام صائبة لا تصدر إلا عن فهم دقيق، وقدرة علي الإلمام بما كتب في مثل هذا الموضوع من قبل:

«فتطور اليابان الصناعي لم يظهر فعلا إلا في الفترة بين حرب الصين والحرب الكبرى، في عشرين عاما، ولم تبدأ النظم الغربية في البريد والسكك الحديدية والسفن والمصارف والقضاء والإدارة إلا سنة 1894، وانتشر التعليم الفني، وظهرت الآلات، خصوصا في صنع القطن، فقد زاد عدد مغازله من 415 ألفا سنة 1893، إلي 2.414.000 سنة 1913، ثم ظهر رأس المال الأجنبي في استغلال المنحدرات المائية في الكهرباء، فبينما لم تكن اليابان شيئا مذكورا في العالم الاقتصادي إلي سنة 1984، إذا بها تصبح عملاق الشرق الاقتصادي منذ سنة 1919».

«أما العصر الثالث لهذا النهوض فمنذ الحرب الكبرى (يقصد محمد ثابت الحرب العالمية الأولي)، في خلالها تضخمت صناعاتها بفضل غياب المزاحمة، خصوصا صناعات الأصواف والكيماويات والحرائر والخزف، كذلك قد أفاد الطلب علي الآلات الحربية والذخائر ومصانع الحديد، وتقوي أسطولها التجاري، إذ شغلت الحرب سفائن الدول الأخرى ضوعفت السفن اليابانية خلال الحرب، وزاحمت الأقطان اليابانية المنسوجات الإنجليزية التي تراخت إبان الحرب، وصنعت اليابان الأقطان الراقية التي كانت احتكارا  للانكشير، وبين سنتي 1913 و1924 ضوعفت المغازل تماما، وقد زاد الإنتاج الكبير الطلب علي الفحم والكهرباء فزاد إنتاج هذين كثيرا».

«علي أن الكساد العالمي الذي بدأ سنة 1920 كان صدمة خطيرة علي المصانع التي لم تدعم، وبخاصة الحديد والسفن والصوف التي لاتزال تشكو مر الشكوى، وكان لزلزال سنة 1923 أثر سيء علي نهوض الصناعة، إذ أتلف كثيرا من الأرواح والأموال فاستلزم ديونا أجنبية باهظة».

«ففي خلال الثلاثين عاما الخالية حصل انقلاب تام يبدو في أن غالب الواردات اليوم أضحت من الخامات، خصوصا القطن والمواد الغذائية، أما الصادرات التي كانت من قبل من الخامات فقد أصبحت من المصنوعات، إذا استثنينا الحرير الخام، وكذلك التغير الذي طرأ علي أسواق اليابان، ففي المقدمة اليوم شرق آسيا وأمريكا الشمالية، فأمريكا سوق الحرير الخام والخزف والشاي، ومورد القطن الخام والآلات والمعادن، وتصدر اليابان إلي شرق آسيا القطن والمصنوعات الصغيرة مقابل القطن الخام من الهند، والأرز والخشب والحديد الخام من سائر بلاد شرق آسيا».

«وخلاصة القول ففي 60 عاما انتقلت اليابان من بلاد تعيش في القرون الوسطي إلي قوة اقتصادية خطيرة، وكان تطورها منظما للغاية في كل نواحيه، ففي السنين الخمس والعشرين الأولي أقيمت الدعامات المادية للتقدم الاقتصادي تحت سيطرة الحكومة، وفي السنوات العشرين التالية ظهر النمو الصناعي وعاونه النصر في الحروب وسعة المستعمرات، وهنا بدأت تستقل الصناعة عن الدولة إلا في نوع من الحماية والعون المالي، وظهر تغلب الآلات علي العمل اليدوي، وأخيرا جاءت الحرب الكبرى التي أتمت هذا التقدم الذي أدهش العالم».

ويلخص محمد ثابت ما يعتقد أنه من وجهة نظره السبب في النجاح العجيب للصناعة اليابانية، وهو يبين في هذا الفهم عن تعمق في الدراسة، وإلمام واسع بحقائق الحياة الاقتصادية والاجتماعية:

«… فذاك النجاح العجيب للصناعة اليابانية يرجع الفضل فيه إلي الضرائب الباهظة التي فرضوها علي الواردات، وإلي بعد المزاحمة الأوروبية، وإلي النظام الاجتماعي الذي يؤيد بفطرته التعاون، ويقاوم الفردية، وإلي بدء الصناعات الكبرى بوساطة الحكومة التي لا تقوي مالية البلاد الضئيلة علي مزاحمتها، وذاك التعاون لاشك عامل عظيم علي تخفيف وطأة الأزمات، وتقلب الأسعار، لأن الجماعة هناك تنقذ العاطل منها علي عكس أوروبا، فلمجرد طرد العمال من المصانع في أوروبا ينقصون من (مشترياتهم)، وهذا يزيد الأزمة سوءا، كذلك فإن طبقة المأجورين هم الذين ينكبون علي (المشتريات) عند انخفاض بسيط في الأسعار فيزيد هذا في الارتباك المالي، لذلك أنشئت هيئات التأمين ضد البطالة في أوروبا، أما في اليابان فلا داعي له لأن العاطل يلجأ إلي عائلته وقد يستأنف الزراعة وهي لاتزال أهم الأعمال في البلاد، ويساعده علي ذلك استخدام الدراجات مطية يذهب بها العامل يوميا إلي قريته فيعيش وسط أهله دون أن ينفق علي مسكنه ومأكله شيئا يذكر، وهذا هو السبب في نقص أجر العمال العاطلين في اليابان عنه في جميع الدول (لم يبلغ مائة ألف)».

اكتشافه ضعف العقيدة الدينية و الأخلاق في الصين

ويلفت محمد ثابت النظر إلي ابتعاد الصينيين عن الدين تماما، ونحن نلاحظ أن محمد ثابت كان حفيا بإثبات ما اكتشفه من ضعف العقائد الدينية عند الصينيين، وتشوه هذه العقائد، وهو ما نكاد نختلف معه فيه، إذ إن الصورة التي يرسمها تدلنا علي حرص هؤلاء علي أي نوع من الدين، وأي نوع من الألوهية، صحيح أنهم لم يهتدوا بعد إلي ما يستحقونه من هداية وتوجيه في سبيل إصلاح عقيدتهم، لكن الصحيح أيضا أنه يفعلون ما وجدوا عليه آباءهم من ضلال يظنونه هدي، وهم، كما هو ظاهر من نص محمد ثابت، لا ينادون بالإلحاد، لكنهم يتخذون صورة عقيدية تكاد تكون أسوأ منه، لكنه لا ينفي عنهم حسن النية حتي لو كان ذلك كاذبا:

«… علي أن الصين أبعد الدول عن التدين، والصيني معروف بعدم العصبية الدينية، وهو ضعيف الإيمان والثقة بالآلهة، لذلك يغيرها كل يوم لأنه يراها غير عادلة تنزل العقاب جزافا، ولا تستجيب دعاءه، وبلغ من احتقاره إياها أنه إذا تخلف المطر أوقف البخور لها وقد يضربها بالسياط أو يلقيها في النهر، وكلما حلت نكبة ببلدة ما اتهم آلهتها بالعجز فغيرت، وإن انتصروا في الحرب مجدوا إله الحرب، وأقدس آلهتهم إله الأدب، وقد يخدع الصيني فيقدم لها الورق المفضض ، والمذهب بدل النقود، وكثيرا ما كنت أراه منظوما في حبال تعلق داخل المعابد، حدث مرة أنهم حملوا الآلهة وطافوا الطرق في وقت انتشر فيه الوباء، فلما لم يفد ذلك أغرقوها، وافترضوا أن بدء عامهم كان مشئوما فيجب تغييره، فأقاموا حفلة بدء السنة من جديد، ويسود أذهانهم التفاؤل والتشاؤم، حتي إنهم يحتاطون في الحديث خشية أن تبدو كلمة منفرة تتخذ نذيرا للشؤم، علي أن لدينهم الذي يقدس فلسفة الأجداد فضلا عليهم، إذ ساعد علي حفظ كيان الصين رغم ما أحاطها طوال العصور من عوامل الهدم والانحلال».

كما يتحدث الرحالة الأستاذ محمد ثابت عن فساد الأخلاق مرجعا هذا الفساد إلي الفقر وحده، ويبدو وكأنه يتحامل فيما يقدمه من وصفه للأخلاق، غير أن معرفتنا بأوضاعنا الحالية في وطننا تجعلنا نفهم ونقدر أنه لم يكن يبالغ:

«… ولقد أحدث انتشار الفقر والعوز في طوال البلاد وعرضها أسوأ الأثر في أخلاق الناس فأفسدها، وأنت تلمس انحلالها في كل مقام، فلا أذكر أني ركبت (ركشا) مرة دون أن يباغتني سائقها قائلا: أتريد بعض الغانيات من فتيات المانشو ذائعات الصيت جمالا؟! إلي ذلك جماهير السيدات اللاتي كن يمسكن بتلابيبنا طوال الطريق إلي درجة المضايقة الشديدة، ومنهن مَنْ لم يبلغن الحلم، وكأن الأجانب هناك بأخلاقهم الفاسدة قد جرأوهم علي ذلك الابتذال، وطالما كنت أعجب للصغار من الفتيات يسرعن إلي طلبا للمعونة المالية وهن في هندام نظيف لا يشعر بالفقر أبدا، كذلك كنت ألاحظ أنهم يميلون إلي الغش في كل شيء حتي في صرف النقود، إذ كانوا يدسون لي بينها ما هو زائف بكثرة عجيبة، وقد تعدي هذا إلي حكامهم وضباطهم وجنودهم فعرفوا بالارتشاء إلي حد باعوا معه ذممهم وذمم وطنهم، وهذا ميدان شجعه الأجانب بمالهم ليثبتوا أقدامهم في تلك البلاد».

ويري الرحالة الأستاذ محمد ثابت في شنغهاي (تكتب أيضا شنغاي)  شبيها بخان الخليلي، وهو يجيد وصف المحلات كما سعبر سعادته بها، وفي أثناء ذلك يجيد وصف مجتمعات الصينيين وملامحهم الجسدية المميزة لهم في عبارات قصيرة معبرة:

«… قصدت الأحياء الوطنية من شنغهاي، وهي بقايا المدينة القديمة المسورة، ولن أستطيع أن أصور مبلغ سروري واغتباطي، وأنا أسير بين أزقتها التي تحكي خان الخليلي عندنا، وتكاد تختنق بلوحات الإعلان المتلاصقة التي تزينها بقع ملونة من الخط الصيني الواحدة تحت الأخرى، وهناك تعرض مصورات البلاد الفنية من تصوير، وخرط، وترصيع، وخيزران، ونحاس زخرفي، ومصابيح من ورق صيني ملون، وفي كل تلك الطرق تري الجماهير الدافقة متلاصقة متكاتفة في مظهرهم الصيني البحت، عيون منتفخة، وخدود ناتئة، وأنوف نصف فطساء، وأفكاك بارزة، وقامات قصيرة، وشعر أسود حالك هادل، أما الهندام فللأغنياء والمتوسطين متشابه، وكذلك الرجال والنساء، وإن كان هندام الرجال أكثر جاذبية، والرداء قطعتان.. سروال يربط فوق العرقوبين، وهو للنساء أقصر قليلا لكي يظهر جمال الأقدام الصغيرة المشوهة! وتعلوه شبه جمازة (جاكتة) قصيرة، وفوق هذين جلباب فضفاض طويل الأكمام، مفتوح من جانبيه إلي ما تحت الساعد، ويشتبك طرفاه بالأزرار، وله باقة عالية تأخذ بمخنقهم رجالا ونساء، ويغلب أن يكون من حرير ثمين للأغنياء، وتطوي أطراف الأكمام لتقوم مقام الجيوب، وإلا حمل أشياءه في منديل قد يتبعه به خادمه، أما الأحذية فمن قماش لا يقي القدمين شر الرطوبة، ولعلها اختيرت كذلك لكيلا تشجع علي المشي الذين يعدونه عيبا يلجئهم إلي العوز، وغطاء الرأس قلنسوة من حرير، أما الفقراء فرداؤهم كأنه (البيجاما) الفضفاضة من قماش أسود لامع كالجلد، وقبعاتهم كأنها أطباق الخوص المخروطية المسننة».

أسباب الفقر الصيني

يتساءل الرحالة الأستاذ محمد ثابت عن سر الفقر في الصين مقدما تحليله الدقيق لبعض أسباب هذا الفقر، وللطريق الكفيل بالخروج منه ولو جزئيا:

«… وكثيرا ما يتساءل الناس كيف لا تفي مساحة الصين الشاسعة التي تعادل مساحة أوروبا بحاجة أهلها، وهي ذات التربة الخصبة، والأنهار العظيمة، والأيدي العاملة المتعددة التي تقدر بربع سكان المعمورة، والكنوز المعدنية الوافرة التي قيل إن الفحم وحده بها يفوق فحم إنجلترا عشرين مرة، كل ذلك ولا تستطيع تلك البلاد تموين أهلها مع أن أوروبا وهي أكثف سكانا وأصغر مساحة تمون شعوبها الغنية المعروفة، ويظهر أن السبب راجع إلي خمول الصيني رغم ما عرف عنه من صبر عظيم، فهو ظل متمسكا بوسائل الإنتاج القديمة في الزراعة، وأضحت بلاده حقلا للأرز فحسب، مع أنهم أحصوا بالبلاد نحو 12 ألف فصيلة نباتية، ولم يعن بالصناعة التي يحتقرها الجميع لأنها عمل يدوي دليل الامتهان لديهم، وهي دعامة النهوض والغني في أوروبا وأمريكا، واقتنع الملايين منهم بمزاولة مهنة (الكولي) للحمل وجر الأثقال، تلك الأيدي التي لو تضافرت علي عمل منتج لأتت بالمعجبات (أضف) إلي ذلك عنايته بالماضي، فهو يبذل (يقصد: ينفق) كثيرا علي مقابر أجداده، ونعش والديه، فحياته تفكير مستمر في الموت، وساعد علي هذا التأخر نظام الطبقات، فالممتازة المحترمة لديهم اثنتان فقط: الحكماء، والأدباء، ولايزال الجاهل يحتقر نفسه، ويقدس المتعلمين، وهؤلاء هم الطبقات الوسطي رغم أنها خير كابح في البلاد الأخرى لطغيان الطبقة الأرستقراطية، لذلك كانت لهاتين الطبقتين امتيازات يعترف بها الجميع، وهم يحتقرون العامة، ويترفعون عن محادثتهم، وكثيرا ما ركب معي أمثال هؤلاء في القطار يحوطهم جمع من الأتباع يخضعون لهم خضوعا شائنا، وكانوا يصدرون لهم الأوامر في صيغة الاستعباد الشائن، ويصعرون لهم الخد ولا يسمحون بابتسامة لأولئك البائسين، ودهشنا مرة لما رأينا أحدهم يمسح لسيده وجهه بقطيلة (فوطة) مبللة، ونحن في القطار وهو لا يكاد يتحرك تيها وعجبا! فعلي تلك الطبقات الممتازة تقع مسئولية تدهور البلاد، لأنهم بترفعهم طوال السنين عاونوا ذاك التأخر الذي أضحي مضرب الأمثال».

وفي موضع آخر يعطي الرحالة الأستاذ محمد ثابت عناية فائقة للحديث عن عادة سيئة، بل هو يسميها قبيحة، وهو ينتقد الصينيين فيها، ويعجب أن يظلوا حريصين علي الحفاظ عليها، وهي عنايتهم بصغر قدم السيدات وما يفعلونه من منكرات (علي حد تعبيره) من أجل هذا من أجل هذا الهدف الذي لا يستحق كل هذه المعاناة، لولا رسوخ العقيدة الفاسدة في أهميته!!:

«ومن المناظر التي كنت أتألم لها طوال الطريق السيدات اللواتي كن يسرن في تثاقل وئيد، والواحدة  تكاد تترنح ولا يتزن جسمها فوق قدميها اللتين لا تزيدان علي سبابة اليد طولا، وقد انحبس نموها ونمو عظامها فكان يخيل إلي أنهن يسرن فوق عصي خشبية دقيقة جامدة، وكأن ذلك قد أثر علي الساق نفسها فدقت من أسفلها ونحفت إلي حد مخيف، و يا ويلها إن حاولت الجري فإنها تتعثر بشكل بشع، والألم يبدو علي وجهها، ويكاد يكون نصف نساء البلاد من هذا النوع، والأقدام الصغيرة كانت آية الجمال لديهم، وكان يحتم الزوج أن يري قبل الزواج حذاء خطيبته فإن ظهر بعد الزواج أن قدم العروس كانت أكبر من الحذاء الذي أخده رهينة جاز له الطلاق، لذلك كانت الأمهات يبالغن في تشويه أقدام بناتهن وهن صغار، فكانت تغسل الأقدام بالماء الساخن ثم تلف حولها أشرطة من الكتان لفائف متعددة محكمة، وفي كل ليلة تعيد الأم هذه العملية لمدة ثمانية عشر شهرا، والبنت تتأوه في ألم شديد،  والأم تسترضيها بالهدايا وتمنيها بزوج قريب، ولقد حرمت حكومة الجمهورية ذلك اليوم وفرضت عليه عقوبات قاسية، علي أن ضعف سلطان الحكومة اليوم وعدم استقرارها شجع كثيرا من الأمهات أن يثابرن علي تلك العادة القبيحة، ولايزال الشبان يؤثرون في السيدات الأقدام الصغيرة، كما ثبت لي من محادثة كثير منهم».

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه