الجماعة الإسلامية.. فرص الانطلاق وتحديات التلاشي

عبر مسيرتها الممتدة منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى الآن ، مرّت الجماعة الإسلامية المصرية بالعديد من المحطات المهمة التي كادت أن تعصف بها وتكتب شهادة وفاتها، قبل أن تستدرك الأمر عبر مراجعات مهمة قامت بها قبل حوالي عشرين عاماً، أعادت من خلالها تقديم نفسها من جديد، وأثبتت عقب ثورة يناير ٢٠١١ صدق التزامها بتلك المبادرة التي أطلقتها عام ١٩٩٧م ، وتمكنت عبر حزب البناء والتنمية من شد انتباه المتابعين بأداء تجاوز الحدود الحزبية الضيقة إلى فضاء المصلحة الوطنية الجامعة في عدد من المواقف ، لكن انقلاب ٣ يوليو ٢٠١٣ أصاب الجماعة بما أصاب به غيرها من مكونات الحياة السياسة بوجه عام من ضمور وتكلس ، ولم يسمح لها باستكمال بناء مشروعها الدعوي والسياسي ، أو بالتعافي من سنوات السجن الطويلة .

فالجماعة وقبل صدامها العنيف مع نظام مبارك تسعينيات القرن الماضي استطاعت تحقيق انتشار كبير تجاوز حدود مناطق نفوذها التقليدية في صعيد مصر إلى القاهرة وكثير من محافظات الدلتا ومنطقة القناة ، وذلك من خلال خطاب اتخذ موقفاً وسطاً بين الإخوان المسلمين وكثير من المدارس السلفية المنتشرة آنذاك وعلى رأسها المدرسة السلفية بالإسكندرية ، كما اهتمت الجماعة بمناهضة الفكر التكفيري بجميع تجلياته وأشكاله مناهضة واسعة عبر مشروع فكري عمد إلى تفكيك أجزائه ومعالجة مسائله معالجة مستفيضة ، كما مثّل خطاب الجماعة الحاد تجاه سلطة مبارك عامل جذب لكثير من الشباب حينها ، ففي الوقت الذي عمدت فيه تيارات إسلامية واسعة إلى تأييده في أول تجديد له عام ١٩٨٧م كانت الجماعة تقود حملة في الاتجاه المعاكس تحت شعار ” لا .. لمبارك “، لكن استجابة الجماعة لعنف السلطة حيالها بعنف مماثل أضاع عليها وعلى المجتمع فرصة كبيرة، كان يمكن من خلالها تطوير مشروعها الرافض للاستبداد ليتحول إلى مشروع شعبي في وقت مبكر من حكم مبارك، بدلاً من سنوات العنف التي ساهمت في تكريس حكمه لثلاثة عقود.   

 واليوم تبدو الجماعة وكأنها في مفترق طرق، فإما أن تستفيد من الفرص المتاحة أمامها لاستعادة اللياقة الفكرية والتنظيمية، وإما أن تسلم قيادها لقوانين التطور الزمانية وهو ما يعني نهايتها وتلاشيها في غضون سنوات ليست بالكثيرة في ظل معاناتها من قلة العنصر الشبابي داخل صفوفها.

التخلص من إرث الماضي

العكوف على الأشكال التنظيمية، يحولها إلى صيغ مقدسة تكتسب مهابة في قلوب الأتباع، ما يعد آفة من آفات العمل التنظيمي للحركات الإسلامية، يمنعها من التجديد استجابة لتطورات الزمان، إضافة إلى المتغيرات المختلفة، فعقب حركة المراجعات الهائلة التي قامت بها الجماعة كان يجب عليها أن تنطلق في هيئة جديدة من حيث الشكل والمضمون لتعيد تقديم نفسها إلى المجتمع من أجل مواصلة رسالتها في الإصلاح والتربية، لكن السنوات التي أعقبت خروجها من السجون حتى قيام الثورة والممتدة من عام ٢٠٠٦ إلى ٢٠١١ تقريباً لم تستطع الجماعة الاقتراب من هذا الملف، كما أن الفترة ما بين ٢٠١١ إلى ٢٠١٣ شهدت انشغال الجماعة بالتحول إلى العمل السياسي وإعادة مؤسسة التنظيم عبر انتخاب جمعية عمومية التي انبثق عنها مجلس شورى منتخب للمرة الأولى في تاريخها، لكن ذلك لم يمنعها من البحث عن شكل قانوني يستوعب وجودها، فاتخذت إجراءات فعلية لتأسيس جمعية مشهرة وقانونية في مدينة المنيا، التي تتمتع فيها بتواجد قوي على أن يتم إنشاء فروع لتلك الجمعية في بقية المحافظات لكن وقوع الانقلاب حال دون إتمام المشروع.

دلالة ما سبق تعني أن تطوير شكل الجماعة، وإكسابه الشرعية القانونية، كان أولوية، تراجعت تحت ضغط الأحداث، لكن يبقى أن بقاء الجماعة على  نفس الشكل القديم يحملها كثيراً من إرث الماضي خاصة فيما يتعلق بالصدام المسلح مع النظام المصري، والذى أدى إلى وضعها على قائمة الإرهاب الأمريكية عقب حادث الأقصر الشهير عام ١٩٩٧، والمستمر حتى الآن رغم المراجعات المهمة التي قامت بها الجماعة، وهو الوضع المرشح للاستمرار في ظل الأوضاع الإقليمية والدولية المتربصة بالحركة الإسلامية والتي تضع استئصال الإسلاميين هدفاً أولوياً بالنسبة لها، لكن ليس هذا فحسب فهناك أسباب عدة أدت إلى تراجع الحاجة إلى نفس الشكل التنظيمي للحركة الإسلامية المعروف منذ عشرات السنين، منها ثورة الربيع العربي، وثورة الاتصالات والمعلومات، اللتان سمحتا بخروج أعضاء هذه التنظيمات إلى فضاءات أوسع وأرحب، واتساع مجال المعرفة والتلقي وتلاقح الأفكار وتمازجها، فلم يعد التنظيم هو المجال الوحيد المتاح أمام الأفراد.

لذا فإن حركة تجديد تنظيمية ملحة يجب على الجماعة القيام بها تخلصاً من إرث قديم تحول إلى ماضٍ بكل ما فيه من إيجابيات وسلبيات، ليس مطلوباً من الجماعة اليوم أن تحمله على كتفيها في الحِلِّ والترحال، بل عليها أن تتخذ قراراً غير مسبوق بإعلان حل الجماعة الإسلامية وأنها باتت تاريخاً مملوكاً للجميع يحكمون عليه بما له وما عليه، إن قراراً كهذا قد يتيح للجماعة أن تتحول من تنظيم ذي سياج وأسوار إلى تيار عام، يقود عملية إصلاح مجتمعية من داخل المجتمع لا من خارجه.

تجديد يتجاوز الشكل إلى المضمون

ستظل مراجعات الجماعة واحدة من أهم إسهامات الحركة الإسلامية في باب النقد الذاتي، وقد لعبت تلك المراجعات دوراً بالغ الأثر في الحيلولة دون “عسكرة” معارضة الانقلاب العسكري، في الفترة التي تلت الإطاحة بالرئيس محمد مرسي، ومن هنا فإن ما آلت إليه أحوال التيار الإسلامي بجميع مكوناته الإخوانية والسلفية والجهادية، يتطلب من الجماعة إعادة النظر في كثير من المنطلقات والأفكار، واستكمال حركة المراجعات لتجيب عن العديد من الأسئلة التي فجرتها ثورات الربيع العربي، وعلى رأسها علاقة الديني بالسياسي، ومفاهيم الحرية والعدالة ومكانتها في الفكر الإسلامي المعاصر، وموقف الإسلام من تأسيس الدولة الوطنية الحديثة… إلخ تلك القضايا التي تنزل بالخطاب الإسلامي من حيز العموميات إلى ملامسة هموم الناس وقضاياهم، بدلاً من نكوص ماضوي استغرقه خطاب الحركة خلال العقود الأربعة الماضية – ولم تسلم منه الجماعة الإسلامية- تحت ضغوط سلفية مستوردة، كان يراد منها تشويش العقل المسلم وجرفه بعيداً عن المسار الصحيح الذي يحقق مقاصد الإسلام الكبرى في تحقيق العدل والحرية والكرامة الإنسانية، وهو ما حدث للأسف الشديد.

وبالجملة فإن تباطؤ الجماعة الإسلامية عن اتخاذ زمام المبادرة، لا يعني سوى أن تتحول إلى مجرد ذكريات في غضون سنوات قد لا تكون طويلة.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه