الجغرافيا المائعة وصراع الشرق والغرب

 

لقد قيل دوما إن السياسة هي ابنة التاريخ، والتاريخ هو ابن الجغرافيا، والجغرافيا ثابتة لا تتغير!

وسواء كانت الجغرافيا المقصودة هنا هي الجغرافيا الطبيعية أو الجغرافيا السياسية “الجيوبوليتيك”، فإن المقولة في الحالتين خاطئة، فحتى الجغرافيا الطبيعية، بمحيطاتها وبحارها وجبالها وصحاريها، ليست ثابتة ولم تكن يوما ثابتة، بل لعلها كانت تابعة دوما للسياسة وليس العكس!

غرينتش جغرافي وآخر سياسي:

في القرن التاسع عشر، وهو القرن الذي سيطرت فيه الإمبراطورية البريطانية كقوة عظمى في العالم لتحكم أكثر من ربع سكانه، قام مؤتمر ميريديان الدولي عام 1884 م بتحديد خط الطول غرينيتش كخط فاصل بين شرق الأرض وغربها. لم يكن المقصود من ذلك تسهيل إجراءات التجارة والملاحة وقياس الوقت فقط، بل يحمل الأمر بعدا سياسيا واضحا، يتمثل باعتبار بريطانيا نفسها نقطة صفر للجغرافيا ومركزا للعالم تقاس الدول تبعا له شرقاً وغرباً.

وعلى الرغم من وقوع معظم دول أوربا المتقدمة شرق خط غرينيتش، إلا أن الجغرافيا لم تكن صارمة بما فيه الكفاية مع هذه الدول، بل لقد انتقل مفهوم الغرب بين عدة معانٍ غير جغرافية تماما، إلى أن أوجد لنفسه مؤخرا خط غرينيتش آخر سياسي، تكتَّلَ في غربه باطمئنان، بينما دفع الدول الأخرى التي لا تنسجم معه إلى الشرق منه، حيث صارت كل الدول التي تتبع النظام الديمقراطي وتلتزم بالقيم الأوروبية الحديثة وتعيش وفق اقتصاد السوق الحر وتتخذ المسيحية عمقا ثقافيا لها هي دول تنتمي للغرب، مهما كان توضعها من خط غرينيتش الجغرافي، حتى لو كانت تقع مثلا في قارة أستراليا أقصى الجنوب الشرقي للعالم، بينما أصبحت الدول الأخرى إلى الشرق من غرينيش السياسي حتى لو كانت غرب غرينيش الحقيقي كالجزائر والمغرب!

إن هذا التقسيم في الحقيقة تقسيم سياسي بحت، يضع الغرب نفسه فيه في مواجهة مع الشرق طمعا بمصالح سياسية واقتصادية بالدرجة الأولى. وستأخذ هذه المواجهة غير السلمية في غالب الأحيان شكلا أكثر نبلا في عيون التاريخ والشعوب الأوربية لو بررتها الجغرافيا المزيفة كصراع حتمي لا مفر منه، ولو جعلتها الفروق الثقافية والدينية بمثابة حرب مقدسة للدفاع عن الهوية والقيم.

أوربا وزيادة!

ويستمر الإغراق في ركوب مطية الجغرافيا الطبيعية، حين نعلم أن الشكل الأشهر لخريطة العالم الحالية المتداولة هو إسقاط مركاتور، الذي تم وضعه عام 1596م، والذي يضاعف مساحات دول النصف الشمالي من الكرة الأرضية عدة مرات أحيانا، بحيث تُظهر الخرائط التي تستخدم هذا الإسقاط غرينلاند مثلا على أنها تقريبا بنفس حجم أفريقيا، في حين أنها في الواقع أصغر منها بـ 14 مرة، وتبدو أميركا الجنوبية كما لو أنها في نفس حجم أوربا، وهي تقريبا ضعف حجمها، والأمر ينطبق على روسيا والسويد وكندا وغيرها من دول العالم الأول.

وعلى الرغم من أن إسقاط غال بيترز، الذي قُدم للعالم في عام 1973م، يصحح هذه الأخطاء، لتتضاءل دول العالم الأول، وتعود إلى أحجامها الحقيقية على الخريطة، إلا أن هذا الخطأ الجغرافي الفادح في إسقاط مركاتور المعتمدِ عالميا مسكوتٌ عنه بكل سرور، لأنه يعطي انطباعا بقوة تلك الدول وتفوقها. فبعد احتكار نقطة الصفر الجغرافية، وتوزيع المسميات الجغرافية على دول العالم وفق معايير غير جغرافية، تم فرض تصور خاطئ عن خريطة العالم على العالم أجمع، نوعا من ترسيخ الهيمنة.

مركز العالم بين بغداد وبيونغيانغ:

وتغيُّرُ الخرائط الجغرافية تبعا لتغير خرائط القوى السياسية ليس أمرا جديداً، بل لقد كانت الجغرافيا في تغير مستمر دوما حسب راسميها، والمركزِ الذي يعتمدونه في انطلاقهم لرسمها.

والمهمةُ التي أوكلها الخليفة المأمون عام 833 م لسبعين عالما وفلكيا، لوضع خريطة جديدة للعالم، أسفرت عن خريطة تقع بغداد عاصمة الدولة العباسية في مركزها تماما، وتبدو أور با فيها صغيرة نسبيا، في حين تمتد إفريقيا وآسيا امتدادا واسعا، ولا داعي طبعا للإشارة إلى عدم وجود قارتي أمريكا وأستراليا فيها، فاختفاؤهما من الخرائط لم يكن يعني فقط عدم اكتشافهما، بل كان يعني أيضا غيابهما عن خريطة القوى السياسية، مما يؤكد لنا صحة تغير الجغرافيا تبعا للسياسة.

ولا عجب أن أوربا بدت صغيرة وهامشية في خريطة المأمون، لا يعكس ذلك مساحتها الحقيقية فقط، بل يدلل على أنها لم تكن إذ ذاك قوة سياسية تحسب الدولة الإسلامية لها حسابا، ولم يلتفت لها المسلمون، على عكس الشرق المتمثل بالصين، والذي كان ينظر له المسلمون دوما كقوة حضارية مكافئة لهم، لذلك تعمقت الفتوحات في اتجاه آسيا أكثر بكثير من توجهها نحو أوربا، كما نشطت المبادلات التجارية والعلاقات الدبلوماسية مع الشرق. لقد كانت جغرافيا العالم تبدو مختلفة تماما عن الجغرافيا التي يبدو عليها العالم اليوم، وكانت صحيحة بالنسبة إلى عصرها وراسميها.

وفي كوريا الشمالية تُدَرَّسُ الآن خارطة العالم بشكل مقلوب عن الشكل المتعارف عليه، بحيث تكون قارة أمريكا إلى يمين الخارطة وقارات أوربا وآسيا وأفريقيا إلى يسارها، لتصبح كوريا الشمالية في قلب العالم، وهكذا نجد أن الخرائط تعكس تصور الحضارات عن نفسها وعن موقعها من الحضارات المحيطة بها.

العالم أكبر من ثنائية الشرق والغرب:

إن تيقننا من مرونة الجغرافيا في خدمة السياسة، سيجعلنا حذرين جدا من التسليم بالاصطلاحات الجغرافية. كما أن الترويجَ لحالة من الصراع بين الشرق الذي كثيرا ما يُستخدَم مرادفاً جغرافياً عن العرب والإسلام، والغرب الذي يعني دول العالم الأول بهويتها ومرجعيتها المسيحية، على أنه صراعٌ تحتمه الجغرافيا أمر يحتاج إلى إعادة نظر، حيث تنقضه عشرات الوقائع والأزمات التي يصطلي المسلمون في جحيمها. فالصين مثلا التي تضطهد ملايين المسلمين في إقليم شنغيانغ تقع إلى الشرق منا، وكذلك ميانمار، وثمة أيضا روسيا الدولة العابرة للقارات والتي غرست خنجرها في شام العالم العربي، وثم إبادة تعرض لها المسلمون في إفريقيا الوسطى، وهناك إسرائيل التي تقع في قلبنا الذي أسموه “الشرق الأوسط”، وكلهم لا ينتمون للغرب بالمفهوم المراد لنا برمجة عقولنا على جغرافيته. وفي العالم أجمع ما يقارب 196 دولة!

فأين كل هؤلاء من هذه الثنائية البسيطة التي لا نفتأ نكررها ليل نهار على أنها صراعنا الأكبر، وأين هم من خريطة وعينا بالعالم المقصقصة والمفصلة على قياس المعارك المفروضة علينا؟

إن تعزيز الهوية الجغرافية والأيديولوجية للصراع بين الشرق والغرب، فيه تغطية على جوهر الصراع ذي الهوية السياسية والاقتصادية والمصلحية الذي يستخدم الأيديولوجيا ولا يخدمها، بل إن في ذلك أيضا تبريرا نبيلا لهذا الصراع تحت شعار الدفاع عن المقدس. ولأجل ذلك يتم تزييف الجغرافيا، واستجرارنا إلى معارك نحن غير مستعدين لها الآن، على حساب معاركنا الملحة مع الباطل الذي يعيش بين ظهرانينا، من أنظمة مستبدة، وانحرافات فكرية وأخلاقية، ومفاهيم مغلوطة تختطف ديننا وثقافتنا وأسباب قوتنا.

هوية الصراع بين اليوم والأمس:

 إن تغيير هوية الصراع بين الشرق والغرب من صراع سياسي معقد تتداخل أسبابه وتتشابك دوافعه، واختزاله في صورة صراع أيديولوجي بحت خاضع لمنطق جغرافي بسيط كان سببا مهما من جملة أسباب التعاطف مع تنظيمات كداعش، وجود شامتين بكل ما يلحق بالغرب من كوارث كحريق كاتدرائية نوتردام، ووجود الإسلاموفوبيا، وحدوث مجازر كمجزرة نيوزيلندا الأخيرة، فأمور كهذه تبدو بديهية ومنسجمة مع طبيعة الصراع المروج له، والذي يحول كل مواطن غربي إلى عدو لنا، ويحول كل واحد منا إلى عدو له، لأننا كبشر منفردين تجسيد حقيقي لهذه الأيديولوجيات المتصارعة.

ولكن المسلمين، وفي أكبر مواجهة مباشرة لهم مع الغرب أثناء الحملات الصليبية، حين جاءهم يرفع صلبانه عاليا ويرسمها على ملابس جنوده، ويضعها على تيجان ملوكه، لم ينظروا للصراع معه على أنه صراع بين الصليب والهلال، ولم يسموا الأوربيين حينها كما سمى الأوربيون أنفسهم صليبيين، بل سموهم بالإفرنج، في دلالة واضحة على فهمهم للعبة السياسية، وعلى عدم انجرارهم لصدام حضاري أيديولوجي يُفرض عليهم من الآخرين، بل كان الصراع في نظرهم بين محتل غاز وصاحب الدار، وبين متذرعٍ بالباطل ومتخندقٍ في أخاديد الحق. فالمسلمون كانوا دوما في زمن نهضتهم متمسكين بالحق في وجه أي باطل، مهما كان موقعه من الخارطة، حتى لو كان بين ظهرانيهم، وكانوا ينظرون إلى الشعوب الأخرى بنظرة رسالية إنسانية عالمية، تستنيرُ بنور “إنا جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا”، حتى لو كانوا في صراع مع القوى السياسية الغاشمة التي تحكم هذه الشعوب، والتي لا تتوانى عن تزييف أي شيء لتبرير عدوانها وتحقيق مصالحها، حتى لو تطلب الأمر منها قصقصة الخرائط وتزييف الجغرافيا!

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه