الحاضر المستمر

في اللغة العربية يوجد لدينا فعل ماض وفعل مضارع، ولا نستخدم الفعل المضارع المستمر الذي يعبّر في الإنجليزية عن حاضر مستمر.

لكنّنا كعرب فإننا، وإن لم نعترف لغوياً بوجود ذلك الفعل، نعيشه باستمرار. فنحن أكثر الأمم التي يستمر عندها الفعل الحاضر عبر أزمان مختلفة رافضاً أيّ تغيير.

تكرار الزمن لدينا واستمراريته لا يقتصر على الحياة الاجتماعية من خلال التمسك بزمن “صلب” من خلال التشبث بعاداته وتقاليده وطقوس الجهل فيه، إنّما أيضاً نعيش راهناً سياسياً لا يتغيّر.

فما عاشته سوريا في ثمانينيات القرن الماضي في عهد حافظ الأسد من إبادة ومجازر وتدمير تعيشه الآن في عهد ابنه، كما لو أنّ الزمن لم يتغيّر ولم يتحرّك صوب المستقبل. تلك الحركة “حركة التغيير” المتسارعة والتي لم يعد أحد يستطيع الحد منها أو إبطاء خطواتها لم تصل إلينا سوى عبر قنوات التواصل الاجتماعي والإعلام عموماً. لكن على الأرض لم يحقّق المجتمع العربي انتصارات عسكرية أو سياسية أو علمية.

في “الماضي” حقّقوا انتصارات وفتوحات عسكرية وسياسية، وفتوحات في مجال الطب والعلوم والفلك، لكن تلك النجاحات لا تعني بالضرورة النّجاح في المستقبل.

إن أردنا وضع الخطط والوسائل التي أدّت إلى نجاح العرب في الماضي وتطبيقها أو اختبارها في الزمن الراهن ربّما تؤدي إلى نتائج عكسية، ولهذا السبب مازلنا نعيد إنتاج آبائنا. مع أنّ التّغييرات الحاصلة في الظروف السّياسية والاجتماعية والاقتصادية وتطور العلوم والعولمة تفرض علينا رفض الوسائل التّقليدية في معالجة الأمراض الطارئة على جسد الأمة.

الانتكاسة الفكرية الزمنية:

من باب خفي اجتاحت ظواهر غريبة المجتمعات العربية بالتّزامن مع التّطور السّريع والعولمة لدى الغرب، وأهم ظاهرتين كانتا ظاهرة الدّعاة، ومريم نور!

كرّست المحطات الفضائية وجود مريم نور بشكل ملفت للنظر فكانت معظم القنوات تستضيفها لتتحدث في الروحانيات والطب البديل لكنّ الرسائل الخفية للدكتورة مريم لم تظهر مباشرة للعيان. فقد استقطبت في البداية ملايين المشاهدين الذين انساقوا وراء طريقتها في التغذية وتدريجياً باتت مشاهدة برامجها من أساسيات البيوت. لكنّ السم الذي بثته مريم نور في الدسم صار مستساغاً لدى عشاق برامجها الروحية!

والظاهرة المقابلة كانت ظاهرة عمرو خالد وغيره من الدعاة، لكنّ عمرو خالد كان الأكثر استقطاباً لشريحة الشباب التي تم تطويعها بالطريقة التي تريدها الأنظمة الحاكمة. التوقف عن التفكير المتنوّر وحصر الاهتمامات في التّفاصيل.

وهذا ما جعل الزمن يجري عند الغرب ويتوقف لدينا!

استمرار الزمن السياسي العسكري:

في الواقع كما في الرواية، قدّم الروائي السوري فواز حداد في روايته “السوريون الأعداء” صورة حيّة عن عصرين مندمجين ومتلاحمين كأنّ أحداثهما في زمن واحد، مرسخاً فكرة “الحداثة الصلبة” _المصطلح الذي ابتكره عالم الاجتماع البولندي زيغمونت باومان، والذي يعني انتقال المُقدس إلى الطاغية كونه الحَكم والحاكم الذي بيده كلّ شيء وذلك من خلال تكريس فكرة تأليه حافظ الأسد في الثمانينيات بعد مجزرة حماة.

وفكرة الزمن الحاضر المستمر الذي لا تتحلل بنيته ولا تتحرّك نحو المستقبل فهو حاضر مستمر على نسق “الفعل المضارع المستمر” في اللغة الإنجليزية ويكاد يكون لشدّة تشابهه في عهدي الأب “حافظ الأسد” والابن “بشار” نسخة (فوتو كوبي) والتّطور الوحيد الحاصل هو اتّساع الرقعة الجغرافية التي طالتها المجازر والتّدمير؛ لأنّ الزمن لدى الشّعب مختلف عن زمن السّلطة فقد تحرّك نحو الأمام بفعل الوعي الحاصل لدى الطبقات المسحوقة خاصة الشباب المتنوّر الذي يمتلك طاقات إبداعية هائلة لم تجد في ظلّ النّظام الحاكم متنفساً ولا احتواء؛ لأنّ سياسة التّجهيل هي الراسخة في عهد الأسد المستمر إلى الآن والذي يمكن أن يستمر لأجيال متعاقبة بسبب الرغبة الصهيونية المتسيّدة في العالم الغربي والأمريكي في بقائه حاكماً؛ لأنّه حقّق المهام المنوطة به على خير وجه.

ويبدو واضحاً للعيان أنّ لنظامه الحاكم اليد الطولى في التّفكك المجتمعي الذي أدّى إلى تفكك الروابط المجتمعية ومنظومة الأخلاق العامة وجعل المجتمع مقتصراً على “الأسرة الصغيرة” التي أدخل يده داخلها ليفكك روابطها بجعل الأخ مخبراً على أخيه في زمن الأب الماضي المستمر إلى الآن، وتشرذم الأفراد في الزمن الحاضر وتشتتهم بين مؤيد ومعارض فيقف الأخ ضدّ أخيه على جبهتين مختلفتين. وكأنّ هؤلاء لم ينجبهم رحم واحد!

خبرة الماضي وبناء الاستراتيجيات العربية:

قد يكون الحل في التخلي عن “الخبرة الماضية” ورفض العادات والتقاليد التي لم تعد منسجمة مع العصر كي يبني العرب استراتيجية ناجحة في مواجهة الزمن الغربي المهيمن على الفكر والسّياسة والأهم من ذلك سيطرته على الأرض وفرضه الحلول العسكرية من منطق القوة وموقع القيادة. لكن كيف يتخلّى شعب يقوده رجل على كرسي متحرّك وآخر مختل عقلياً عن خبراته الماضية وهو يقدّس الحاكم ويتعامل مع السلطة على أنّها الآلهة ويربط بين أولي الأمر والدين. وذلك لإطلاق العسكر يد المشايخ في الإفتاء على ألا يخالف رغباتهم، حتّى رأينا شيخا أزهريا يصدر فتوى أنّ من يسبّ السلطة لا يجوز صيامه، وفتوى أخرى تبيح دم من يفطر في رمضان! وثالثة تحرّم الإضراب. أما الشّعب فقد استمرأ الهوان والعبودية؛ لأنّه تعوّد على أن يكون الإمام حاكمه الأوّل لارتباطه بفكرة القداسة المستمدة من الدين، وتعوّد أيضاً على الرضوخ لأولي الأمر بالاستناد إلى الكثير من الأحاديث الشريفة عن طاعة أولي الأمر بالإضافة إلى تأكيد الرواة والفقهاء على الأمر بربط طاعة الحاكم بطاعة الله، وربط محبته بمحبة الرسول! والإفتاء بقتل من يشق عصا الطاعة.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه