الديمقراطية ما بين جنرال فرنسا وجنرال مصر

تتشابه المشاهد السياسية في مصر مع المسلمات القدرية، بمعني أن هذه المشاهد إجبارية حتى لوكان إخراجها في شكل ديمقراطي، ومنها حتمية نجاح رئيس الجمهورية المحدد اسمه سلفا من قبل النظام الحاكم واستبعاد أي احتمال لنجاح أي منافس آخر خارج حدود رضاء اللوبي العسكري وحلفائه.
وأيضا من هذه المقدرات التي يحفظها المصريون عن ظهر قلب ويدركونها إدراك شروق الشمس من الشرق وغروبها في الغرب، هي عدم التزام رئيس الجمهورية بالمدة الدستورية المحددة لمدة الرئاسة وهي دورتان كل دورة 4 سنوات، ولا يجوز له الترشح مرة أخرى إلا بعد أن يحكم مصر حاكم آخر.
فمنذ قيام النظام الجمهوري في مصر لم يترك رئيس لمصر مقعده بسبب انتهاء مدة حكمه القانونية المنصوص عليها في الدستور، وأصبح تداول السلطة أمرا قدريا بعد أن يلاقي الرئيس مصيره إما ميتا بشكل طبيعي أو مقتولا، أو مخلوعا، أو نتيجة انقلاب وهذا لم يحدث إلا في المرة الوحيدة التي كان الحاكم مدنيا ولم يكمل حتى نصف مدته الأولى، أما باقي الحكام منذ إعلان الجمهورية المصرية فقد أدركوا مصيرهم وتركوا الحكم بعد أن تجاوزت مدة حكمهم الحد القانوني والدستوري، وجمعهم كلهم انتماء واحد للمؤسسة العسكرية، وهو ما جعل المعارضين لفكرة الحكم العسكري يؤكدون على أن الحكم العسكري لا يلتزم بالدستور ويتحايل عليه، وهذا بالفعل ما يحدث حيث يتسابق فقهاء النظام وبهاليله إلى البحث عن مبرر لاستمرار سيدهم العسكري في الحكم حتى يلاقي مصيره بعيدا عن الالتزام بالمدة الدستورية (8سنوات)، فيبدأون في ترتيب الأسباب وتفسيرها لإيجاد محلل مبرر لتجاوز القانون والدستور واستمرار العلاقة بين الحاكم غير الشرعي والشعب المغلوب على أمره.

  فريقان

والحقيقة أن السائد بين غالبية الجبهة المعارضة للحكم في مصر أن هذه الحالة هي نتيجة حتمية لما يسمى فاشية حكم العسكر، لهذا هم يوجهون كل سهام الإدانة لأي حكم عسكري في أي مكان سواء في الحاضر أو الماضي بصرف النظر عن السياق التاريخي والأحداث المحيطة بهذا الحكم، وفي المقابل يقف فريق آخر يدعم الحكم العسكري بحجة أن العسكر هم الفئة الوحيدة القادرة على الخروج بالوطن من مأزقه وحمايته من إرهاب محتملدائما !
والحقيقة أن كلا الفريقين يحمل موقفا متعصبا وغير موضوعي فشارل ديغول كان عسكريا ولم يعرقل الممارسة الديمقراطية في فرنسا ولم يكن فاشياً، بل كان له الفضل في وضع الأسس الدستورية للنظام الرئاسي وضرب مثلا في الحرص على الديمقراطية واحترام الرأي وتمسكه بتداول السلطة فاستقال عام 1969 عندما أجرى استفتاء شعبيا حول قرارات تحد من الحكم المركزي فوافق الشعب الفرنسي بنسبة لم يراها «ديغول»، نسبة مناسبة لاستمراره في حكم فرنسا، وصدام حسين لم يكن ابنا للمدرسة العسكرية بل كان خريج حقوق ولكنه كان ينتمي بقوة للمدرسة الفاشية العسكرية وحكم بلاده بالحديد والنار 25 عاما دون أي التزام بمبدأ تداول السلطة، وهذا بصرف النظر عن إنجازاته وتناقضه مع المؤامرات الاستعمارية إلا أن هذا كله كان مكبلا بالحكم الفردي الفاشي الديكتاتوري.
أما عن أن الحكم العسكري ضامن لحماية الأوطان من المخاطر والخروج بها من المآزق السياسية ولاقتصادية، فهذا وهم نسفته الكثير من التجارب ومنها مصر، فعلى سبيل المثال لم ينجح الحكم العسكري في مصر في حل مشكلة مياه النيل وسد النهضة مع دولة إثيوبيا، وهي من المشكلات التي تحتاج حلولا دبلوماسية ليست في دائرة تفكير أو خبرات الحكم العسكري المنغلق في مصر، كما أن الحكم العسكري في مصر والذي وصل أعلى مراحله فترة حكم عبد الفتاح السيسي فشل فشلا ذريعا في تحقيق أي تقدم تنموي أو أي نهضة، كما فشل فشلا ذريعا في التعامل مع كل المشكلات الاقتصادية التي تمر بها البلاد، وفي هذه الفترة شهد الشعب المصري انهيارا مبالغا فيه على كل المستويات الحياتية. 
ونفس مشاهد الانهيار الدائرة في مصر، بسبب حكم العسكريين المنغلقين، شهدتها دول عربية كانت تحت حكم عسكريين ولكن ربما مع اختلاف في بعض التفاصيل مثل ليبيا والسودان واليمن، وهو ما جعل هذه الدول بل والمنطقة المحيطة كلها ضمن تصنيف العالم الثالث.

حكم العسكر

والحقيقة أن حكم العسكر في مصر وفي كثير من الدول العربية يتصف بطبائع خاصة تجعله في دائرة مختلفة وأكثر ترديا عن المفهوم العام للحكم العسكري أو حكم العسكريين في العالم، وباختصار كان وجود العسكريين في الحكم بعد الحرب العالمية الثانية أمرا مبررا ومنطقيا، وخاصة أن معظمهم كان من المشاركين في مقاومة احتلال بلاده وقيادتها نحو الاستقلال مثل «ديغول» في فرنسا، و«تيتو» في يوغسلافيا، و«ستالين» في الاتحاد السوفياتي.
وكان أيضا من تداعيات الحرب العالمية الثانية انتهاء سياسة الاستعمار العسكري واستقلال الكثير من الدول التي كانت مستعمرة ومنها دول عربية وفي مقدمتها مصر التي قادت بعد استقلالها حركات التحرر العربي من الاستعمار، وهنا كان من الطبيعي قبول فكرة الحاكم العسكري، باعتبار أن القضية الأساسية في هذه المرحلة تتعلق بالاستقلال والتحرر.
ومن الطبيعي أن يرتبط وجود أي نظام بالظروف وبالسياق المحيط به وينتهي أو يتطور بتغير هذه الظروف والسياقات وتطورها، وهذا ما حدث عندما اتجه العالم في السبعينيات نحو العلم والتنمية والصناعة وعرف السياسات الاقتصادية المنفتحة الجديدة، لهذا انتهت ضرورة حكم العسكريين، بل إن وجودهم أصبح معرقلا لمتطلبات النظام العالمي الجديد وهو ما أدركته معظم دول العالم ما عدا الكثير من الدول العربية ومنهم مصر فظل الحكم العسكري مستمرا رغم انتفاء ضرورة وجوده، وكانت هذه هي الكبوة الكبرى والكارثة التي أحاطت بالمنطقة العربية فدمرتها ودمرت مستقبلها وأضعفتها، فأصبحت معظم دول هذه المنطقة تحت هيمنة وسيطرة استعمارية من الدول المتقدمة بأشكال جديدة مختلفة عن الشكل العسكري، وهذا ما يفسر مثلا هيمنة الولايات المتحدة على معظم الدول العربية، وسيطرة دول الغرب على كثير من الدول العربية وصلت إلى حد تقسيم النفوذ على هذه الدول بينها.

الديمقراطية أشد أعداء الفاشية

وللأسف فإن كثيرا من الدول الكبرى والمتقدمة والمتشدقة بالحريات والعدالة الاجتماعية والديمقراطية لاتمارس هذه المبادئ خارج حدود بلادها ولا تدعمها في بلدان العالم الثالث الواقعة تحت الحكم العسكري الفاشي، بل على العكس ربما تدعم هذه الأنظمة الفاشية وتساعدها في قمع شعوبها بل وتظلها بمظلة الشرعية وتحميها.
وتفسير هذا التناقض في سياسات الدول الكبرى هو إدراكها أن تيارات التحرر والاستقلال والحكم المدني لو سادت في هذه الدول وساد فيها الحكم الديمقراطي الشعبي المستقل، لن تسمح باستمرار الهيمنة الاقتصادية والسياسية من الدول الكبرى عليها، ولفقدت الدول الكبرى مصدرا من أهم مصادر مواردها القائمة على استغلال هذه الشعوب الواقعة تحت حكم أنظمة تابعة.
لهذا نجد أن هذه الدول مع كل مظاهر التحرر فيها تدعم حكاما فاشيين وتمدهم بكل المساعدات لاستمرارهم في قمع شعوبهم، في حين يرى هؤلاء الحكام الفاشيون في قمع شعوبهم واستغلالهم قربانا يقدمونه للدول الكبرى مقابل تأمين استمرارهم في الحكم وقمع هذه الشعوب، لتلتقي مصالح المستعمر المستغل مع الفاشي الخائن.
ولهذا فإنه من المنطقي أن تجد دولة مثل أمريكا التي تتخذ تمثال الحرية رمزا لها وتحرص على تداول السلطة بها، تعطي الضوء الأخضر لمسؤولين مصريين لتعديل الدستور لبقاء «السيسي» في الحكم مدى الحياة، وهو الأمر الذي سافر من أجله أحد المسؤولين المصريين لواشنطن وقابل مسؤولين أمريكيين بهدف شرح أهمية استمرار «السيسي» في الحكم مددا غير محدودة وهذا يتطلب تعديل الدستور، واكتفى  الأمريكيون بتقديم إجابات محايدة دون الدفاع عن مبادئ الحريات التي حاولوا نشرها في العالم في بداية القرن العشرين، وقامت عليها الدعاية الرئيسة لدولتهم كرمز للحرية في العالم، وبالطبع اعتبرت القاهرة الإجابات المحايدة ضوءا أخضر للمضي قدما في تعديل الدستور واستمرار الحاكم العسكري في الحكم مددا غير محددة، ورفع شعار جديد وهو «تعديل الدستور وعدم تحديد مدة الرئاسة أمر يتناسب مع الدول حديثة العهد بالديمقراطية»!!
وأعود مرة أخرى لتأكيد أن الفارق بين سياسة حاكم عسكري مثل «ديغول» في منتصف القرن العشرين وتنحيه عن الحكم طواعية لتأكيد مبادئ الديمقراطية، يختلف عن سياسة حاكم عسكري مثل «السيسي» في النصف الأول من القرن الحادي والعشرين وإصراره على الاستمرار في الحكم لتدمير مبادئ الديمقراطية.
انها المسافة بين شعوب فرضت إرادتها، وشعوب ما زلت تسعى بكل جهدها وبنضال لا يتوقف من أجل فرض إرادتها ونيل حريتها.
 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه