الجماعة الإسلامية والإرهاب

 

المرء ابن بيئته، والمكان جزء من الإنسان، لذا كان لظهور الجماعة الإسلامية في محافظات الصعيد، وانتشارها في ربوعه بالغ الأثر في تكوين أفرادها، حتى أولئك الذين لا ينتمون إلى الوجه القبلي منهم.

والبداية كانت في جامعة أسيوط، الجامعة الأم في عاصمة الصعيد، وواسطة عقده الفريد، على يد ثلة من طلاب الجامعة الذين تحركوا بين مدرجاتها لدعوة زملائهم للالتزام بتعاليم الإسلام، والتمسك بهدي النبي عليه الصلاة والسلام، في وقت كان المجتمع المصري يموج بأفكار مختلفة ونظريات متعددة ، وكان التيار الناصري القومي الاشتراكي بهذه التركيبة الغريبة، هو المهيمن على الصورة العامة، وأريد له أن يكون الثقافة السائدة، وسهل من مهمة هؤلاء الشباب رغبة الرئيس أنور السادات في التخلص من بقايا الحقبة الناصرية، وكان أبرز هؤلاء الطلاب هم من أصبحوا بعد ذلك رموز الجماعة الإسلامية وشيوخها، مثل الشيخ صلاح هاشم، رفاعي طه،  محمد شوقي الاسلامبولي، ناجح إبراهيم، كرم زهدي، عصام دربالة، عاصم عبد الماجد، وأسامة حافظ الذي يرأس مجلس شورى الجماعة الإسلامية الآن.

غض الطرف إلى حين

كان موقف النظام من الجماعة الإسلامية شديد الشبه بموقف المجلس العسكري من ثورة 25 يناير من حيث إفساح المجال لتحقيق مكاسبه الخاصة، وغض الطرف إلى حين.

ومن هنا حدث الصدام بين الجماعة الإسلامية ونظام السادات، وفوجئت أجهزة الدولة أن الجماعة ليست لقمة سائغة، لاسيما وأنها كانت قد تخطت المرحلة الطلابية، إلى المرحلة التنظيمية، ووضعت لنفسها ميثاقا معينا، ومنهجا محدداً يقوم على أخذ الإسلام بشموله وتعليمه للناس، والعمل على عودة الإسلام إلى نظام الحكم من خلال الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، وتجاوزت الجماعة مرحلة التنظير إلى التنظيم وعمدت إلى تطبيق شعار:

(وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ…)

وأصبح لها في قرى ومدن الصعيد حاضنة شعبية، حيث نقل الطلاب دعوتهم من الجامعة إلى بلدانهم، وأطلق الناس عليهم وعلى مساجدهم مصطلح (السنية) نسبة إلى السنة النبوية، وتحركوا تحت هذا الاسم حتى أصبحت فكر الجماعة الإسلامية ثقافة سائدة بين شباب الصعيد المتدين، وظلت ردحا من الزمن متربعة على عرش الصعيد، وأصبحت جزءا من ملامحه.

في هذا التوقيت كان السادات قد وصل إلى مرحلة الضيق التام بأي صوت معارض أيا كان توجهه، ورأى أنه بلغ درجة من لا يسأل عما يفعل، وكانت تنادي باسمه الأغاني والأهازيج: (قول.. قول..قول.. قول يا سادات… ياللي كلامك حكم!)

فبدأت الشرطة تمارس أعمالها المعروفة في الاعتقال والتنكيل، واحتجاز بدلاء للمطاردين، وانتهاك حرمات البيوت، ثم ولغت في الدم الحرام، فاصطدمت بتركيبة المجتمع الصعيدي الذي لا يسمح بهذا ولا يرضاه، ويرى الثأر لذلك، وردع من يقترفه من أبسط الحقوق، بل يعير من نكل عنه، أو جبن فيه.

وفي عهد مبارك

واتسعت دائرة المواجهة بين النظام والجماعة وكان عهد حسني مبارك أشد ضراوة، وأبلغ قساوة، حيث اكتظت السجون، واتسعت بقعة الدم، واجتهد الطرفان في ضرب الآخر فيما يوجعه ويؤلمه، حتى استطاع مبارك من خلال زبانية أمن الدولة الذين اتسع نطاق عمل جهازهم في عهده من إحكام السيطرة، وبسط النفوذ، وامتد العقاب إلى كل سكان الصعيد الذي أهمل عن عمد حتى منعوا زراعة محصول قصب السكر سنين عددا بحجة اختباء الشباب فيه! ثم أكمل الجلاد في السجون الإجهاز على ما تبقى من الجسد المنهك الجريح. وتحولت المعتقلات إلى معسكرات أسوأ من معسكرات النازي، وأشبه بمحاكم التفتيش

فأغلقت الزنازين على من فيها، وتحولت إلى قبور فتحت بعد ست سنوات كاملة كان يلقى فيها الطعام من كوة الباب، كما حدث مع الشيخ ممدوح علي يوسف في سجن العقرب مثلا.

كان الربو والجرب وهشاشة العظام أبسط ما يعاني منه المعتقلون من أمراض، حتى رأيتهم في عام 1995 في سجن استقبال طرة يختارون كل ليلة واحدا منهم بالتناوب يجلس بين النائمين حتى الصباح يمنع يد المعتقل من جرح نفسه أثناء النوم من حكة الجرب!

ثم جاءت لعنة السجون الجديدة مثل وادي النطرون والفيوم والوادي الجديد وهي سجون أسمنتية خرسانية خالصة، يوضع الطعام في حفرة في الأرض ويقضي المعتقل يومه ووجهه للحائط من الصباح حتى الغروب، مع وصلات الضرب والتعذيب،

ومن خسة الطباع أنهم اعتادوا على تسمية المعتقل عند دخوله تسمية الأنثى فيختار لنفسه من بين أسماء النساء، وإلا حدث له ما لا يوصف، وأصر أحد الشباب على الرفض، وأبدى شجاعة وتجلدا قهر به الجلادين، فما كان من أحد الضباط المجرمين إلا أن أمر الجنود بفتح فم المعتقل بالقوة، وأمر أحدهم بالتبول في فمه، فظل يتقيء بعدها ثلاثة أيام حتى فارق الحياة، وفي سجن الوادي الجديد أغمي على أحد مرضى السكر فلما استغاث إخوانه طلبا لعلاجه، غضب الضابط من الإزعاج وقال لا ترفعوا أصواتكم إلا بعد موته، وبالفعل مات من نوبته، فتركه بينهم جثة عدة أيام، فما انتفخ ولا تغير، وكانوا ينامون إلى جواره كأنه نائم، فهل عرف البشر مثل هذا الصنف من المخلوقات؟

ووسط سلخانات التعذيب هذه، عكف قادة الجماعة الإسلامية على تقييم تجربتهم، والحفاظ على من تبقى من إخوانهم، فقرروا عمل مراجعات وتقييمات، وفق ما وصلوا إليه من قناعات، أو فرضته الضرورات، فقرروا وقف العمليات المسلحة، والبيانات المحرضة عليها في الداخل والخارج، وتلقف هذه المبادرة بعض العقلاء في الدولة وقليل ما هم…

لكن الفريق الأكبر الذي يقتات على هذه الأحداث وقف حجر عثرة أمام نجاحها،

فأعلنت الجماعة الإسلامية مبادرتها من طرف واحد في عام 1997 وكان رد اللواء حسن الألفي وزير الداخلية حينها: (الإرهاب يحتضر، ولا تفاوض مع الإرهاب) ومع وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول في أمريكا عام 2001 رجع النظام لإعادة النظر في المبادرة بعد مماطلات طويلة.

استغلال المبادرة

لقد استغل النظام المبادرة إعلاميا لصالحه من دون أن يفعلها عمليا على الأرض، أو داخل السجن، بل سارع إلى تنفيذ أحكام الإعدام حتى لا تدخل في التفاوض، كما فعلوا مع ياسر فتحي، ومحمد فوزي، والمتهمين في قضية اللواء الشيمي، واستمرت الجماعة في الالتزام من جانب واحد حتى أن النظام سماها مبادرة وقف العنف ليدين الجماعة بداية من العنوان، ورفض الإفراج عن المعتقلين إلا في العام 2004، وأفرج عن آخر دفعة في 2007 من خلال كشوف بأعداد قليلة على فترات بعيدة، ومن خلال انتقاء خبيث ودهاء شديد لشق الصف، وتوهين العزم، لكن شيوخ الجماعة تنقلوا بين السجون لشرح وجهة نظرهم، ونفي الريب من نفوس إخوانهم.

أما من أفرج عنه فلم يسمح له بالعمل العام، ولا الانشغال بالدعوة، حتى أن أمن الدولة في أسيوط استدعى أحد أصدقائي من الأزهريين في مدينة البداري وعنفه لأن الناس قدموه لصلاة الجنازة!

وبقي جزء من أبناء الجماعة وقادتها في السجون حتى خرجوا بعد خلع حسني مبارك في 2011 من أبرزهم الشيخ عبود الزمر، وطارق الزمر، وبدري مخلوف.

بعد الثورة

وحافظت الجماعة على ما اختطته لنفسها، وقننت بعد الثورة أوضاعها من خلال إشهار جمعية خيرية اجتماعية، وتكوين حزب سياسي هو حزب البناء والتنمية الذي حقق نتائج مرضية في انتخابات مجلس الشعب، وكان السبب الرئيس في جمع الشمل ورأب الصدع في انتخابات الجمعية التأسيسية للدستور، أو الحركة التكميلية لمجلس الشورى، ووقفوا أمام محاولة جهاز الشرطة نشر الفوضى، والتخلي عن القيام بالواجب في فترة حكم الرئيس محمد مرسي، فطالب الحزب عبر كتلته البرلمانية بتفعيل اللجان الشعبية وتقنينها، وهي إحدى إبداعات الشعب في ثورة يناير، ونزل أفراد الجماعة بالفعل لتنظيم المرور، والتصدي للبلطجية في بعض محافظات الصعيد، ما جعل الشرطة تعود بسرعة إلى مواقعها.

وهو ما استند إليه نظام السيسي الآن في وصم الجماعة والمنتسبين إليها بالإرهاب، لكن السبب الرئيس هو انحيازهم إلى الأمة، ورفض الانقلاب على أول رئيس منتخب، أو المساهمة في ضياع ثمرة ثورة يناير الكبرى وهي تداول السلطة..

وعادت الشرطة سيرتها الأولى، فاعتقلت أعضاء الجماعة الإسلامية ورموزها، حتى قتلوا شاعرها وخطيبها الشيخ عزت السلاموني الذي ترك يتلوى من انسداد معوي حتى فارق الحياة في زنزانته، ثم قتلوا شيخها وقائدها الشيخ عصام دربالة الذي منعوا عنه دواء السكر حتى مات في محبسه صابرا محتسبا.

ورجعت الجماعة للحفاظ على المبادرة من طرف واحد، تكظم الغيظ وتتقلب على الجمر، دون أن يدان أحد من أفرادها أو يسجل عليهم خلاف ما أعلنوه، وانخرطوا في ثورة الشعب السلمية ضد الانقلاب العسكري الذي رفض صناديق الاقتراع ليحكم بصناديق الذخيرة.

ولكن هذا النظام الذي يعرف القاصي والداني أنه قتل الآلاف في الشوارع والميادين، واعتقل عشرات الآلاف في السجون والزنازين، وأخيرا استقبل الطائرة الأولى التي حملت قتلة الصحفي جمال خاشقجي! هو من حكم بعدها بأيام على الجماعة الإسلامية بالإرهاب، فمن الإرهابي حقيقة؟ وأي الفريقين أولى بالوصف؟ مالكم كيف تحكمون؟ أم أنها رمتني بدائها وانسلت؟

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه