التعليم في وطن ضائع

 

 

عبارتان بينهما فروق شاسعة تتقارب من الفروق بين الوجود واللاوجود، الأولى «التعليم كالماء والهواء»، والثانية «ماذا يفيد التعليم في وطن ضائع»، الأولى قالها مفكر مصري وأديب وناقد ورائد رواد التعليم في مصر هو عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، والثانية قالها عسكري جالس على عرش مصر هو اللواء عبد الفتاح السيسي.

 وضع طه حسين التعليم ضمن مكونات الحياة الأساسية للبشر الماء والهواء لا فرق بين غني وفقير في الحصول عليهما ليضمن نعمة الحياة والوجود، بينما وضع الثاني التعليم كمكون ترفيهي تسبقه أولويات لافتراضيات في رأسه وثقافته المحاصرة بحدود التعليم والحياة العسكرية.

 طه حسين يعتمد في فكره على تعميم التعليم للنهوض بالمجتمع وتنميته والوصول به إلى الوعي الذي يضمن تطبيق العدالة الاجتماعية والتحرر من أسر عبودية الحكم المستبد، هو يراهن على وعي الشعوب للقضاء على الفقر، وربما الأقرب له أن نصفه بأنه فكر مناهضة الفقر، وفي المقابل فكر هؤلاء الذين يستهترون بالتعليم ويعتبرونه شيئا ثانويا أمام عناصر نظرية يضعونها في الأولوية للسيطرة على شعب بلاوعي ولا تعليم، ولهذا فالأقرب أن نصفه بفقر الفكر والذي يحيط بأصحاب الرؤوس الخاوية والأيادي الباطشة.

أحد المعايير الأساسية لقياس مستوى نهوض الأمم هو التعليم ومستواه ونسبة المتعلمين في أي بلد، ولهذا كان حرص أي قيادة صادقة لأي دولة على وضع التعليم في مقدمة مهامها للنهوض بشعوبها والارتقاء بوعيهم، فالقيادات والحكام الصادقين والوطنيين لا يخافون من وعي الشعوب.

حكام صادقون

في الدول التي حصلت على حريتها وتخلصت من براثن الاستعمار أو حكم الطغاة العملاء للاستعمار، كان الإجراء الأول الذي حرص قادة الثورات الشعبيون هو القضاء على الأمية مثلما حدث في كوبا ونيكارغوا والهند والمكسيك، ولأنهم كانوا صادقين في نواياهم وثوريتهم، ولأنهم كانوا معبرين بصدق عن شعوبهم لم يتحججوا بالظروف الاقتصادية المحيطة بأوطانهم والخراب الذي تسبب فيه الاستعمار والطغاة، ولم يخشوا من توعية شعوبهم وتعليمهم فكانت سياسة نشر التعليم والقضاء على الأمية في تواز مع كل إجراءات التنمية والنهوض الاقتصادي، ولجأوا إلى أسلوب التعليم غير النظامي (الحر)، ومن الأمثلة ما قام به فيدل كاسترو في كوبا من إلزام لكل عنصر من عناصر الفرق الثورية المتعلمين بتعليم عدد من الأميين لمستوى معين تحدده الدولة وتتولى الارتقاء به بعد ذلك من خلال التعليم النظامي، وتكررت هذه التجارب بوسائل مبتكرة مختلفة في كل البلدان التي يتولى أمرها حكام صادقون يعبرون عن شعوبهم، ولم يقف أحد منهم متحججا ليقول ماذا يفيد التعليم في وطن ضائع!!

وقف رأس النظام في مصر ليقول عبارات صادمة تتعلق بالتعليم أربكت القاصي والداني، وإصابتهم بنوع من الدهشة لم يعرفونه من قبل حيث قال بالنص «هعمل طبقة متعلمة تعليم راقي جداً وباقي المجتمع مش مهم، والطبقة دي هي… وتاخده لقدام والباقي خلاص، هي لما هتقود هتقدر تعمل نهضة والنهضة تجيب قدرة أقدر أوظفها بعد كده لباقي الناس». 

والمؤسف أن وعي قائل هذه الكلمات لم يدرك أن التعليم مذهب وفضيلة مفروضة كعنصر من عناصر حياة البشر، وتعامل معه بأسلوب التعامل مع تنمية الصفات الوراثية للحيوانات، وكأنه يستنبط فصائل جديدة من الحيوانات بصفات ذهنية أكثر تقدماً، هو الفرق بين من يتعامل مع أبناء شعبه باعتبارهم بشراً يستحقون كل فضائل الحياة وبين من يتعامل مع الشعوب، باعتبارهم حيوانات يستهدف تنمية مواصفاتها للاستفادة منها!!

الصعود للهاوية

وما بين الحكام المصريين في فجر التاريخ بالتعليم، ووعيهم الآن فروق شاسعة لا تخضع لمنطق التطور الزمني، بل العكس تبدو وكأنها صعود للهاوية، ففي فجر التاريخ عرف المصريون بيت الحياة «بر عنخ» كأول مدرسة ومكتبة وجامعة لتعليم العلوم الدينية والطب والرياضيات، وكان بيت الحياة يخضع لمنطق تعليمي متسق مع مستوى الأعمار ويخضع لخطوات تصاعدية مدروسة حيث كانت مراحله الأولى تشتمل على مكان خاص للتعليم الأساسي لتمهيد الدارس بتعليمه القراءة والكتابة، وكان طلاب بيت الحياة من مختلف فئات المجتمع في زمن عرف النبلاء والدماء الملكية وأبناء الإلهة، ورغم ذلك نظر للتعليم على أنه حق للجميع باعتباره عنصراً من عناصر الحياة.

كانت الدروس في الأزهر في عهود الخلافة تتم بتكليف من الدولة التي كانت تصرف أجوراً للعلماء والمدرسين، وكان الالتحاق به لكافة فئات المجتمع بلا أي استثناء، وكان التعليم في ذلك الوقت إحدى ضرورات الحياة وعناصرها التي يحرص عليها الجميع، ولهذا لم يكن الأزهر وحده هو الذي يقدم العملية التعليمة، ربما كان الوحيد الذي يخضع للنظامية ولدعم الدولة، ولكن كانت هناك مدارس أخرى تقدم التعليم تطوعاً، ومن أشهرها وأقدمها مسجد عمرو بن العاص الذي كانت تُعقد فيه الدروس تطوعا وتبرعا.

ورغم أن المماليك كانوا من جنسيات مختلفة عن الشعب المصري الذي يحكمونه إلا أنهم حرصوا على إنشاء المدارس وتعليم كافة فئات الشعب، ولم تقتصر مدارسهم فقط على تدريس المذاهب الفقهية، بل تطورت إلى إنشاء مدارس لتعليم المعمار والطب والعلوم المختلفة، لم ينظر سلاطين مصر بجنسياتهم المختلفة للشعب المصري نظرة تعالٍ، ولم يوجهوا التعليم لطبقة واحدة لتأهيلها لقيادة بقية الطبقات مثلما قال طبيب الفلاسفة.

وعن اهتمام محمد علي طوال فترة حكمه بالتعليم، أفرط في الحديث ولا حرج فقد كان أكثر حكام مصر خلال تاريخها الحديث اهتماماً بالتعليم، ولم يقتصر اهتمامه على التعاليم العسكرية فقط، بل اهتم بفتح مدارس للطب والصيدلة والعلوم والهندسة وغيرها ومدارس للعلوم الأدبية واللغات، واهتم بإرسال البعثات للخارج، وكان هذا مسموحاً به لكل فئات الشعب وخلق محمد علي قاعدة ثقافية وتعليمية وتراثا تعليميا وثقافيا كان السبب في صمود مصر أمام تيارات الانهيار والتدهور فترة حكم البعض من أبنائه، نتيجة لخضوعهم لمخططات الاستعمار البريطاني الذي كان حريصا على تجهيل وتعتيم وعي الشعب والقضاء على التعليم، ليسهل له السيطرة على البلاد، ورغم ذلك ساهمت القاعدة التي وضعها محمد على في الصمود أمام هذه المخططات، ورغم ذلك وفي ظل الاحتلال ووسط كل هذه المؤامرات تم إنشاء جامعة فؤاد الأول (القاهرة) عام 1908 تحت ضغط المفكرين والمثقفين والأدباء والعلماء المصريين الذين ظلوا دائما يمثلون الأساس القوي ضمن حماية المجتمع، إنه التعليم والعلم الذي وصفه طه حسين بأنه كالماء والهواء، وظل التعليم مجانياً بفضل العديد من أبناء مصر الذين أصروا على تطبيق هذه السياسة، وفي مقدمتهم الدكتور طه حسن وزير المعارف آنذاك ورئيس وزارته أحمد نجيب الهلالي.

التفريط بأسم الشعب

  رغم تجنبي للمقارنة مع الزمن الذي أعيش فيه إلا أنني أجد نفسي مضطرا للمقارنة، ففي ظل الاحتلال والمؤامرات وحكم غير المصريين والضغوط الدولية على مصر يتم افتتاح أول جامعة مصرية وأول جامعة في الشرق كله، ويتم تطبيق سياسة مجانية التعليم، بينما في ظل حكم الجمهورية باسم الشعب يتم خصخصة أغلب قطاعات التعليم وإخضاعها للمصروفات الباهضة، مع انهيار العملية التعليمية وخضوعها لفساد الفئات المحيطة بدوائر الحكم ليُصرف عليها وهما مليارات الجنيهات من عرق الشعب تذهب لجيوب الفاسدين والمنحرفين، وبينما فشل المستعمر وأعوانه في القضاء على تطور وسير العملية التعليمية وقت احتلاله لمصر، نجح في ذلك بعد أن نالت مصر استقلالها وخضعت اسميا لحكم الشعب الجمهوري، وبدلا من أن يقف رئيس الدولة ليبحث عن وسائل لتطوير ونشر التعليم، يقف متفلسفا ليبرر الانهيار في التعليم، وليبرر مخططات مستقبلية للتخلص من عبء النهوض بالتعليم ومسؤولية الدولة عن تعليم الشعب قائلا: «ماذا يفيد التعليم في وطن ضائع»، والسؤال الأصح «ما الذي يفيد الوطن من حكم ضائع»، الثابت أنه لا وطن ضائع به حاكم يقدر أهمية التعليم والعلم والثقافة ويخضع لإرادة شعبه ولا يخضع شعبه لإرادة المستعمر… إنه الحاكم ابن المؤسسة الشعبية وليس أي مؤسسة أخرى مهما كانت.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه