الجسد. بين همجية الحضارة وتديُنِها

 

وسط عجاج الضباب، ونسمات المطر، تسكر الفِكَر، وتثور مشاعر الروح الكامنة، في قوالب الأحاسيس المحبوسة بدوران ساعات الزمن، لتهرب نحو حدائق الفن المخملية، حيث ترك الإنسان منذ القدم بصمته؛ ليرسم مكنون تلك الذات البشرية غبر العصور!

 وإنك أينما دخلت متحفًا من متاحف هذه الأرض الواسعة الشاسعة، تجد روحك تعانق سحر جمال الحضارات اليونانية والإغريقية والفرعونية، وغيرها من حضارات ملأت أسرارها كتب التاريخ وفنونها جدران المتاحف، وآه لو وقفت أمام إبداع الحضارة الاسلامية؛ لتهيم مع سحر الفن الإسلامي، المجسد لعلو الفكر الإسلامي، وسمو فنه وتاريخه.

تنتابني الرهبة والفضول من عمق التاريخ، ودقة تفاصيله؛ لأتخذ منها جسر عبور للذات البشرية، كلما توقفت أمام تماثيل ولوحات فنية، أبدعها فنانون عظام؛ عبر العصور القديمة والمتوسطة والحديثة. تميزوا بما لديهم من ملكة الحس والتخيل، ومن المهارة والحذق، وأبدعوا فنوناً جميلة، ارتقت بالحاسة الفنية والمشاعر الجمالية للإنسان، وسجلت معالم الحياة، ونقلت إلينا مفاهيم وثقافات وحضارات ربما لو لم تنقلها تلك التماثيل واللوحات لكانت قد اندثرت!

في المتحف المصري:

ذات ربيع، وبينما كنت أتجول بين أروقة المتحف المصري.. أدقق في ذهول في تلك الفنون الجميلة، من رسوم وصور وتماثيل، وأرى فيها جمالاً وزينة، ومهارات عبقرية للإنسان الفرعوني في ذاك الزمان، وما بلغه من عبقرية في تنمية الإحساس الجمالي ونحت لحضارته؛ حتى يجبرك على التأمل والتفكر؛ إذ تحملني الذاكرة فجأة إلى متحف اللوفر، الذي زرته العديد من المرات، حيث وقفت مطولًا أمام اللوحات الفنية، والتماثيل التي رأيت فيها عبقرية الرسام والنحات والفنان، ثم أحط رحال ذاكرتي في المتاحف الإسلامية حيث للتاريخ الإسلامي عبق، يجعل العقل يهيم في أفياء سحر الحضارة الإسلامية، ويتصفح ورقات التاريخ الشامخ الزكي..

لكن المتأمل في اختلاف الفن بين هذه الحضارات يجد نفسه أمام سؤال صعب، يبحث عن إجابة شائكة:

لماذا يعمد الفنانون إلى تعرية أجساد تماثيلهم، وكشف عوراتها المغلظة؛ في حين أن الفراعنة لم يفعلوا ذلك لرجل او امرأة؟

ولماذا لم يعمد الفن الإسلامي إلى تجسيد البشر، ولم يسع إلى العري؛ كما هو الحال في الحضارات القديمة والحديثة؟

وهل هذا «الكشف للعورات»، هو تعبير صغير لذرائعية وصلت إلى الذروة، و«برغماتية» مسفّة، تضرب عميقاً في الفكر الغربي؟

هل تذكّر الغرب بالحرية، التي طالما اتهم شعوبًا بالافتراق عنها؟

الحضارات الهمجية:

إن المتأمل في تاريخ الحضارات ليرى أن العري تجسد في الحضارات الهمجية التى تدعو إلى إثبات سيطرة الجسد عبر تعريه، وترى في حجب عورته نفيًا له؛ على عكس الحضارات المتدينة التي سمت بالروح، وسعت إلى احترام الجسد، فسترت عورته، وأبرزت قوته من منظور آخر!

الثابت هو أن الفنون العالمية جسدت الآلهة، وصورتها في صور بشرية أو حيوانية! عارية متجردة!

 لكن الفنان المسلم قد تعامل بغاية من الذكاء في عرض انطباعاته الفنية، فلجأ إلى عناصر الطبيعة ليعبر بها عن الجمال المطلق، من خلال التكوينات النباتية، والهندسية، منطلقًا من نقطة واحدة (ترمز للتوحيد المطلق) لتنطلق منها زخرفته، التي تمتد في الاتجاهات كلها دون توقف، حتى إنها يمكن أن تغطي الكرة الأرضية جميعها، في نسج فني رائق باهر، وستجد هذا بوضوح في المعالم الأندلسية، والأموية، والفاطمية، والمملوكية، والعثمانية والمغربية، وغيرها! وستجدها في العمائر، وأغلفة الكتب، والمصاحف، وفي فنون العمارة، والأرابيسك، والزخرفة، والتذهيب، وغيرها دون أي عناء!

كما أن الفنون الرومانية والإغريقية جسدت الأرباب على هيئة بشر عراة، تبرز عوراتهم، ولا يرون في ذلك حرجًا! وكررت ذلك المسيحية، فجسدت الأنبياء العظام عليهم السلام عراة مجردين، أو رسمتهم! ناهيك عن معابد هندوسية إباحية، مثل معبد خاجوراهو، في ماديا براديش بالهند، حيث تجد كل الأصنام فوقه – بعشرات الألوف – في أوضاع إباحية مخلة جدًّا؛ حتى مع الحيوان! ناهيك عن الأديان المستبيحة التي تعبد الفروج، وتعمل لها كرنفالات وأيقونات ومعابد ومجسمات بأحجام عجيبة في ثقافات شرق آسيا!

معاني الحشمة:

لكنك يستحيل عليك أن تجد شيئًا من ذلك في مسجد أو مدرسة، أو شارع، أو كتاب، من كتب المسلمين، لأن الدين جاء في أحكامه بمعاني الحشمة، وحفظ العورة، والستر، وهي مفردات قد لا تجد في بعض اللغات مرادفات لها، مجرد لفظة مرادفة!

وكل هذا قد يقود المرءَ إلى استنتاجِ أن تعاريفَ الفن -كتعاريفِ الجمال- ذاتيّةٌ، غير مستقرة حيث إن البعض يرى أن الجسد العاري في الإبداع التشكيلي الحديث، يبقى أيقونةً مبهمةً؛ ترسم في غموضها والتباسها ملامح القهر والاستبداد والقتل الرمزي، إذ لم يصل الجسد البشري في المخيلة المعاصرة إلى النضج الدلالي الجمالي؛لأنه لا يزال حبيسًا للنظرة الفردية والجنسية الضيقة!

في الختام أقول إنني لست معنية، بهذا العري والتبذل في الأعمال الفنية، إلا أنني هنا معنية، بالدلالة.

 الرمزية لمفهوم الحرية للفنان الغربي المبدع، عبر عصور وعصور، ومعنية باحترام الثقافات المغايرة، لكني أرى أن العري في الفن القديم والجديد محض شبق، وابتذال، لا جمال فيه!

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه