التعايش مع كورونا .. كن صديقاً للفيروس!

 

بدأ عدد من دول العالم إعداد شعوبهم لضرورة التعايش مع فيروس كورونا المستجد؛ دول متقدمة وغنية، وأخرى متأخرة وفقيرة، فلم يعد ممكناً عليها تحمل الإغلاق الكامل، أو شبه الكامل، أو حتى الجزئي، للحياة والاقتصاد والحدود.

الفيروس يوجه ضربة عنيفة للبشرية، وينزل خسائر بشرية واقتصادية واجتماعية ونفسية ضخمة بها، لم تحدث خسائر مادية أو معنوية مماثلة لها خلال الحربين العالميتين، أو في الأزمات المالية والاقتصادية طوال قرن من الزمان.

أمريكا القوة العظمى خسرت تريليونات الدولارات، نفطها لا يجد مشترين، بطالة كبيرة، شلل اقتصادي، عدد الإصابات حتى الساعة (1,095,304) والوفيات (63,871)، وهي أرقام قياسية لم تتكبد قتلى مثلهم في أطول حروبها في فيتنام طوال 20 عاماً.

ولم يعد أمام الحكومات لكي تنقذ نفسها جزئياً إلا التعايش مع الفيروس، تصادقه، تتآلف معه، ترضى بخسائر مقابل أن تتحرك عجلة الاقتصاد والإنتاج ويتواصل الليل بالنهار.

هذا التعايش هو إعلان هزيمة أمام الفيروس، استسلام، رفع الراية البيضاء، وقد يكون كل هذا مؤقتاً إلى حين توصل الفرق العلمية لعلاج للوباء الذي كسر أنوف الكبار ومرغ جباههم في التراب.

لم يكن مقبولاً إنسانياً وأخلاقياً الدعوة للتعايش مع المرض والموت إذا كانت الدول لديها قدرة على مواصلة الإغلاق الشامل أو الجزئي دون أضرار، لكن أكبر الاقتصادات في العالم تأثرت بشدة، وشبح الإفلاس يخيم على دول، والمجاعات تزحف نحو شعوب.

وإذا كانت الدول الغنية لديها الاستطاعة على تحمل الأزمة وتعطل الحياة وبطالة شعوبها أشهراً قليلة أو كثيرة، وليس سنوات، فإن البلدان الفقيرة والمأزومة والمنهوبة لا تتحمل البقاء واقفة على قدميها مثل هذه الفترة رغم أن مواطنيها لا يعرفون معنى للرفاهية ويدبرون أمورهم بأقل القليل.

الصين دخلت هذا التعايش عملياً بعد أن حاصرت البؤرة الأولى لظهور المرض في مدينة (ووهان)، فقد فرضت إغلاقاً كلياً صارماً على المدينة وبعد السيطرة على الفيروس أزالت الإغلاق وبدأت الحياة تعود إلى طبيعتها.

مصاحبة الفيروس:

ومن هذا التحليق الواسع للاتجاه العالمي لمصاحبة الفيروس والرضا بأن يواصل هجماته على أمل الإعلان خلال لحظة قريبة عن اللقاح المضاد له، إلى الحالة المصرية حيث أعلن رئيس الحكومة بوضوح عن التعايش مع كورونا، وأعدت وزارة الصحة الخطة لذلك، وهى خطة نظرية تتمثل في نصائح للمواطنين لا تختلف عن النصائح الحالية لمحاولة تجنب الإصابة، وهو كلام نظري عام، لا جديد فيه، وأما الجانب العملي من إعداد وتجهيز المستشفيات لاستقبال المصابين فهو لا يختلف عن البيانات المعلنة سابقاً، والأرقام والاستعدادات متواضعة مقارنة مع الكثافة السكانية.

وزيرة الصحة قالت: “هناك 17 مستشفى عزل، يبلغ عدد الأسرة بها 3214 سريراً، وتضم 527 سرير عناية مركزة، و 413 جهاز تنفس صناعي، والمقار التي تم تجهيزها لاستقبال المرضى ذوي الحالات الأقل خطورة، عددها 13 منشأة بينها مدن جامعية ونزل شباب، يبلغ عدد الأسرة بها 2288 سريراً”.

ومع هذه الأرقام المتواضعة نقول، إن ستر الله هو من يجعل الوضع تحت السيطرة حتى الآن، ويحول دون حدوث انفجار وانهيار كما حصل في بلدان غربية متقدمة لديها منظومات صحية متطورة وقوية.

وعند الحديث عن الستر الإلهي، فإن هذا المعنى الروحي ربما يصطدم مع العقل والمنطق والعلم في التعامل مع الفيروس، وربما يصطدم أيضاً مع مسألة أن السماء لا تكيل بمكيالين مع البشر، فكلهم متساوون في الأمور الدنيوية، ومن يأخذ بالأسباب يحمي نفسه ويتفوق حتى لو لم يكن مؤمناً بالله، كما قد يذهب الحديث إلى أن التمييز بين البشر في عدد الإصابات والوفيات لا يناسب السماء وعدالتها، إنما هو اتكالية وتفكير يميل إلى الدجل والجمود العقلي.

كل هذا صحيح، لكن الحالة في مصر، وفي بلدان غيرها، وكلها تقع في نطاق الفقر والتخلف، لم تكن كالحالة المدمرة للفيروس في بلدان كثيرة معظمها يقع في حزام الثراء والتحضر، والمنطق يقول إن الدول الأكثر تضرراً في الإصابات والوفيات (أمريكا، إيطاليا، إسبانيا، بريطانيا، فرنسا، بلجيكا، ألمانيا، هولندا، كندا، ومعهم تركيا، السويد، البرازيل، روسيا،….)، هى الأكثر قدرة على مجابهة الفيروس ومواجهة آثاره بما تمتلك من قدرات مادية ومالية وطبية وعلمية كبيرة لا تقارن بها البلدان الأقل منها في سلم التحضر، وهى إحصائياً الأقل منها في عدد الضحايا. ومصر التي لا ضامن فيها لمنع تفشي الفيروس على نطاق واسع، فإن مستوى الإصابات والوفيات فيها ضئيل مقارنة بعدد السكان الضخم، ونسبة التعافي مرتفعة،[عدد الإصابات حتى عصر أمس كان(5,537)، والوفيات( 392)، والمتعافين( 1,381)].

والتحليل الذي ذهب البعض إليه بأن نظم حكم الفرد فرضت إجراءات مشددة، وطبقتها بقسوة على مواطنيها، وهذا يساهم في تحجيم تفشي الكورونا، فإن هذا المنطق لا وجود ملموسا له في مصر، فالحياة مستمرة وكأن لا شيء خطير يهدد الناس، وأمس كنت ضمن حشود في شارع كبير يتسوق المواطنون منه احتياجاتهم، ولم يكن في ذهن أحد الفيروس أو بدء الحظر الليلي، وهكذا دوماً، والصورة في مترو الأنفاق ووسائل المواصلات العامة والأسواق وبلاتوهات المسلسلات، وتشييع جثامين، وحركة في الشوارع، وزحام في المتاجر، تعكس عدم الاهتمام بالإجراءات الاحترازية، أو بشدة قبضة السلطة في فرض الالتزام بالتعليمات.

الديكتاتورية أفادت في الصين أكثر من شبيهاتها، لاعتبارات تاريخية مرتبطة بطبيعة النظام السياسي والحكم في هذا البلد المنغلق سياسياً.

إثبات وجود:

وإحالة الوضع شبه الآمن بمصر إلى إجراءات احترازية واستنفار رسمي واستعدادات وطوارئ طبية وصحية ونجاحات هو من قبيل إثبات وجود عمل دائم لمحاولة الانتصار على الوباء، لكن الواقع على الأرض لا يشي بكل هذا.

التعايش مع الفيروس مطلب رجال الأعمال لأن مصالحهم تضررت، وهم عرضوا هذا المطلب بقسوة ودون اعتداد بمنظومة القيم الاجتماعية والإنسانية والتضامنية بين الناس، إذ إن دافعهم هو تشغيل أعمالهم، وعدم تعرضهم للخسارة، ورفض تحملهم لأعباء العمالة المتعطلة، وهو منحى أناني انتهازي في قطاع عمل لا قواعد أخلاقية تحكمه وتحميه من الانفلات.

 والتعايش مطلب الحكومة أيضاً لأنها تنكشف اقتصادياً ومالياً، ولهذا اتجهت للاستدانة من صندوق النقد الدولي لتغطية الانكشاف بغض النظر عن وجود كورونا من عدمه، والاستدانة الجديدة تأتي عقب أكبر استدانة في تاريخ مصر جملتها 12 مليار دولار، ويبدو أن الاقتراض سيكون نهجاً متواصلاً مهما ارتفع حجم الدين الخارجي ووصل لأرقام قياسية.

الحكومة لا تتحمل كذلك ما قد يحدث من تململ شعبي مكتوم مع استمرار غلق الاقتصاد جزئياً، وفرض حظر كامل على بعض الأنشطة، والحظر لساعات على أنشطة أخرى، وهى لم تقدم دعماً سخياً يحمي المتضررين من الأزمة، باستثناء 500 جنيه، لمدة ثلاثة أشهر، للعمالة غير المنتظمة، واستفاد منها 2,5 مليوناً فقط، وفق شروط اختيار مشددة استبعدت كثيرين.

مع هذا، الإشارة واجبة هنا إلى أن قطاعات من العمالة غير المنتظمة والموسمية، والهامشية، وحتى في القطاع الخاص، وهى بعشرات الملايين، وتمثل عصب الفئات محدودة الدخل والفقيرة والضعيفة والأكثر احتياجاً، وما دون خط الفقر، بحاجة للعمل وإزالة القيود لتحصيل الرزق، وهى تتحايل لتعمل بأي طريقة دون أن تعبأ بالمخاطر، وهى إذا وجدت دعماً حكومياً كافياً فلم تكن تعرض نفسها للأضرار، الفيروس فرض معادلات جديدة صعبة لم يكن أحد يتحسب لها خاصة في البلدان التي تشهد فقدان العدالة والمساواة في توزيع الثروة والدخل القومي.

طعم العلقم:

ولهذا فإن التعايش مع الفيروس يمكن اعتباره قراراً اضطرارياً بطعم العلقم وهو قد يترجم دعوة مؤلمة لأحد رجال الأعمال المصريين بفتح الاقتصاد والتضحية ببعض الناس مقابل أن يعيش الباقون، كما أنه في نفس الوقت يمثل هروباً للأمام من جانب البشرية كلها في اعتراف منها بعجزها عن القضاء على الوباء رغم التقدم الهائل في بنيان الحضارة وهو ما يؤكد ضعف الإنسان وأن علمه محدود مهما ظن أنه تجاوز كل الحدود. (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً).

 

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه