الحالة المصرية بين العاشر من رمضان والخامس من يونيو

قواتنا المسلحة تتنازل عن البلاد في اتفاقيات مشبوهة، فصرنا نعيش في العاشر من رمضان المجيد بروح الخامس من يونيو المهزوم.

العاشر من رمضان (1393ه)، السادس من أكتوبر (1973)، الساعة الثانية ظهرا، عبور قواتنا المسلحة قناة السويس وتحطيم خط بارليف تحت شعار “الله أكبر”، بمشاركة العرب قاطبة في حالة فرض حصار عربي كامل على الكيان الصهيوني اللقيط وأمه بالتبني أمريكا العنصرية.

لم يسجل المجتمع المصري حالة جريمة واحدة، سادت البلاد روح معنوية مختلفة من التعاون والحب رغم أجواء الحرب التي تسودها الفوضى عادة في المدن الكبرى، إلا أن معدلات الجريمة شهدت في الثلاثة أيام الأولي الرقم “صفر” في القاهرة ومدن القناة حيث تدور المعارك حسب ملفات كشفت عنها مصلحة الأمن العام بوزارة الداخلية. المشهد العام وإن كان يوحي بنزيف من دماء آلاف الشهداء على الجبهة السورية والمصرية، فقد سادت بلاد العرب حالة من القرب غير المسبوق والتعاون والتلاحم ونزل الناس إلى الشوارع في حالة من الترقب والاستعداد للصبر على صعوبة المعيشة واستحالتها في معظم ربوع البلاد، حالة من النشوة والصبر والرضا وحسن الخلق وقد امتلأت المساجد وصدحت المآذن بالدعاء، في نهار رمضان وليالي القيام به.

الخامس من يونيو أو كما يطلقون عليه يوم “النكسة”، مائة ألف جندي في سيناء تجتاحهم القوات الصهيونية مستخدمة في ذلك أبشع ما يمكن أن يفعله محتل بجيش البلاد التي احتلها من قتل للأسرى، ومدافن جماعية تحوي مئات وآلاف الجثامين في ساعات معدودة بينما الإعلام المصري والعربي يتغنى بتقدم القوات إلى قلب إسرائيل التي حانت ساعة إلقائها في البحر والخلاص منها، في حالة من الكذب والتدليس يتقنها المستبد المهزوم حين يضطر لمواجهة شعبه فيستخف بهم ليجد شعوبا قابلة للاستخفاف، كما كانت من قبل قابلة للاستعمار.

وسالت الدماء العربية في سيناء والأردن وسوريا، وتفككت الرابطة المجتمعية ليخرج المجتمع أسوأ ما فيه وتتحول القضايا الكبرى مثل قضية التحرر والأرض والعروبة والدين إلي حالة من الانبطاح والتسليم والرضوخ للحاكم الفرد الذي يصبح غاية في حد ذاته بعد تمثيليات يقوم بها عسكره أمام الشعب للإبقاء على هيمنته،  والاحتفاظ بكرسيه، ويهرول الشعب لتقديم المزيد من آيات الولاء لحاكمه الذي يحيا علي آلاف الجثث وآلاف الضحايا من المصابين نفسيا وبدنيا، ليحكم في نهاية المطاف شعبا من العاهات يكون جل اهتمامه الحصول علي بعض لقيمات يمن بها عليه الحاكم العسكري للبلاد.

وترك الصهاينة العرب يرسفون في الاكتئاب والخجل وانحناء يجسد الخيبة والنتيجة الطبيعية لحكم القهر والاستبداد. فهل كانت خيانة متعمدة من قيادات عربية للقضاء على الجيوش العربية وإنهاء حلم استعادة فلسطين؟ هل كانت هزيمة طبيعية لجيش أصاب قادته الغرور حد عدم الإعداد للمعركة بشكل يكفي لوضع الجنود ولو في حالة من الدفاع عن النفس والحفاظ علي الأرض التي يقفون عليها؟ حتى الآن لم تتبين الحقائق كاملة غير أن هناك أعدادا هائلة من الجنود لم تحارب، وهزمت على أرضها شر هزيمة، وضاعت النفوس، وضاعت الأرض، وبقي الحاكم الفرد.

عاشت مصر وبلاد العرب بين الحالتين، الهزيمة والنصر حالة من التناقض البليغ انعكس ذلك علي كل مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والإنسانية والاقتصادية، ليأتي هذا العام ذكرى الحدثين في يوم واحد لتمثل الحالة الأعجب التي يعيشها الشعب المصري اليوم في ظل الحكم العسكري والانقلاب الجائر، إذ تحتفل مصر بذكرى العاشر من رمضان في ذات اليوم الذي يحتفل فيه الصهاينة المحتلين بذكري الخامس من يونيو، ذلك اليوم الذي قاموا فيه بهزيمة العرب مجتمعين دون خسارة تذكر، وكأنها كانت حرب من طرف واحد.

وكأن القدر أراد أن يكشف لنا الوجه الحقيقي للحالة المصرية والعربية اليوم، حالة التناقض الشديد بين نصر وهزيمة، وبين ثورة وانقلاب، انقسم العرب على أنفسهم وتآمر أحدهم على الآخر بينما الآمن الوحيد في المنطقة هو عدوهم الأول والوحيد وقد صاروا ينادونه بالأخ والصديق.

التقت الذكري مع الذكري لتمثل تلك الحالة من الألم الساخر والتي يحياها المواطن المصري في ظل حكم العسكر الجاثم على صدره منذ انقلاب يوليو المشئوم، ذلك الانقلاب الذي أجهض الثورة المصرية الحقيقية وهي في مرحلة المخاض فقضى على الأمل الأخير للشعب في نيل حريته واسترداد كرامته والعيش الملائم لإنسانيته الكاملة، ويستسلم مرغما على الحكم الفردي الفاشي الفاشل فيدفع الثمن مضاعفا بغير أمل قريب في الخلاص. وقد تحكمت البيادة في مقاليد الأمور بدءا من المتاجرة بأقوات الناس والتحكم بأسعارها، وانتهاءً بالمتاجرة بحياتهم بالقتل والتشريد والاعتقال والمطاردة والتصفية الجسدية بلا محاكمات كل هذا لا لسبب إلا أن يبدي أحدهم رغبة في بعض الحرية، مجرد رغبة يعبر عنها ببعض الكلمات، جيش أفناه العدو فتجدد، ثم انتصر فهزمه حكامه بتحويله لجيش من المرتزقة مهمته الأولي توزيع السلع الغذائية المخفضة في شوارع مصر في فعل لا يحدث إلا في البلاد المحتلة أو الموبوءة، أو أشباه الأوطان.

تناقض قَسَّمَ المجتمع لطبقتين، طبقة من الحكام ومن يدور في فلكهم ويساهمون في تثبيت أركانهم، تغولت الأجهزة الأمنية حتى وضعت نفسها في مصاف الآلهة، فتحكمت في مصائر الخلق وأرزاقهم: تغول أدى إلى تأميم بيوت الآمنين بهدمها فوق رؤوسهم، والانتقام من الضحايا بصورة دنيئة لم يشهدها المجتمع المصري من قبل بحجة استرداد أراضي الدولة، في حين أننا لا ندري ولا أحد يجرؤ على السؤال عن مآل تلك الأراضي ومن سيضع يده عليها وإلى من ستؤول ملكيتها. تغول أدى لترك الحدود مكشوفة للعدو الصهيوني يتجول في أراضينا بحرية بطائراته وقواته يقتل المواطنين ويجرف الأرض ويحرق أشجار الزيتون ويخلي البيوت من أهلها قسرا ويهدمها، بينما قواتنا المسلحة تترك جنودها على الحدود بغير سلاح، ثم هي تجتاح الجامعات بفرقها الخاصة والمدججة بالسلاح الثقيل توجهه في صدور الشعب الأعزل المسالم تخويفا وتجويعا وقهرا، قواتنا المسلحة في القصور تحكم، وتضع القوانين، وتعقد الاتفاقيات، وتستدين، وتغرق البلاد في وحل الديون التي لن يكون لها نتيجة أقل من بيع أحلام الأجيال القادمة

الخلاصة في ذلك التقسيم المجتمعي هو أن قواتنا المسلحة تتنازل عن البلاد في اتفاقيات مشبوهة، فصرنا نعيش في العاشر من رمضان المجيد بروح الخامس من يونيو المهزوم، أما الفئة الثانية فهي فئة الشعب الذي يعيش في نفس الحالة من التناقض، ثورة وانقلاب، عزة ومهانة، كرامة وخضوع، يناير ويونيو، يعيش الشعب في حالة من التناقض الغريب لشعب خرج توا من ثورة حركت وبعثت كوامن العزة والإباء في الشعوب العربية وأثارتها فانتفضت، وما زالت انتفاضتها مشتعلة حتى اليوم، فأيهما يمكن أن يتغلب؟ وأيهما يمكن أن يعبر عن روح الشخصية المصرية والعربية؟ هل يمكن أن تستسلم الشعوب كثيرا لروح يونيو المشئوم؟ أم أنها سرعان ما ستعي أن حاكمها المتجبر أضعف من مواجهة إرادة شعبية مجتمعة، وأوهن بكثير من تحدي إرادة التغيير لأنها ببساطة حين تولد، تكون طوفانا هادرا لا يبقي ولا يذر؟ شخصيا أراهن على وعي الشعوب ونفاذ صبرها، وأوقن تمام اليقين أن حدثا ما قويا سوف يزلزل عروش الظالمين شاء من شاء وأبى من أبى، وأراه برغم اشتداد الظلمة قريبا.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه