“الحبيب بورقيبة” ثائر من القرن السابع عشر في القرن العشرين

 

تُمثل تجربة الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة 1903- 2000 الذي تولى رئاسة تونس لأكثر من ثلاثة عقود ١٩٧٥- ١٩٨٧ في رأيي المتواضع مرحلة مهمة من مراحل التنمية في العالم الإسلامي، وهي مرحلة المراهقة التنموية، حين يظن صاحب التجربة أن من واجبه على نفسه وأن من حقه على شعبه أن يخوض ما يراه واعدا على حساب ما هو واجب.

هذا الصراع بين الواعد والواجب هو جوهر ممارسات المراهقة حين تعمد إلى الانفلات من الثوابت أو المبادئ أو القيم التي يُلزمها المجتمع بها أو التي يُلزمها المجتمع الأبوي بعدم الخروج عنها، أو عليها، ومع هذا فإن الشعور بالحاجة إلى اللذة عند تحقق رغبات المراهقة تدفع صاحب التجربة إلى تخطي كل الحواجز ليحصل على النجاح المتولد عن  تحقق اللذة سواء تمثل هذا النجاح في تقدم كلي أو انتقال إلى مرحلة سابقة في القيمة الحضارية أو تمثل في تحقيق معدلات نجاح محسوبة أو الوصول إلى معدلات قياسية مرصودة، أو حتى إن كان النجاح قد تمثل في تخطي المراحل المُفترضة من أجل الوصول إلى النجاح فيما يعرفه علماء السياسة على أنه حرق للمراحل وقفز على الترتيب التقليدي لهذه المراحل على نحو ما وصفها علم الاجتماع السياسي.

كفره بالديموقراطية لا يقل عن كفره بالتراث

لا يزال الليبراليون و العلمانيون  يقدمون صورة زاهية للرئيس الحبيب بورقيبة غير أني لا أرى في الصورة التي يقدمونها إلا صدى لإعجابهم القاصر بما يقدمه لهم الماركسيون من دواعي الإعجاب المعولب بأي موقف لا إسلامي  أو بالأحرى معاد للإسلام ، ومع أن الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة  كان معذورا بدرجة ما بسبب  تواكب وجوده مع عصر طغيان الانقلابات العسكرية  ومع طغيان روح ذلك العصر العسكريتاري فإن المعجبين الآن بديكتاتوريته ليسوا معذورين بأي حال من الأحوال ، ولنقرأ على سبيل المثال هذه الفقرة المكتوبة للحبيب بورقيبة  وباسمه حين يقول :  ” لا أعتقد إن الوقت ملائم للحديث عن الديمقراطية في مفهومها المطلق، فالمجتمعات العربية همشت مفكريها وعلماءها الحداثيين لحساب شيوخ توقف الزمن بهم قبل أربعة عشر قرناً، وهو الفارق بيننا وبينهم.. لذا وجب العمل على نشر ثقافة أكثر واقعية، يكون فيها للعلوم الحديثة مكان أوفر.. فخذ مثلاً، لو طلبنا من الشعب التونسي إجراء استفتاء عن موقفه من تعليم المرأة، فسأجزم إن 99.99 ٪ سيرفضون تعليمها” .

ولهذا السبب أو بسبب هذا الفهم فإنه هو نفسه كان يقول: ” سأفرض حرية المرأة وحقوقها بقوة القانون.. لن أنتظر ديمقراطية شعب من المنخدعين بالثقافة الذكورية باسم الدين”

خلطه بين النشاط المطلوب والروتين المعتاد 

على صعيد آخر فقد كان الرئيس الحبيب بورقيبة (شأنه في هذا شأن كل من عاشوا بعض شبابهم في المجتمعات الغربية )  يتمنى لوطنه روحا من العمل والنشاط التي يراها في فرنسا ولهذا فإنه كان لا يتصور أن هذا النشاط الذي رآه هناك يمكن أن يتحقق إلا في ظل نفس الروتين الفرنسي في الحياة حتى لو كان هذا النظام أو الروتين اليومي يتخطى خصوصيات التربية الإسلامية في اليوم العادي أو اليوم الرمضاني ، وهكذا فإنه كان يظن أنه لا بد له من هدم أي نظام يومي غير النظام الفرنسي كيلا يكون هناك ما يحول في رأيه دون الوصول إلى المُعدّلات المُتاحة في المجتمع الفرنسي، ولو أن الرئيس الحبيب بورقيبة  عرف في حياته المبكرة العوائد الصحية و الطبية لكثير من شعائر الإسلام أو لكثير من عادات المجتمع التونسي لعلم أنه كان بسلوكه الساعي إلى تحقيق ثروة معقولة كان يُدمّر عوامل تكوين ثروة أكبر بكثير من تلك التي تصور نفسه مطالبا بالحصول عليها في وقت معين.

تصوره للعلاقات الاجتماعية

كان تصور الرئيس الحبيب بورقيبة  للعلاقات الاجتماعية يقوم على إطلاق الحرية الواسعة في هذه العلاقات على نحو ما رآه في فرنسا، ومع هذا فإنه لم يكن قادرا على تصور أن الحرية القانونية شيء وأن الحرية التربوية شيء آخر، ولم يكن بقادر أيضا على أن يتصور أن الحرية الاجتماعية فرع من الحرية السياسية حتى لو بدا أنهما أمران متوازيان ومتساويان، ولو أدرك هذه الحقيقة لعلم أن كل ما كان يطلبه تحت مظلة الحرية الاجتماعية كان محكوما عليه بالفشل لأنه هو نفسه قيد الحريات السياسية على نحو لا تقبله السياسة الحرة ولا تقبله التطلعات الفكرية التي تراود أبناء شعب متصل بالحضارة ومتصل بالغرب ثم متصل بالإعلام والسينما وكل ما يصور حدود الحرية المتاحة في خارج أسوار أجهزة الدولة التونسية إن جاز التعبير.

إفراطه في الاعتماد على تغيير التشريعات

كان الرئيس الحبيب بورقيبة  يظن التشريع هو الأداة الأكثر نجاحا في تحقيق سياسات النهوض المُجتمعي ، ولو علم أن القانون يستنبط نفسه بنفسه بحكم التقدم بأكثر مما يُحقق التقدم ما أتعب نفسه في هذا الصراع الذي جعله ينصرف عن التنمية إلى التشريع ، وجعله ينصرف أيضا عن تأصيل العلم الحقيقي الجالب للتمدن الأصيل و المستدام إلى فرض نوع من التمدن الوقتي المستورد الذي كان التمدن الأصيل كفيلا بأن يتخطاه بسهولة لو أن الرئيس الحبيب بورقيبة  استوعب التجربة اليابانية  على سبيل المثال، لكنه ظل أسيرا للتجربة الفرنسية في المقام الأول وكان يراها عن حق أقوم سبيلا من التجارب الأمريكية والسوفييتية بتكاليفها الباهظة وقد كان مُحقا في هذا الذي رتآه حسب معطياته لكنه مع هذا لم يُدرك جوهر الحقيقة ولا جوانبها الخصبة والملحة في خصوبتها القادرة على التوليد والتجديد وليس على التحديد والتقييد، وهما الأسلوبان اللذان فرضا نفسيهما على الرئيس الحبيب بورقيبة  وجعلاه يميل إلى إحداث تطور محدود في التقدمية.

 وجوده في المجال المغناطيسي لجاذبية المراهقة الفكرية

يقودنا التأمل الهادئ للتجربة البورقيبية الغنية بالعناصر الجوهرية إلى مضمونها ومُبتغاها ، فإذا أردت أن تواصل فهم توجهات الرئيس الحبيب بورقيبة  في سعيه إلى المراهقة الفكرية التي كانت تدفع به إلى أن يُلزم المجتمع التونسي بالانتقال إلى النمط الغربي في الحياة الاجتماعية فإنك ستذهل إذا اكتشفت أن الرئيس الحبيب بورقيبة  في أهدافه الكبرى لم يكن يريد دخول عصر الفضاء ولا العصر النووي ولا أي عصر من عصور السيطرة والقوة  والمنعة ولا حتى عصور الوفرة والثروة والمتعة ، وإنما كان يريد أهدافا نبيلة من قبيل تحسين مستوى الخدمات وتحسين مستوى التعليم ورفع مستوى المعيشة وهي أهداف كانت تتحقق في القرن السابع عشر على نحو يوفر مخزونا من الخبز فلا تحدث الثورة الفرنسية ، ويوفر التعليم فلا تحدث الوباءات المرضية ،ويوفر مخزونا من  الطعام والماء يكفل منع المجاعات والجفاف..

وإذاً فلم يكن الرئيس الحبيب بورقيبة يستهدف سيطرة إمبراطورية ولا نفوذا إمبرياليا ومع هذا الخُلو من السُفه المأخوذ أو المفتون بالسيطرة مما يُحسب للرئيس الحبيب بورقيبة وعقله واتزانه وموضوعيته، فإنه من ناحية أخرى كان يُفقده المبرر القوي في توجهه نحو اللجوء إلى القوة (ولو كانت نصا قانونيا فحسب) في تغيير عادات مُجتمعه الإسلامي بحيث يفرض على أبناء هذا المجتمع ترك الفروض كفرض الصوم، أو تقليلها كتقليل الصلاة أو النظر في جدواها الحقيقية على نحو ما فعل مع الحج.. كان الرئيس الحبيب بورقيبة في نظراته واجتهاداته في كل هذه الموضوعات ينطلق في أفق ضيق.. وأنا أستخدم حرف الجر (في) ولا أستخدم حرف الجر (من) لأعني أنه كان ينطلق من أفق ضيق إلى أفق أكثر ضيقا ولم يكن ينطلق من أفق ضيق إلى أفق واسع..

كان يجهض تجربته بنفسه

بهذه المفاهيم الرجعية كان الرئيس الحبيب بورقيبة يحكم على تجربته بمقاييس عصر انتهى وانتهت صعوباته ولم يكن يُدرك أن الإنسانية نفسها قد ارتقت وتجاوزت هذه المراهقات التي تظن نفسها مراجعات.. ذلك أنه في العصر الذي يشهد زيارة الملايين المملينة ( ولا نقول الآلاف المؤلفة ) لبرج إيفل أو متحف اللوفر يُصبح الحديث عن تقليل أعداد الحجاج والمُعتمرين نوعا من الخبل الذي يصل إلى حد السفه بل يصل إلى حد الجنون، فالأمر بالمنطق المادي البحت (وبعيدا عن روحانيات الإسلام و فروضه وفرضياته وسننه) هو أمر رحلة جميلة ميسرة في عصر الاتصالات وهو أمر تتنافس فيه الدول والمؤسسات من أجل إتاحة الفرصة للجماهير للاستمتاع بهذه الرحلة والإكثار منها لأنها تقوم بوظائف الرحلة التي هي في حد ذاتها ركن ركين من أهم مقومات الحضارة الحديثة.

عيوب عصره العربي كرست له مآخذ فكره

ومن المؤسف أن الرئيس الحبيب بورقيبة عاش العصر الذي كان قد فرض (بطريقة ناعمة) مفاهيم آليات التقليل الخفي من أعداد الحُجّاج والمُعتمرين، وعاش العصر الذي كان فيه زعماء من طراز الرئيس جمال عبد الناصر يتعاملون مع الحج على أنه أمر سياسي يدخل في نزاعاتهم العربية المشتركة القاصرة عن الفهم وعن الإقناع.

وهكذا فإنه بدلا من أن يتطور حب الرحلات في فكر الرئيس الحبيب بورقيبة  الذي عاش صورة الحضارة الارتحالية في أوروبا ، وهي الحضارة التي تقدس دور الرحلة والسفر وتبني من خلالهما كثيرا من مقومات شخصيات أبنائها على ممارسة متكررة ودورية للسفر والرحلة والكشف والتخييم …الخ ) و بدلا من أن يكون هذا التطور أكبر مُشجع له أو أكبر دافع له على أن ينتبه بعمق ويقين إلى أن تؤدي رحلات الحج والعمرة أهدافها الاتصالية والاجتماعية والحضارية ، إذا به يبدو وكأنه  يُحارب المظهر الديني محتجا بعقلية متأثرة بالقرون السالفة ، حين كانت وسائل الاتصال لا تزال على تخلفها وخطورتها مع قطع الطُرق وصعوبة تأمينها.

كان نموذجا لمن لم يعرفوا العلم التجريبي في عصر العلم

تستطيع أن تعتذر عن الرئيس الحبيب بورقيبة  بذكر حقيقة فهمه وهي أنه لم يتصل في دراسته بالعلم التجريبي من قريب ولا من بعيد وإنما كان مُتصلا شأنه في هذا شأن علماء الدين القُدامى بالعلوم القديمة التي يمكن لنا وصفها بالقول الطريف الذي وصف علم النحو وأشباهه من العلوم المستقرة بأنه علم نضج واحترق، وهكذا لم تكن عقلية الرئيس الحبيب بورقيبة  قادرة على أن تستوعب تطورات العصر ، ولك أن تقارنه في هذا الجانب بالرئيس مبارك أو الرئيس الأسد الذين كانت معرفتهما بالطيران تقودهما إلى معرفة تطوراته المعتمدة على فورة التكنولوجيا لا ثورتها فحسب ، ومن ثم فإنه ظل حتى آخر أيام حكمه قادرا على أن يفهم ما يتيحه التطور التكنولوجي من نسف الصعوبات القديمة أو من القدرة المتجددة على نسف هذه الصعوبات. ومن الواجب أن ننتبه إلى أن هذه المزية كانت تعوز الرئيس الحبيب بورقيبة في كثير من تصريفه للأمور بينما كان الرئيس مبارك أو الرئيس الأسد يستطيع أن يقول بثقة في مناقشة من المناقشات إن هذه الصعوبة التكنولوجية أو الاتصالية انتهت، أو إنها لم تعد دافعا إلى وضع خطة لمجابهتها أو البناء على وجودها.. بينما كان الرئيس الحبيب بورقيبة لا يزال جامدا في كل متابعاته جمود الأقدمين بحكم ما افتقده من قدرة على التواصل مع آفاق العلم التجريبي وتجلياته وتطبيقاته.

ومع هذا كان نموذجا للتعقل

مع كل هذا الذي ذكرناه عن الرئيس الحبيب بورقيبة  فإنه في عصره كان نموذجا للعقل والتعقل ، ولهذا فإنه كان أكثر قبولا لدى الجماهير العربية من العسكريين على الرغم من تشبع هذه الجماهير بالديماغوجية الناصرية، وأقصى ما كان يُوجه إليه من نقد هو السخرية  من كبر سنه أولا (ولد 1903) ومن مرض قلبه ثانيا (وهو ما لخصه الرئيس عبد الناصر (بطريقته الفظيعة في إحدى خطبه ) فقال عند ذكر اسم الرئيس الحبيب بورقيبة  في سياق حديثه : آه يا قلبي ، والسخرية ثالثا من توجهه القائل بالتفكير في قبول قرار مجلس الأمن بتقسيم فلسطين في 1948 وقد صور هذا الرأي الذي أبداه الرئيس الحبيب بورقيبة  في شجاعة ووضوح وهدوء في مدينة أريحا 1966 على أنه الكفر نفسه بينما كان الذين هاجموه قد أعطوا إسرائيل بالاتفاق أو الصمت أكثر مما أعطاهم قرار التقسيم، بل ومنعوا (فيما قبل 1967) قيام دولة فلسطين وهو المنع الذي لم يكن يفيد أحدا إلا إسرائيل،  ومع هذا فإن العرب في غفلتهم وديماجوجيتهم وإعلامهم الزاعق صوروا لأنفسهم أن الرئيس الحبيب بورقيبة  أقرب إلى الخيانة وأن العسكريين الذين أفادوا إسرائيل بسياسات مكتوبة هم الأقرب للشرف.

لكنه ظل أسيرا للديماجوجية

ومن العجيب أن الرئيس الحبيب بورقيبة ظل أسيرا للصدمة الديماجوجية التي أصيب بها في ١٩٦٦ إن صح هذا التعبير، فحين أنجز الرئيس السادات ما أنجزه في حرب أكتوبر 1973 ثم في كامب ديفيد كان الرئيس الحبيب بورقيبة بعيدا تماما عن المساعدة مع أنه كان قادرا على المساعدة كما كان بعيدا عن المشاركة مع أنه كان متوقعا منه أن يشارك.. بل إن الرئيس الحبيب بورقيبة في ظل بقاء أثر صدمته المبكرة عندما ألقى خطبته الشهيرة في أريحا في 1966 آثر أن ينضم إلى العسكريين وأشباههم من الشموليين الذين رأوا وقرروا ونفذوا مقاطعة مصر عقابا على توجه رئيسها.. صحيح أنهم قالوا (وفي هذا القول إثم كبير) إن الرئيس الحبيب بورقيبة كان هو الوحيد المستفيد لأن الجامعة العربية انتقلت من القاهرة إلى تونس بيد أن خسارة الرئيس الحبيب بورقيبة المثقف الطليعي لنفسه كانت أفدح بكثير من أن يصبح وزير من وزرائه هو الشاذلي القليبي أمينا عاما للجامعة العربية فحسب.

صحيح أن سن الرئيس الحبيب بورقيبة في ذلك الوقت كان قد ناهز الخامسة والسبعين (فقد ولد كما ذكرنا في 1903) لكن أي مثقف قارئ لم يكن يتوقع أن يكون الرئيس الحبيب بورقيبة واحدا من طابور المرتلين وراء الرؤساء القذافي وعلي عبد الله صالح وصدام وحافظ الأسد.. الخ.

الأثر السلبي لانتقال الجامعة العربية إلى تونس

وقفت سياسات التحديث البورقيبية فجأة في منتصف الطريق، عند تلك النقطة الواعدة، فقد أصبحت تونس بحكم انتقال الجامعة العربية إليها مشاركة (وإن كانت مشاركة مكانية فحسب) في حركة رمال الصحراء العربية وفي هجير هذه الصحراء التي كانت تعاني من تربصات العسكريين العرب ثم جاءت مشاركاتها في الصراع العربي الإسرائيلي فترة الثمانينات لتفتح عليها أبواب تعاملات اقتصادية وورطات استراتيجية.

 وصحيح أن نظام الرئيس الحبيب بورقيبة كان من الذكاء بحيث لم يورط نفسه، لكنه لم يكن بأي حال من الأحوال يستطيع أن يُنكر أن الاغتيالات الإسرائيلية لنجوم منظمة التحرير الفلسطينية تمت على أرضه، وأن بعض الخطط المستهدفة لمنظمات الفلسطينيين انطلقت من أرضه، وهكذا أصبحت تونس بؤرة نشاط دون أن تكون في المقابل بؤرة تفكير أو بعث صوري أو بعث ثوري أو بعث جهادي أو إصلاحي.

ولهذا السبب فإنك تستطيع أن تتصور بكل بساطة أن تونس في نهاية الأمر استقبلت قرار عودة الجامعة العربية إلى القاهرة استقبالا مريحا بل وربما مرحبا.

أما نظام الرئيس الحبيب بورقيبة الاقتصادي أو نظام تونس الاقتصادي في عهد الرئيس الحبيب بورقيبة فقد أخد من آليات الاشتراكية مجموعة منتقاة من الآليات بما يتوافق مع حكم الفرد وحكم الحزب الواحد والبعد عن تداول السلطة وذلك تحت شعار العدالة الاجتماعية وهي الخلطة المراوغة التي أخذ بها معظم زعماء العالم الثالث.

هل كانت البورقيبية إحدى تجليات اشتراكية العالم الثالث؟

كان نظام الرئيس الحبيب بورقيبة أحد تجليات ما أُسميه اشتراكية العالم الثالث وهي الاشتراكية الكفيلة بدعم اللاديموقراطية ومحاربة الديموقراطية وصندوق الانتخابات، وهذا هو أدق تعبير مُتاح، وهو في رأيي أدق من أن نشتق لها مصطلح الاشتراكية الدكتاتورية ذلك أن الاشتراكية بطبعها تلتقي مع الديكتاتورية في كثير من النقاط لكنها ليست مُنتجا حتميا للدكتاتورية كما أنها ليست منتجا اختياريا للدكتاتوريات بحيث يمكن أن نقول إن هناك ديكتاتورية اشتراكية وديكتاتورية لا اشتراكية. أما المعنى الذي أوجده الرئيس الحبيب بورقيبة مبكرا وتبعه كثيرون من أمثاله فهو الاشتراكية اللاديموقراطية أي الاشتراكية المواكبة لانعدام الديموقراطية، ونحن  نعلم أن الفجور كان قد وصل ببعض أنداد الرئيس الحبيب بورقيبة (ممن حازوا من التصفيق أكثر مما حاز) إلى فكرة لم يتورط فيها الرئيس الحبيب بورقيبة لا سياسيا ولا علميا وهي الادعاء الفاجر بأن هذه الاشتراكية اللاديموقراطية هي البديل للديموقراطية السياسية ومن ثم فإنهم أطلقوا عليها الديموقراطية الاجتماعية.  ومن الإنصاف أن نقول إن الرئيس الحبيب بورقيبة لم يصل إلى هذا التلاعب أو التدليس الفكري أو السياسي.

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فإن الرئيس الحبيب بورقيبة لم يدخل في أي نزاع مع الاتحاد السوفياتي فإنه لم يقم معه علاقات اقتصادية أو عسكرية.

وخلاصة القول في هذه الجزئية وغيرها، هي أن الرئيس الحبيب بورقيبة كان مجتهدا بقدر ما علم، وهو قليل بالنسبة إلى عصره، مجتهدا بقدر ما حلم وهو قليل جدا بالنسبة إلى عصره .. وكان افتقاده للعلم والحلم أكثر من افتقاده للكفاءة التي لم تكن تنقصه أبدا وأكثر بكثير من افتقاده للادعاء بالوطنية الذي لم ينخرط فيه لأنه كان في واقع الأمر (ومهما افترى عليه خصومه) وطنيا حقيقيا وكان مخلصا ما وسعه الإخلاص وما استطاعه.

كان الرئيس الحبيب بورقيبة جادا في القضاء على معارضيه وخصومه السياسيين بمن فيهم كل رفاق الكفاح من أجل الاستقلال، وخاصة من عرفوا بـ”اليوسفيين”، أي أتباع صالح بن يوسف الذي اغتيل في فرانكفورت بألمانيا في أغسطس 1961.

ألغى الرئيس الحبيب بورقيبة معظم الحريات الأساسية وفرض الرقابة على الإعلام، و جمّد نشاط الحزب الشيوعي عام 1962، ثم حارب الإسلاميين بشراسة فيما عرف بحركة الاتجاه الإسلامي .  وفيما بعد ذلك كان من المتوقع أن ينحو في السياسة شمولا في الواقع  ، ويمينا في المال، ويسارا في الظاهر ، و قد فعل : حيث أقر نظام الحزب الواحد / وتحالف مع الاتحاد العام التونسي، وشرعن ذلك بتعديل دستوري في 27 ديسمبر 1974 سمح له برئاسة الدولة مدى الحياة.

ميله للأوتوقراطية

في واقع الأمر فقد كان الرئيس الحبيب بورقيبة  في مُجمل فترة رئاسته ميّالا للحكم المُطلق وليس أدلّ على هذا من أنه وحتى عام 1979 جمع رئاسة الوزارة مع رئاسة الجمهورية وكأنه يتبع النظام الرئاسي الأمريكي لكنه كان في الحقيقة ينهج النهج الذي آثره الرئيس جمال عبد الناصر وآثره الرئيس الفريق عبود في السودان كما آثره الملكان السعوديان.

ولما بدأت مظاهر التخلي عن هذا الجمع واضحة في باريس وغيرها بعد تنحي  ديجول (أبريل  1969)  اتجه الرئيس الحبيب بورقيبة  إلى اختيار رؤساء وزراء من طبقة رفيعة تفوق طبقة نُظرائهم في البلدان العربية فكان منهم الباهي الأدغم (نوفمبر 1969 ـ نوفمبر 1970 ) الذي شارك في وفد الجامعة العربية لحل مشكلة أيلول الأسود في 1970 والهادي نويرة وهو أطولهم عهدا (نوفمبر 1970 ـ أبريل  1980) ثم محمد مزالي المثقف المعروف الذي بشر به المثقفون ليكون خليفة للرئيس الحبيب بورقيبة  فأحرقوه دون أن يدروا خطورة ما يفعلونه بقصر نظرهم المعتاد (أبريل  1980 ـ يوليو 1986) ثم رشيد صفر أقلهم حضورا (يوليو 1986 ـ أكتوبر 1987) ثم جاء زين العابدين ليلبث في رئاسة الوزارة 35 يوما فقط أتم فيها انقلابه (الطبي) على الرئيس الحبيب بورقيبة ، وكانت خطة انقلابه الطبي بمثابة  مشروع متاح من دون أن يتصدى له المدنيون بقبول كاف لكن الجنرال زين العابدين كان بمثابة المرشح الغربي الأنسب  لما عرف عن العسكريين والأمنيين من حب للانقلابات بالطريقة الغادرة بعد أن يحصلوا على الثقة الكاملة ممن ينقلبون عليه ولو كلفتهم هذه الثقة أن يذبحوا أبناءهم لرؤسائهم لتكون الثقة مطلقة فتسهل عليهم الغدر الكامل .

هكذا أتم الجنرال زين العابدين بن على وزيره الأول (رئيس الوزراء) الانقلاب على الرئيس الحبيب بورقيبة، وأعلن نفسه في 7 نوفمبر 1987 رئيسا جديدا للجمهورية التونسية. ووضع الرئيس الحبيب بورقيبة   قيد الإقامة الجبرية في مسقط رأسه المنستير، وحجبت أخباره عن الإعلام إلى أن توفي في 6 أبريل 2000، ومنع الإعلام الأجنبي والمحلي من نقل مشهد جنازته أو عرض فيلم عن حياته، كما منعت الاحتفالات بذكرى وفاته.

وبعد ثورة الربيع العربي 2011، أشرف الرئيس التونسي الأول بعد الثورة الدكتور منصف المرزوقي على إحياء ذكرى وفاة بورقيبة بالمنستير، وذلك على الرغم من أن والد المرزوقي نفسه كان مناصرا لصالح بن يوسف واضطر بسبب ذلك للهجرة من تونس.

ملخص مسيرته السياسية

عمل الرئيس الحبيب بورقيبة بعد تخرجه في جامعات فرنسا بوطنه في المحاماة والصحافة، وأصدر صحيفة “صوت التونسي” 1930، ثم صحيفة “العمل التونسي” ١٩٣٢، وبدأ الرئيس الحبيب بورقيبة العمل السياسي 1933 من خلال الحزب الحرّ الدستوري تحت قيادة الزعيم التونسي العظيم عبد العزيز الثعالبي، لكنه سرعان ما انشق عنه وأسس مع آخرين: الحزب الحر الدستوري الجديد في 2 مارس 1934. اعتقلته سلطات الاستعمار الفرنسي أكثر من مرة بسبب نضاله من أجل التحرر، فهرب إلى مصر وحظي بدعم النحاس باشا والوفد والجماعات المتعاونة مع مكتب المغرب العربي، وسافر إلى بلدان عديدة كالهند وإندونيسيا وإيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة وعاد في أثناء هجرته إلى تونس أكثر من مرة.

وفي 2 يناير 1952 أعلن الرئيس الحبيب بورقيبة ما اعتبر بداية الحرب السياسية على فرنسا، وسرعان ما اندلعت الثورة المسلحة في 18 يناير 1952، واعتقل مع عدد من رفاقه في الحزب، وبعد حوالي ثلاث سنوات تفاوضه الفرنسيون على عادتهم.

عاد الرئيس الحبيب بورقيبة إلى تونس في 1 يونيو 1955 وحظي باستقبال شعبي كبير.  وسرعان ما وقع مع فرنسا في 3 يوليو 1954 معاهدة تمنح تونس استقلالها الداخلي وتسمح بإعلان الدولة التونسية. لكن رفيقه الأهم صالح بن يوسف الأمين العام للحزب الحر الدستوري الجديد عارض المعاهدة، ووصفها بأنها خطوة إلى الوراء، مما تسبب في انشقاق الحزب إلى فريقين ودخول الرفيقين في صراع شرس.

ولأن التاريخ يكتبه المنتصر فإن المتواتر هو أن الرئيس الحبيب بورقيبة استطاع إقناع أغلبية التونسيين بالمعاهدة التي تلاها توقيع وثيقة الاستقلال التام في 20مارس 1956، وبعد ذلك ألغى الرئيس الحبيب بورقيبة الملكية بخلع الملك محمد الأمين باي وإعلان تونس دولة جمهورية في 25 يوليو 1957، واختير هو نفسه أول رئيس للجمهورية التونسية.

تحولاته الرئاسية الأولى

في بداية عهد الرئيس الحبيب بورقيبة حدث شيء طريف مُقارب لما حدث في نهاية هذا العهد فقد بدأ الحبيب رئاسته للمجلس التأسيسي بأن كلف الطاهر بن عمار برئاسة الوزارة لكن هذه الرئاسة انتهت بعد 22 يوما فقط.

ربما لا يعرف الناس الآن أن الرئيس الحبيب بورقيبة  بدأ توليه السلطة برئاسة ما سُمي المجلس القومي التأسيسي ما بين 9 أبريل  و15 أبريل  1956 أي لمدة 6 أيام ثم شغل منصب الوزير الأكبر أي رئيس الوزارة مدة سنة وثلاثة أشهر  ونصف منذ 15 أبريل  1956 وحتى 25 يوليو 1957 وفي تلك الفترة جمع مع رئاسة الوزارة وزارتي  الدفاع والشئون الخارجية ، وكان هذا في وجود ملك هو محمد الأمين باي تونس على نحو ما فعل المصريون بوزارتي علي ماهر ومحمد نجيب في وجود ملك موصى عليه هو الملك أحمد فؤاد الثاني (1952 ـ 1953 هكذا كان الرئيس الحبيب بورقيبة رئيسا للوزراء منذ  أبريل  1956 وحتى 25 يوليو 1957 حين ألغى منصب رئيس الحكومة وأصبح رئيسا للجمهورية يشغل منصب رئيس الوزارة دون نص على هذا طيلة الفترة من يوليو 1957 وحتى نوفمبر 1969 .

ومنذ 25 يوليو 1957 أصبح الرئيس الحبيب بورقيبة رئيسا للجمهورية (بل أول رئيس للجمهورية التونسية) وهو المنصب الذي بقي فيه ثلاثين عاما وثلاثة أشهر ونصف حتى 7 نوفمبر 1987 حين أزاحه زين العابدين علي وحدد إقامته وسجنه وأبقاه هكذا حتى توفي في 6 أبريل 2000 في نهاية القرن العشرين.

ربما يلمح القارئ الآن أن الرئيس الحبيب بورقيبة  المولود في 3 أغسطس 1903 كان قد اختصر تجربة جمال عبد الناصر في سنة واحدة ( 1956 ـ 1957) بدلا من سنتين (1954 ـ 1956) وهكذا فإنه إذا كان عبد الناصر قد أصبح رئيسا للجمهورية في يونيو 1956 (بعدما كان رئيسا للوزراء) فإن الرئيس الحبيب بورقيبة  أصبح رئيسا للجمهورية في يوليو 1957 (بعدما كان رئيسا للوزراء في 1955 ) لكن الرئيس نجيب كان قد جمع المنصبين بسهولة في 1953 نظرا لما كان الرئيس محمد نجيب يتمتع به من حب جارف، أتاح له أيضا أن يجمع رئاسة الجمهورية مع  رئاسة مجلس قيادة الثورة ومن قبلها أن يجمع رياسة الوزارة مع قيادة القوات المسلحة .

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه