الخيانة العظمى بين ليبيا وإثيوبيا وآيا صوفيا.

أيا صوفيا

الساحر أحد أدوات الحاكم الفاسد؛ ظهر ذلك كثيرا في التاريخ، وأكدت عليه قصص القرآن الكريم.

ذكر علماء التفسير أن سبب قصة أصحاب الأخدود، التي خلدها القرآن، أن ساحرا كان في حاشية الحاكم ومن خاصته، ولما تقدم به السن طلب منه غلاما يعلمه المهنة ليكمل معه المهمة.

وفي قصة موسى عليه السلام لما أظهر لفرعون الآيات البينات، والمعجزات الواضحات، نصحوه بالرد عليه بسلاح السحر (قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ. يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ) وذلك لما يملكه السحرة من القدرة على قلب الحقائق والتأثير على الرأي العام

(فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ)

سلاح التخييل، والسيطرة على المشاهد ببث الخوف والرعب، وبذلك يتمكن الحاكم الظالم من رقاب الناس، وسوق الجماهير واستعبادها.

وفي العصر الحديث رغم انتشار العلم، وانحسار الجهل، بقي في حاشية حكام الجور من يقوم بنفس الوظيفة، ويؤدي الدور الأكبر، والتأثير الأعظم، في صورة جيل جديد من السحرة، لا يستعينون بالجن والمردة، لأنهم مردوا على النفاق، ولا يستخدمون الكتب والتعاويذ، وإنما يستخدمون الكتابة والصحافة، والإذاعات والشاشات، حتى أصبح مصطلح “سحرة فرعون” من المعرفات لكتاب السلطة وإعلام الدولة، الذين أتقنوا صناعة الكذب، وتزييف الحقائق، وإلباس الباطل ثوب الحق، وصرف أنظار الناس عن قضاياهم الأصلية، إلى مسائل فرعية أو ثانوية !

وأوضح الأمثلة على هذا الواقع البئيس، ما يعيشه الشعب المصري الذي طحنه الفقر، ونهشه المرض، من كل صوب وحدب، ثم أطبقت عليه الجائحة العامة التي فشل النظام في التعامل معها من البداية، وظل محافظا على نفس معدل الفشل، واستغلها فرصة للاقتراض من الصناديق الدولية، مضاعفا للديون الخارجية، تحت ذريعة مكافحة الوباء.

وضَيَّقَ الخناق، وزاد من حجم الكارثة، أن إثيوبيا استغلت انشغال العالم بأزمة كورونا، وسرّعت وتيرة العمل في سد النهضة، وكثفت الجهد لاختصار مراحل إتمام السد، في جو من الغطرسة تحمله تصريحاتهم الإعلامية، كالتلويح بالجاهزية العسكرية، وعدم الاعتراف بأن مصر لها أي حقوق تاريخية، وأن القبول بالجلوس على مائدة المفاوضات، لا علاقة له بالخطة التي وضعتها لتخزين المياه خلف السد !

ويظهر العجب في تبادل الأدوار حيث يصرح “أبي أحمد” صاحب نوبل للسلام بالحل العسكري والاستعداد لذلك إلى آخر نقطة دم، والقيادة المصرية “العسكرية” متمسكة بسلاح المفاوضات إلى آخر نقطة ماء !

مناصرة حفتر

ثم جاءهم الفرج، للتغطية على كل مظاهر الفشل، الصحي والاقتصادي والاجتماعي، والأمن المائي الذي يمثل قضية حياة أو موت بالنسبة للمصريين، فتمت إزاحة ذلك كله لصالح التفرغ لمناصرة الجنرال المتمرد خليفة حفتر، ووقف مسلسل هزائمه في ليبيا !

وهنا جاء دور سحرة الإعلام الذين سحروا أعين الناس، وحولوها عن مسلسل الوفيات المتسارع، وتفشي العدوى بفيروس كورونا، وعجز المنظومة الصحية، ونزيف موت الأطباء ومعاونيهم، ثم استرهبوهم بأن الخطر الأكبر الذي يتهددهم يتمثل في ليبيا وليس إثيوبيا!

لا ينكر أحد أهمية الملف الليبي، وأنه جزء من الأمن القومي المصري، ولكن محاولة التغطية به على باقي الملفات، عجز وخيانة، ولا يخفى على عاقل أن بواعث التدخل هي الاستجابة لإنقاذ مشروع الإمارات واستثمارها الذي بدأ ينهار في ليبيا، والتعاطف العسكري مع فكرة انقلاب حفتر على الحكومة الشرعية، التي تتعامل معها مصر والإمارات داخل جامعة الدول العربية كممثلة لليبيا، ويحاربانها على الأرض.

وجد الإعلام المصري بغيته في الاشتباك مع تركيا، التي تساند حكومة الوفاق حسب اتفاق الدفاع المشترك بينهما، منددين بتدخل العثمانيين في الأراضي العربية، متناسين عصابات فاغنر الروسية، ومرتزقة الجنجويد والأفارقة، وطيران الإمارات ومعداتها، ومنددين بوجود العثمانيين في طرابلس. وهنا دخلت على الخط دار الإفتاء المصرية، مؤازرة لإعلام النظام في هجومه على تركيا، ومذكرة بأن هذا دأب العثمانيين، فقد احتلوا القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية، وحولوا كنيستها العظمى “آيا صوفيا” إلى مسجد! في مخالفة واضحة للأحاديث النبوية، التي بشر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتح القسطنطينية، ومدحه لقائد الفتح وجيشه: “لتفتحن القسطنطينية نعم الأمير أميرها، ونعم الجيش ذلك الجيش ” رواه أحمد والحاكم وصححه.

ومع غضبة المسلمين على وسائل التواصل ضد السقطة الكبيرة، تراجعت دار الإفتاء تصحيحا للخطأ، مع الإصرار على المناكفة السياسة، والمشاغبة بحشر اسم الرئيس أردوغان في السياق، وإنكارها عليه استخدام الدين في السياسة، رمتني بدائها وانسلت!

 لأن بيانها الأول، وبيان التراجع عنه، تخطى خلط الدين بالسياسة، إلى خلط الدين بالسياحة، والدعوة إلى بقاء “آيا صوفيا” متحفا ومزارا، معلنة اعتراضها على عودته مسجدا تقام فيه الصلاة، كما كان لمدة 481 سنة، قبل أن يحوله أتاتورك إلى متحف سنة 1934.

سر الغضبة الغربية

ولا أدرى سر الغضبة الغربية العارمة تجاه هذا الأمر، مع أن بعض الكنائس التي لا تقل اهمية عن آيا صوفيا اشتراها الأتراك في أوربا بعدما هجرها روادها، وعرضت للبيع، وحولوها إلى مساجد، وقد صليت وخطبت في بعضها مثل كنيسة “فيسبادن” مقر إقامة القيصر في ألمانيا، وعاصمة ولاية “هيسن” الآن، وكذلك كنيسة “روتردام” الكبرى، ثاني أكبر مدن هولندا، وفيها أكبر موانيها، وفي المقابل حولت أوربا مئات المساجد التي استولت عليها إلى كنائس وأغراض أخرى، وهو الواقع في إسبانيا، ومساجد الأندلس خير دليل على ذلك.  

جدير بالذكر أن مجلس الدولة (أحد المحاكم العليا في تركيا) سينظر في الثاني من الشهر المقبل القضية المرفوعة ضد قرار مجلس الوزراء عام 1934، الذي قضى بتحويل “آيا صوفيا” من مسجد إلى متحف، وكان الرئيس أردوغان، قد كلف المحامين لدراسة الوضع القانوني بشأن “آيا صوفيا”، وبحث إمكانية إرجاعها إلى ما كانت عليه منذ فتح “القسطنطينية” على يد محمد الفاتح، مؤكدا أن القرار جزء من السيادة التركية، ولا يسمح لأحد بالتدخل فيه.

وذلك ردا على الحملة الإعلامية التي شنتها اليونان، ولم يدر بخلد أردوغان أن تتبنى الحملة دار الإفتاء، المعبرة عن العلماء في مصر !

أفلح السحرة في تجييش الناس ضد ليبيا وليس إثيوبيا، وصرف الأنظار إلى العثمانيين، وليس إلى ضياع مياه النيل !!

إهمال ملف سد النهضة، والتفريط في  النيل، والانشغال عنه بغيره، ليس خللا في ترتيب الأولويات، وإنما هو الخيانة العظمى، والهروب من المسئولية الكبرى، ومحاولة للتغطية على الفشل الذريع.

سوابق هذا النظام في التنازل عن تيران وصنافير، وترسيم الحدود المائية مع قبرص واليونان، يجعلني أكاد أجزم أنه نفض يده من موضوع سد النهضة، يوم أن رضي باليمين الغموس، التي أقسمها رئيس وزراء إثيوبيا قبل عامين من الآن.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه