الثّورة ضد الخوف تندلع من جديد

عبر التّاريخ كانت العبودية الاختراع الأكثر توحشاً الذي أخرج أسوأ ما في النّفس البشرية فلم يعد التّعذيب والقتل وحجز الحريّة مقتصراً على الطّغاة والسّلطة الحاكمة بل صار متاحاً للتجار وأصحاب الأموال وأقرّته الحكومات أمراً عادياً وطبيعيا، استغله البشر وتوطنت من خلاله نزعة العنصرية والميول العدوانية تجاه الآخر المختلف وأفرزت أشكالاً متعددة من السّلوك البشري المنحرف ليس أقلها تجارة الرقيق. لكن في نهاية المطاف تفجرت في دواخل البشر المسحوقين الرّغبة في البحث عن حريتهم.

قصة محررة العبيد

أبرز القصص المشهورة في البحث عن الحريّة قصة الزّنجية “هاريت ويتمان” محرّرة الرقيق. بعد هربها من سيدها الأبيض ووصولها إلى بنسلفانيا، انضمت إلى شبكة لتحرير الرقيق، وقد حرّرت حوالي سبعين شخصاً بتهريبهم عبر طرقات خطرة وأوصلتهم إلى الحريّة. عاشت هاريت 91 عاماً، توفيت عام 1913.

عملت جاسوسة لصالح جيش الاتحاد بداية الحرب الأهلية في أمريكا. قادت مئة وخمسين جندياً من السّود في غارة (كومباهاي ريفر) حرّرت خلالها 750 عبدا وهي من أوائل النّساء اللواتي حملن السّلاح.

أوّل شخص فكرت هاريت بتحريره زوجها، لكنها حين عادت إلى موطنها بعد سنة وجدته متزوجاً فسعت لتحرير أشقائها، وحين عادت لتهريب شقيقتها رفضت شقيقتها أن تهرب معها بحجة أنّها تريد أن تعرف مصير أولادها الذين باعتهم سيدتها لأحد النّخاسين. حين أصرت هاريت على شقيقتها بتهديدها كي ترافقها، قالت شقيقتها “لن اذهب معك، اذهبي وإلا صرخت وتركتهم يمسكون بكِ”.

لقد تمكّن الخوف من شقيقتها حد اعتقادها أنّها لن تفلح في الهرب، وأنّ سيدها سيقبض عليها وستقتلع سيدتها عينيها _كما هددتها يوماً_

العنف الذي مورس ضدّ السّود وطرق التّعذيب التي تفنن بها البيض زرعت الرّعب في نفوسهم إلى درجة تمسكّهم بعبوديتهم حتّى وإن حانت الفرصة لينالوا حريّتهم.. وبقي القسم الكبير منهم راضياً بعبوديته حتّى منحتهم السّلطات تلك الحريّة.

ولد الإنسان حرّاً..

الحادثة الأشهر في التّاريخ العربي ما روي عن ابن عمرو بن العاص حين كان والياً على مصر حين ضرب غلاماً قبطياً تجاوزه في سباق الخيل معتمداً على سلطة أبيه فاشتكى الغلام إلى الفاروق فاستدعى الفاروق الجميع إلى مجلسه في المدينة وأعطى الغلام سوطاً ليقتصّ لنفسه من ابن عمرو بن العاص، وقال لعمرو بعد أنّ اقتصّ الفتى لنفسه عبارته المشهورة: “متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحراراً؟”

لكنّ ما فعله عمر لم يصبح قانوناً في البلاد العربية ولم ينفذ في عهد آخر غير عهده. فقد استبدّ الحكّام وأصبح أولادهم أشدّ استبداداً منهم والسوريون خير من عانى من ذلك الوضع المأساوي لتوحش السّلطة في عهد حافظ الأسد. وفي حادثة مشابهة لحادثة ابن عمرو بن العاص تجاوز حصان الفارس عدنان القصّار حصان باسل الأسد في سباق الخيل فاعتقله باسل وبقي مسجوناً 21 عاماً.. مات باسل ومات حافظ وبقي عدنان القصّار في المعتقل حتى 15 حزيران عام 2014  

شكل جديد للعبودية

لم يتخلّص المجتمع الأمريكي من بقايا العنصرية الكامنة في تركيبته النّفسية على الرّغم من القوانين التي سمحت للسود بالمساواة مع البيض في الحقوق والواجبات، النزعة العنصرية تجاه اللون توارثتها الأجيال وبقيت كامنة بانتظار ما يفجرها. كما توارث العبيد الخوف وصار بالنسبة إليهم  شكلاً للحياة.

حادثة مقتل الزنجي “فلويد” على يد الشّرطي الأبيض، الذي ضغط على عنقه أكثر من ثماني  دقائق مانعاً إياه من التّنفس، تحوّلت من حادثة قتل عادية إلى انفجار زلزل الشّارع الأمريكي بالمظاهرات وأعاد إلى الواجهة المطالبة بالحريّة الخالصة التي لم يمنحها المجتمع الأمريكي العنصري للسود خالصة كما لم يمنحها للهنود الحمر السّكّان الأصليين لأمريكا..

ما زالت بقايا العنصرية في التّركيبة البشرية للمجتمع الأبيض تحكم تصرفات الكثيرين وتعيد إلى الأذهان بدايات الرّق التي قام المجتمع الأمريكي عليها.

الآن هناك ثورة حقيقية في أمريكا ضدّ العنصرية تحمل شعار “لا أستطيع أن أتنفس” العبارة التي قالها فلويد قبل أن يموت” فهل ستكون حاسمة هذه المرّة وتعيد إلى المواطن الأمريكي الملون حريّته كاملة وحقوقه من دون نقصان؟ تجاوزت الاحتجاجات المجتمع الأمريكي فقد خرج سكان بريستول البريطانية في مظاهرات احتجاجية أسقطوا خلالها تمثال “إدوارد كولستون” تاجر الرقيق الأول ورموه في الميناء، وقد عرفت بريستول بأنها مركز تجارة الرقيق.

إن انتشار المظاهرات المناهضة للتفرقة العنصرية خارج الولايات المتحدة وامتدادها إلى كندا وبعض الدول الأوربية يشير بوضوح إلى كونها مجتمعات ارتقت درجات أعلى في سلم الإنسانية ويؤكد حالة وعي نفتقدها كثيراً في مجتمعاتنا العربية التي صمتت عن ألوف مؤلفة من الحوادث الإجرامية التي تنال من إنسانيتها ومن معتقداتها ومن مصالحها الاقتصادية على المستويين البعيد والقريب ورغم ذلك تجد الغالبية العظمى من الأفراد يبحثون عن خلاصهم الفردي وفقط. لم يعد مهماً أن يموت الآلاف في المعتقلات تحت التعذيب ولم يعد مهماً أن تتدمر مساجد أو كنائس ولم يعد مهماً أن يموت البشر من الجوع المهم فقط ما أكسب.

وإذا كانت شقيقة هاريت قد آثرت عبوديتها، وإذا كان عبيد المنازل قد وقفوا في وجه عبيد الحقول حفاظاً على مصالحهم فلأنهم كانوا في بداية عهد حضاري يتأسس لم تتضح معالمه أما في مجتمعاتنا العربية التي تعي تماماً كل جرائم الغرب وتغض البصر عن جرائم تحدث أمام أعينها في عصر اتضحت كل معالمه.  فللحاكم المقدس سطوة الإله ألم يجعل أتباع الأسد منه رباً؟ يسجدون له بأمعائهم الخاوية متناسين تماماً حديث أبي ذر الغفاري الذي كانوا يتشدقون به كثيراً كأول اشتراكي ثائر في الإسلام (عجبت لمن بات جائعاً ولم يخرج شاهراً سيفه على الناس).

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه