التنوع البيولوجي

ما بين «الديك» و«السيسي» كانت هناك مساحة زمنية من الأحداث والمفارقات والأحداث  قسمت الواقع في مصر إلى عوالم منفصلة

 

 

رجاء ممن يقرأ مقالي أن يتحمل سطوري الأولى والتي أحاول أن أجعلها مدخلا لتناول فكرة متشابكة داخل ذهني، لعلنا نصل سويا إلى خطوة نحو فهم ظواهر هبطت علينا كالبلاء المبين.

في بدايات عام 1982 كنت أقضي وقتي محبوسا في سجن الاستئناف في إحدى القضايا، لا أتذكر أيا منها، ولكن ربما كانت التهمة عداء إسرائيل، ما علينا، قابلت في السجن محبوسا في الطابق المخصص لحبس السياسيين، لم أعرفه من قبل فلم يكن ضمن التشكيلات السياسية المعروفة في الواقع، ولم تكن اهتماماته ضمن دائرة الاهتمام بالموضوعات السياسية المعروفة، وكان المحبوسون في السجن ينادونه باسم “محمود الديك”، وهو الاسم الذي أطلقه عليه الشاعر أحمد فؤاد نجم والذي كان قد حصل على إفراج قبل دخولي السجن بأيام، وتهمة «الديك» طالب كلية الطب أنه كان بمفهوم جيلنا «لاسع»، فبعد صدور الأحكام على قتلة أنور السادات بالإعدام، كتب منفردا مجلة حائط طالب فيها بإسقاط أحكام الإعدام عن قتلة السادات لأن الشعب لن يستفيد منهم شيئا، وتشغيل المدانين في تنقية الأرز وهذا أكثر فائدة للشعب!، ولأن النظام آنذاك كان مرتبكا وينطبق عليه مثل «اللي يتلسع من الشوربة ينفخ في الزبادي» أسرعت مباحث أمن الدولة في القبض على «الديك» بتهمة معارضة أحكام القضاء وتم إيداعه السجن مدة طويلة، وتم الإفراج عني وظل “محمود الديك” محبوسا.

المهم، كان «الديك» يجلس معنا جلسات السمر والمناقشة التي ننظمها في السجن لكسر حاجز الملل بسبب طول الوقت والاستفادة من تداول الأراء وتبادل الخبرات، وبالطبع كانت معظم الموضوعات التي نناقشها تتعلق بالسياسة والوضع الراهن وخاصة كانت هذه الفترة ملتهبة ومليئة بالأحداث السياسية، إلا أن «الديك» كان دائما ما يكسر الحاجز النمطي لجلساتنا ويداهمنا بمقترحات غريبة وكأنه في زيارة لنا من عالم آخر، وأتذكر عندما دخل علينا الزنزانة ونحن جالسون ضجرون من الحبس ويعرض علينا ورقة يريد توقيعنا عليها يطالب فيها بإصدار قانون في مصر لحماية حقوق الحيوان والطيور وخاصة الطيور المحبوسة داخل الأقفاص مثل العصافير الملونة والببغاوات!!!

لا أعلم بدقة القاسم المشترك بين ما استرجعته ذاكراتي وأخبار افتتاح عبد الفتاح السيسي لمؤتمر التنوع البيولوچي في مصر والاهتمام الإعلامي به، ولكن يبدو أنه ما بين «الديك» و«السيسي» كانت هناك مساحة زمنية من الأحداث والمفارقات والأحداث  قسمت الواقع في مصر إلى عوالم منفصلة منها ما هو غرقان في بحور السعادة والثراء والرفاهية المادية والفكرية ومنها ماهو غرقان في بحور الألم والجوع والمرض واليأس والفقر.

لأني مصاب بلوثة ومسحة من ثقافة وادعاء معرفة كان لا بد أن أتفاعل مع أحاديث التنوع البيولوچي وأدلي بدلوي في الأمر وخاصة أنه كما يقول المصريون تحدث في الموضوع «كل من هب ودب» أي العارف والجاهل.

اكتشفت أنه علم كبير يتعلق بالتفاعل الناشئ بين جميع الكائنات الحيّة في الأوسط البيئية، ما يعنيني هذا المحور المرتبط بالتنوع الثقافي البشري الذي يميز النوع البشري عن كافة الأنواع الأخرى، وهو ما يعني منطقيا أن هناك قوانين مشتركة بين البشر تميزهم عن الأنواع الأخرى.

هكذا يتحدث العلم أما أنا وأقراني من المصريين المرتبطين بقاع المجتمع وجوانبه نجد أنفسنا داخل دائرة أخري تفرض علينا أسئلة مدهشة عن اختلافات غير مبررة بين واقعنا ككائنات تعيش في مصر وواقع كائنات تعيش في الجانب الآخر من العالم، والفرق الكبير بين واقعهم وواقعنا هو الفرق بين الحرية والأسر، والكرامة والمهانة، وهو ما يجعلني أشعر بأن حديث عبد الفتاح السيسي العلمي عن التنوع البيولوچي مثل حديث محمودا الديك معنا داخل السجن عن حرية الحيوانات والطيور، أو كما يقول المثل الشعبي المصري «مالقوش العيش الحاف ياكلوه، جابوا عبد يلطشوه».

مقارنات مؤلمة

چيم أكوستا مراسل شبكة الـ CNN الإخبارية، والمنوط به متابعة أخبار البيت الأبيض والمؤتمرات الصحفية للرئيس الأمريكي بموجب تصريح دائم، كان منذ أيام يغطي مؤتمرا صحفيا للرئيسالأمريكي دونالد ترمب، وحدث أن وجه المراسل للرئيس الأميركي سؤالا لم يرق له وحدثت مشادة بينهما انتهت بمنع المراسل من تغطية أخبار البيت الأبيض وسحب ترخيصه، وهو ما اعترض عليه المراسل وزملاؤه وقامت شبكة الـ CNN بإقامة دعوى قضائية على الرئيس الأميركي والبيت الأبيض وكسبتها.

نتوقف عند هذا المشهد وننتقل لمشهد آخر في الجانب الآخر من العالم حيث ينزوي الصحفي عادل صبري في زنزانة مظلمة منذ شهور بعد أن نشر موقع مصر العربية، الذي يتولى عادل رئاسة تحريره، تقريرا مترجما عن موقع نيويورك تايمز حول دور الأموال في جذب الأصوات الانتخابية أثناء الانتخابات الرئاسية التي خاضها عبد الفتاح السيسي وما زال عادل صبري وراء القضبان منذ أكثر من سبعة أشهر توفيت خلالها أخته وأمه ورفضت لسلطات السماح له بتلقي عزائهما، وتم إغلاق الموقع وتشريد العاملين فيه، والتحفظ على كافة أجهزة الكومبيوتر الموجودة في الموقع.

المواطن الفرنسي

في مايو (أيار) 2018 ارتبك الرأي العام الفرنسي ونقل ارتباكه وانفعاله الغاضب إلى العالم فشغل الرأي العام العالمي بعد أن قام الكسندر بينالا الحارس الشخصي للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بضرب أحد المتظاهرين المحتجين على سياسة ماكرون أثناء عيد العمال الأول من مايو، وهو ما أدى بـ«ماكرون» إلى استبعاد حارسه الخاص والتحقيق معه وإعادة تنظيم مكتبه الخاص، وبالطبع حصل المواطن الفرنسي على حقه وعلى الترضية الملائمة للحفاظ على إنسانيته وحقوقه كمواطن.

نتوقف عند هذا المشهد وننتقل إلى نوع آخر في الجانب الآخر من العالم في مصر وتحديدا في ديسمبر (كانون الأول) 2017 حيث قام عدد من الصحفيين المصريين بتنظيم وقفة احتجاجية أمام نقابتهم للتنديد بقرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنقل سفارة بلاده إلى القدس، والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، فقامت قوات الأمن المصرية باقتحام النقابة والاعتداء على الصحفيين واختطاف صحفيين هما حسام السويفي وأحمد عبد العزيز وحبسهما بتهمة التظاهر دون الحصول على ترخيص والتحريض على كراهية النظام، وما زالا رهن الحبس حتى الآن في ظروف قاسية ويتعرض الأخير لأزمة صحية شديدة تهدد حياته بينما تمتنع السلطات عن نقله للمستشفى أو علاجه!.

نواب الشعب

في أغسطس (آب) 2018 ألقي القبض على عضو جمهوري في الكونغرس وهو النائب عن نيويورك كريستوفر كولينز، كان النائب من أوائل الداعمين لحملة الرئيس دونالد ترمب الانتخابية لمنصب الرئاسة، وتم اتهامه بتداول داخلي لأسهم شركة عامة أو أوراق مالية أخرى يزعم أنها تقدر قيمتها بمئات الآلاف من الدولارات.، وتم الإعلان عن لائحة الاتهام ضد «كولينز» في مؤتمر صحفي عقده جيفري بيرمان، المحامي الأمريكي في المقاطعة الجنوبية من نيويورك، وتضمنت قائمة الاتهامات قيام النائب وشركائه (من بينهم ابنه) باستخدام معلومات داخلية لتفادي خسائر بقيمة 750 ألف دولار.

نتوقف عند هذا المشهد وننتقل إلى مشهد آخر في الجانب الآخر من العالم حيث مجلس النواب المصري والتجارة بتأشيرات الحج وحيث نائب معروف بالبلطجة وسلاطة اللسان يحتمي بحصانة مجلس النواب ليتجنب تحقيقات في اتهامات بالبلطجة ومخالفات قانونية، ويقف متحديا حتى جهات التحقيق معلنا أنه تحت حماية الدولة.

مشاهد ومقارنات كثيرة بين جانبين متابينين من العالم جعلتني أنظر لمعنى التنوع البيولوچي نظرة مختلفة عن مفهومه العلمي الذي يتعلق بالتفاعل الناشئ بين جميع الكائنات الحية في وسط بيئي ما، فالمشاهد الواقعية للحياة في مصر تدفعنا إلى تعريف التنوع البيولوچي إلى أنه العلم الذي يدرس الفروق اللامنطقية بين كائنات بشرية تعيش في جانب من العالم طبقا لظروف وقواعد ومعاملات وقوانين تخضع للعقل والمنطق، وكائنات بشرية أخرى تعيش منزوية في جانب آخر من العالم يتحكم في وجودها وبقائها ونموها محددات لا إرادية غير خاضعة لأى منطق أو قواعد إنسانية أو قانونية وتديرها أقدار فاسدة… اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه