الثورة المضادة والتحدي الإنساني

الثورة المضادة تحدٍ إنساني كبير، كل الإنسانية تعاني منه وإنْ بدرجات متفاوتة؛ ممل يعني أنّ الثورة ضد الظلم والاستبداد والقهر والفساد

 

لم يكن الإنجليزي هارولد لاسكي فيلسوفا ومفكرا سياسياً وحسب، إنّما كان إلى جانب ذلك رجلَ سياسة؛ مارس السياسة عملياً من خلال “حزب العمال” بالمملكة المتحدة في أواخر النصف الأول من القرن العشرين، وعندما يتحدث رجل بهذه الوضعية السياسية والفكرية في بريطانيا مهد الديمقراطية وفي أوان كانت فيه الليبرالية قد تراجعت عن شططها لتحقق للشعوب قدرا من الرفاه والضمان الاجتماعي، عندما يتحدث في ذاك الوقت عن الثورة المضادة يكون حديثه لافتا للنظر حقاً؛ لأنّه يميط اللثام عن حقيقة غفلنا عنها كثيرا؛ فوقع الربيع العربي كله في أتّون الثورة المضادة التي لا تزال تستعر وتلقي بالشرر.

    والحقيقة تتجلى في هذه الكلمات الواثقة الصارمة: “إننا لن نفهم طبيعة الحرب التي اشتبكنا فيها إلا إذا أدركنا أننا نقاتل قوات الثورة المضادة، وهذه الحقيقة الأساسية هي ما يجب أن نكيف معه نظرتنا للأمور واستراتيجياتنا، ومما لا ريب فيه أننا نقاتل في سبيل بقائنا شعوبا حرة، ونحاول أن ننزل العقاب بأعدائنا لقسوتهم التي لا تقف عند حدّ، ونرمي إلى جعل دناءة أساليبهم وخيانتها مستحيلتين في المستقبل إن استطعنا، ويهمنا أن نستأصل عبادتهم الفجة للقوة لذاتها من جذورها، بيد أننا إذا لم نكيف جهودنا مع حقيقة أننا إنما نقاتل الثورة المضادة سيكون نصيبنا الفشل في  تعبئة المصادر الضرورية للنصر في جانبنا”([1]).

رد فعل من قوى الطغيان:

    إنّ أهمَّ ما يميز مفكري الغرب وعيُهم التام بعدوهم، وبالمخاطر التي تهدد إنجازاتهم، ونظرتهم الاستشرافية المبنية على خبرات واقعية لا على أمانيّ سابحة في سماء الأحلام؛ لذلك وجدنا الآباء المؤسسين من أمثال توماس جفرسون وبنيامين فرانكلين وجورج واشنطن وغيرهم يؤسسون الدستور الأمريكي ويرسمون معالمه بالشكل الذي يحمي المكتسبات الثورية ويؤمن البلاد من شبح الثورة المضادة، وقد كانوا على وجل من سطو الرأسمالية على الحياة السياسية ونزوها على المؤسسات الجديدة، “وقد ذهب توماس جفرسون – على الأقل – إلى مدى أبعد من هذا، فكان خوفه من نمو الصناعة والتجارة وإيثاره المهن الزراعية عليها؛ يعني أن الاهتمام الناشئ عن مزاولة بعض المهن وممارسة بعض الأشغال قد يغير الطبيعة الأصلية وما يترتب عليها من مؤسسات ملائمة لها”([2]).

     لا نبالغ إذا قلنا إنّ الثورة المضادة لا تأتي متأخرة عن الثورة الحقيقية إلا بخطوات يسيرة؛ لأنّها تولد كرد فعل سريع ومباشر من قوى الطغيان التي تستهدفها الثورة بالإطاحة، وبقدر ماتكون الثورة قوية وجذرية في تغييرها وحاسمة في تقرير الأعراف الجديدة تكون قوى الطغيان حريصة على ارتداء ثوب الثورة في مواجهتها للثورة، لأنّها تكون مضطرة لمحاكاة الواقع الذي فرض نفسه بالعامل الثوري، ومن هنا تنشأ في مواجهة الثورة ثورة مضادة وفي مواجهة الحرية حرية مضادة وفي مواجهة الشرعية شرعية مضادة وفي مواجهة الديمقراطية ديمقراطية مضادة، بل لقد نشأت في مواجهة النبوة نبوة مضادة؛ حيث لم تجد الجاهلية طريقة تعيد نفسها بها إلا أن ترتدي الثوب الجديد، فانطلقت دعاوى النبوة قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث ادعى مسيلمة النبوة وانتحل كلمات يضاهي بها القرآن، ثم تلاه آخرون.

اشعال الحرب الأهلية

    وقد كانت خبرة الغرب بالثورة المضادة وألاعيبها عميقة وواسعة؛ لأنّ ثورتهم مرت بمراحل كثيرة وطويلة، وقد لاحت بشائرها  في وهج الفكر الإيطالي في وقت مبكر منذ بدايات عصر النهضة، على يد دعاة الحرية من أمثال: تومـا الإكويني وألبرت الكبير وجون ساليسبري والشاعر الشهير دانتي([3]) وغيرهم، حيث اشتعلت بعدها ثورة المدن الإيطالية ضد الإمبراطورية الرومانية المقدسة ثم ضد الكنيسة التي وقفت معهم في بادئ الأمر لتحرز نصرا على السلطة الزمنية ثم غدرت بهم وانقلبت عليهم، ثم كانت الثورة المضادة التي ساهم في إشعالها التدخل الخارجيّ؛ ليقع الناس بين خيارين: إمّا الأمن وإمّا الحرية، ثم ليسقطوا في جب الاستبداد دهرا طويلا([4])، قبل أن تشتعل الثورة في أماكن أخرى من القارة الأوربية.

   وعندما هبت رياح الثورة الإنجليزية في القرن السابع عشر لم يجد آل  ستيوارت بدا من إشعال الحرب الأهلية التي اصطبغت بصبغة دينية؛ حيث انحاز الملك للكاثوليكية ضد البرلمان الذي انحاز للبروتستانتية؛ لتغرق البلاد في حروب دينية استغرقت عقوداً حالكة السواد هلك فيها الحرث والنسل، قبل أن تحسم الموجة الثانية المعركة فيما سمي بالثورة المجيدة، وكذلك الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر مرت بمراحل كان من ضمنها جولات للثورة المضادة.

    لكن الأمم الغربية وعت الدرس جيداً، فاجتهدت في سد الأبواب ضد الثورة المضادة في صورها الفجة، أمّا في الصور الناعمة فقد أفلتت من أيديهم كانفلات الماء من بين الأصابع، وهذا ما جعل المفكرين من أمثال هارولد لاسكي وماكس فيبر ونعوم تشومسكي وغيرهم يرفعون أصواتهم منددين ومحذرين، لقد تغلغلت الثورة المضادة في عصب الأجهزة والمؤسسات، بل وفي صلب النظريات الفكرية ذاتها، وصار الناس يتساءلون: من الذي يحكمنا؟ أهي هذه الحكومات التي نقوم بانتخابها أم هذه الشركات العملاقة التي صارت تطوي الكوكب الأرضي تحت عجلاتها وهي تجوب القارات؟!

    إنّ الشعور بالخطر على الديمقراطية والحرية والرفاه صار كابوسا مروعاً يقلق مضاجع الزعماء والدهماء على السواء؛ جراء تمدد سلطان الرأسمالية النيوليبرالية على المستويين النظري والعمليّ، لقد وصل الحال إلى حد تبرير الشمولية، فهذا ميلتون فريدمان الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد يقول بوقاحة: “من الاعتراضات الشائعة على المجتمعات الشمولية أنَّها تعتبر أنَّ الغاية تبرر الوسيلة، ولكن إذا نظرنا إلى هذا الاعتراض حرفياً نرى أنَّه مناف للمنطق بشكل واضح؛ فإذا لم تبرر الغاية الوسيلة فماذا يبررها ؟ … فإنكار حقيقة أنَّ الغاية تبرر الوسيلة تمثل تأكيداً غير مباشر على أنَّ الغاية التي نحن بصددها ليست الغاية النهائية، وأنَّ الغاية النهائية بحدّ ذاتها استخدام الوسائل الملائمة، إنَّ أية غاية سواء كانت محبذة أم لا ولا يمكن بلوغها سوى عن طريق وسائل سيئة لابد أن تحل محل الغاية الأهم، وهي غاية استخدام الوسائل المقبولة”([5]).

منظومة متماسكة:

    هذا على المستوى النظريّ، أمّا على المستوى العمليّ فقد بلغ الأمر إلى صورة من صور التزاوج بين الثروة والسلطة، ولكنها ليست بالسذاجة الفجة التي عليها في بلادنا، وإنّما بصورة أكثر (شياكة) وأعمق أثرا، يقول جون بيركنز: “إنَّها منظومة متماسكة من أشخاص معدودين، لهم أهداف مشتركة، وأعضاء هذه المنظومة ينتقلون بسهولة بين عضوية إدارة هذه الشركات الضخمة والمناصب الحكومية، صدمت عندما تذكرت أن رئيس البنك الدولي الحالي روبرت مكنامارا يعد نموذجا مثاليا لذك، فقد انتقل من منصبه كرئيس لشركة سيارات فورد إلى وزير للدفاع في عهد الرئيس كنيدي والرئيس جونسون، والآن يقف على رأس أكبر مؤسسة مالية في العالم”([6]).

    والمقصد من هذا السياق كله هو تجلية جملة من الحقائق، يأتي على رأسها تلك الحقيقة التي أشار إليها عنوان المقال، وهي أنّ الثورة المضادة تحدٍ إنساني كبير، كل الإنسانية تعاني منه وإنْ بدرجات متفاوتة؛ مما يعني أنّ الثورة ضد الظلم والاستبداد والقهر والفساد مرشحة للاندلاع بشيوع يعم الكوكب الأرضي كله؛ وهذا مما يشعرك بأنك لست وحدك على هذا الطريق، وبأنّ قضيتك قضية إنسانية في المقام الأول؛ فمن حق الإنسان الذي ولد حراً أن يعيش حراً، ومن حقه أن يسعى بحرية ومساواة في فرص السعي لنيل السعادة والرفاهية، وهذا الحق هويته إنسانية قبل أن تكون وطنية.

    تلك كانت الحقيقة الأولى، أمّا الثانية فهي أنّ الصراع بين الثورة والثورة المضادة قديم جديد، أبدي سرمدي، فليس بدعاً من الأحداث ما جرى في بلداننا، ولسنا أول من ذاق مرارة الانحدار بعد الانتصار، ومن ثم فما جرى عليهم سيجري علينا، وسوف يأتي اليوم الذي تقول فيه شعوبنا عن ماضيها الذي عاشته في ظل الثورة المضادة ما قالته شعوب أوربا بعد ظفرها بالثورة المضادة ودفنها لها، فهي سنة إلهية لا تتخلف ولا تتبدل: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران 140).

    أمّا الحقيقة الثالثة التي تتبدى من هذا السياق فهي أن الوعي بالعدو واليقظة لأساليبه وألاعيبه عامل كبير من عوامل النصر والظفر بأعداء الثورة، وأنّ الأحداث التي جرت إن لم تزدنا خبرة ودراية ووعيا وبصيرة فلن تزيدنا إلا فشلا وهزيمة وخبالا، فهذه الأحداث فاضحة وكاشفة؛ ليستبين سبيل أعداء الله وأعداء الإنسانية، (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام 55).

    وانطلاقاً من هذه الحقائق يجب أن نكون على يقين من أنّ الثورة ستنتصر يوماً، وأن يسعى كل امرئ  منّا دون يأس أو إحباط، وأن تتكاتف الجهود وتتواصل المساعي، وأن نسعى لمد جسور التواصل مع نبتات الثورة في كافة البلدان للعربية، من منطلق كونها ثورة واحدة وكوننا أمة واحدة، ومقتضى ذلك أن نكون جسداً واحدا، لأن عدونا يدير الثورة المضادة من غرفة عمليات واحدة، لكنها – وإن بدت قوية وجهنمية – غاية في الضعف والهشاشة أمام عزائم أهل الحق، ولسوف يهزمون (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (الشعراء 227).

 


([1]) تأملات في ثورات العصر – هارولد لاسكي – ت عبد الكريم أحمد – ط دار القلم – القاهرة – بدون تاريخ – صــــ 348

([2])  الحرية والثقافة – جون ديوي – ترجمة أمين مرسي قنديل – مطبعة التحرير – مصر – ط 2003م صـــــــ 9

([3]) راجع تطور الفكر السياسي لجورج سباين  ك2 ص 155 – 157

([4])  راجع: أسس الفكر السياسي الحديث (عصر النهضة) الجزء الأول – كوينتن سكنر – ت: د. حيدر حاج إسماعيل – المنظمة العربية للترجمة – توزيع مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت – لبنان – ط أولى 2012م صــــــــــــ 343 وما بعدها

 

([5])  الرأسمالية والحرية – ميلتون فريدمان – ترجمة مروة شحاتة – كلمات العربية للترجمة والنشر – ط  أولى 2011م – صــــــــــ 47

 

([6])  الاغتيال الاقتصادي للأمم – جون بيركنز – ترجمة مصطفى الطناني – الهيئة المصرية العامة للكتاب 2004م صــــــ52

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه