الثورة الجزائرية بين الصوفية والسلفية

وسمعت أصواتا سلفية تدندن بنفس أوارد الصوفية، وعلت حناجر صوفية بنفس نبرات المدارس السلفية، وربما نسمع قريبا عن الطريقة الخلوتية الجامية المدخلية

 

 

محاربة الفساد ومراغمة الاستبداد، وإقامة العدل والتصدي للظلم، من بينات الدين، ومن مقاصد الشريعة؛ والرضا بالدنية وممالأة الظالم أو تملق المستبد، ليس من طبائع المؤمنين، ومن هنا كان الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو عنوان هذه الأمة وأبرز ملامح خيريتها.

(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ )

وورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن أمتي إذا رأت الظالم فلم تقل له يا ظالم فقد تودع منها” أي أصبحت لا خير فيها.

إن ضمانة الاستمرار والاستقرار في الأخذ على يد العابثين وكبح جماح المجرمين والفاسدين

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغِّيِروه، أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابِهِ “.

ولما تسرب إلى بعض الخلف فكرة الاهتمام بالنفس، والانصراف عن نصيحة الآخرين مستدلين بقول الله تعالى:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ۚ )

بين لهم أهل الفقه والنظر أنه لا يضركم من ضل إذا اهتديتم، إذا قمتم بواجب الأمر والنهي الذي هو من صلب الهداية ولا تكتمل إلا به.

الطريقة الرفاعية البرهامية

ألجأني للتذكير بهذه المسلمات الإسلامية، والبديهيات الإنسانية، أصوات تعالت تحذر من التغيير، وتذكر بما آل إليه مصير من طالب به وسعى إليه في بلاد الربيع العربي، مع إظهار التوجس والريبة من انتصار شعب الجزائر على الطغمة الحاكمة في الجولة الأولى من جولات الموجة الثانية لاستكمال التحرر الوطني، والتخلص من الدولة الوظيفية التي تحكم نيابة عن القوى الاستعمارية.

مبررين أن قبول الضيم والسكوت عن الظلم، والتأقلم مع منظومة الفساد والاستبداد، أقل كلفة من طريق التحرير والتغيير.

وسمعت أصواتا سلفية تدندن بنفس أوراد الصوفية، وعلت حناجر صوفية بنفس نبرات المدارس السلفية، وربما نسمع قريبا عن الطريقة الخلوتية الجامية المدخلية، أو الرفاعية البرهامية الرسلانية!

وجمع بين الشتيتين بيت الطاعة وظل الطاغية، وإيثار هواه على ما عداه، فعلمت أن الخلل في النفوس، وليس في المحفوظ من النصوص.

غاب عن هؤلاء وأولئك أن الأمر ليس حرصا على صدارة، أو منازعة في حكم أو إمارة، وإنما هي قذائف الحق التي ينبغي أن تلقى في وجه الباطل:

(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ )

الثورة ليست بدعة ياسادة

الثورة هي هتاف بلال على رمضاء مكة “أحد أحد” وهي صمود أم عمار حتى نالت الشهادة على يد الفجار.

الثورة هي إعلان جعفر بن أبي طالب عن مبادئ الإسلام في بلاط النجاشي وأمام القسس في الحبشة.

الثورة هي ما فعله حمزة لما أسلم، وما فعله عمر عندما هاجر.

الثورة هي رفع راية المعروف وعدم السكوت على المنكر ، هي قيام بواجب عمارة الأرض بعدما ظهر الفساد في البر والبحر، وأصبحت بلاد المسلمين وثرواتهم ميراثا يورثه الحاكم لولي عهده وأولاده من بعده !

بل تعدى الأمر إلى ما هو أعجب وأغرب فأصبح يتحكم في البلاد، ورقاب العباد من هو أقرب إلى عالم الغيب منه إلى عالم الشهادة، ومن هو إلى حياة البرزخ أقرب منه إلى الحياة الدنيا.

حمدت الله أن هذا الخليط النكد الذي أخذ من السلفية صورتها، ومن الصوفية وهدتها لم يظهر في أيام الاحتلال والاستعمار وإلا لما تزينت صفحات التاريخ بالحديث عن جهاد الأمير عبدالقادر في الجزائر، والأمير عبدالكريم الخطابي في المغرب، والشهيد عمر المختار في ليبيا، والإمام حسن البنا في مصر، أولئك الذين رفعوا راية الجهاد والاستشهاد ضد احتلال فرنسا وبريطانيا لبلاد المسلمين، وإن لم تكتحل أعينهم بهزيمة المحتل، فقد أحرزوا الشهادة، وهذا فرق ما بين جهاد المسلمين وحروب المشركين، فالمجاهد يسعى لأحدى الحسنيين النصر أو الشهادة فإن حصل الثانية مهد بهذا الطريق، وأضاء السبيل لكتائب النصر التي تحذو حذوه.

ولسنا وحدنا في هذا المضمار، وإنما هو ديدن كافة الأحرار وأصحاب النفوس الزكية من الشعوب الأبية، التي ترى مقارعة الظالم ومنابذة الفاسد من حقوق الإنسان، ويبذل في سبيل ذلك أعظم الأثمان.

جيفارا ومانديلا

فهذا نيلسون مانديلا الذي أصبح رمزا عالميا للصبر والثبات على المبدأ

وجيفارا الشاب الثائر الذي غدا أيقونة الثورة عند شباب العالم، والعجيب الغريب أنه لم يحصل أحد في العصر الحديث من الشهرة وحسن الذكر ما حصله مانديلا وجيفارا  ومن يقرأ في تاريخهما يجد أن غيفارا سافر إلى مصر ليرى رمز ثورة المغرب عبد الكريم الخطابي لما نزل بها!

ومانديلا كان ضمن كتائب الثوار التي أوفدتها جنوب أفريقيا إلى الجزائر لأخذ الخبرة من تلاميذ “مصالي الحاج” ورفاق “العربي بن مهيدي”.

ومع ذلك فعامة شباب الربيع العربي لا يعرفون الخطابي ويرون جيفارا مثلا أعلى، ولم يقرأوا عن الشهيد الشاب العربي بن مهيدي حكيم ثورة الجزائر ويحفظون قصة حياة مانديلا عن ظهر قلب!

 إن الذين فجروا ثورة التحرير في الجزائر والتي استمرت سبع سنوات متتالية لو فكروا أن آباءهم وأجدادهم قتلتهم فرنسا، ومضى على ذلك أكثر من مئة وعشرين سنة واستسلموا للاحتلال، لكانت الجزائر وأهلها الآن من قصص التاريخ الغابر التي يبكي عليها المسلمون كما يبكون على أهل الأندلس.

لكنهم قدموا في هذه السنوات السبع فقط أكثر من مليون وخمسمائة ألف شهيد حتى رحلت فرنسا، لكنها تركت أذنابها وأولادها، ويسعى الجزائريون الآن لإتمام نصر المناضلين الأوائل، وظهر ذلك في وعيهم وثباتهم وهتافهم “لا عهده خامسة…يا ولاد فرنسا “

كذلك تراكمت لديهم خبرات من عثرات الربيع العربي، وطرق الالتفاف عليه، وهم أفطن من الوقوع فيها.

قلوب العرب وأنظار المسلمين تجاه الجزائر، ونجاحهم في باقي جولاتهم، بداية الهزائم للثورة المضادة، والأيام دول.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه