التخطيط المستقبلي الذي تفتقده الحركة الإسلامية

وجهت إليه سؤالا مباشرا: هل أنتم جاهزون لمرحلة ما بعد مبارك؟ فأكد لي أنهم يرصدون الشارع جيدا، وأن خطط ما بعد سقوط النظام جاهزة باعتبارهم البديل للحزب الوطني بحجمه وسعة انتشاره.

تمثل الدراسات المستقبلية فارقا كبيرا بين فكرة وفكرة، وبين هيئة وهيئة، وبين نظام وآخر، حيث إنها أسلوب علمي يتيح القدرة على قراءة الماضي والحاضر وتحليلهما ليعطي خيارات، واحتمالات للسير علي هداها مستقبلا في قضية ما أو عدة قضايا، وذلك في مدة زمنية محددة، وترجع الدراسات المستقبلية لمنتصف القرن الماضي في الولايات المتحدة الأمريكية وقد بدأت بالدراسات العسكرية، وتطور الأمر ليكون هناك ستمائة مركز خاص بتلك الدراسات في المجالات المختلفة بستينات القرن الماضي. 

وتحليل الواقع وقراءته بشكل جيد ينبثق منه استنتاجات بنسب متفاوتة في المستقبل القريب، يمكن من خلال تلك الاستنتاجات اتخاذ قرارات مستقبلية بناء على معطيات منطقية واقعية. 

وكل خطة مستقبلية لا تنبني على قراءة تحليلية للواقع، هي خطة منقوصة، أو تخرج عن مسمى الخطة، وكل هيئة أو مؤسسة لا تقوم بالتخطيط الجيد لتحقيق أهدافها العامة والمرحلية فهي كالسفينة في مهب ريح عاتية بغير ربان مدرك لحقيقة ما يدور حوله، وبلا دفة توجهها وتحفظ توازنها.

الدراسات المستقبلية في فكر الحركة الإسلامية

مر أكثر من قرن من الزمان على ظهور الحركة الإسلامية في بلاد العرب كحركة فكرية منظمة تصب تجاه الإصلاح المجتمعي الجزئي والذي بدأ بحراك جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا، ثم تحول الفكرة لعمل جماعي منظم، والإصلاح الفردي لدعوة للإصلاح الشامل والعمل على تحرير البلاد من الاستعمار والتبعية له على يد حسن البنا رحمه الله في مصر، ووضع البنا لجماعته الإخوان المسلمين منهاجا متكاملا لإعداد الفرد إعدادا شاملا وفق مخطط تربوي يحمل روح التجدد والانقلاب على الفكر الصوفي المشوه في عصره، يحمل مفردات لم يكن العالم الإسلامي يعرفها في ظل الاستعمار والضعف والجهل في تلك الحقبة، علاوة على توقف حركة الاجتهاد الفقهي منذ حقب حتى اختلط الأمر بين العادة والعبادة، فجر البنا معان جديدة أضافت للدين اللاهوتي داخل أروقة المساجد أبعادا أخرى كانت غريبة على أهل ذلك الزمان.

الدين الذي خرج يقاوم المستعمر، وينظم العلاقة بين الأفراد، وبين الشعوب وحكامها ، ويتدخل في حقوق البسطاء وينادي بها ويدافع عنها، ويتغنى بالحرية ويدعو لانتزاعها حين لا يقبل الخوف إلا من الله، ولا يقبل الانبطاح والمذلة والخضوع إلا لله، الدين الذي يدعو للغني والقوة والتماس الأسباب وبذلها، دينا يعلي قيمة العقل، ويحطم أصنام الجهالة التي تحولت في غفلة من صحوة الأمة لدين يعبد من دون الله، وفي خضم حالة الصراع الكبير بين تلك الصحوة الإسلامية التي نبهت الاستعمار والقصر لخطورة دعوة البنا على وجودهم في سدة الحكم فتآمروا على قتل الرجل ظنا منهم أن دعوته سوف تموت بمقتله، واعتقال إخوانه وأفراد جماعته، في خضم ذلك الصراعات غفلت الحركة الإسلامية سواء الإخوان المسلمين، وكافة الحركات التي انبثقت عنها أو أنشأت فيما بعد عن دراسة الواقع المحيط بصورة تحليلية يمكنها من خلالها البناء عليها لمعرفة مستقبل ما ستؤول إليه الحركة، وما يمكن أن تقابله في ظل معطيات لا تتغير في كل عصر، معطيات تشير إلى أن حالة الصراع والحروب الداخلية والخارجية لن تهدأ، لتتغير خطط المواجهة، فيتغير على إثرها المصير المتكرر لها في كل عصر منذ الاستعمار الأوربي لبلادنا. 

لم تملك الحركة الإسلامية رؤية تحليلية جيدة، وانشغلت بتفاصيل أخرى وضعتها في حرج مع أتباعها حين تضطر في كل مرة لتخوض حالة من البكائيات بمفاهيم جزئية في التاريخ الإسلامي، متناسية أن مفاهيم مثل الصبر والثبات والابتلاء مرتبطة بالحركة والفعل، وليس بالسكون والخنوع والرضا بالأمر الواقع، وانتظار الضربات تلو الأخرى تحت مفهوم مبتور من المفاهيم الإسلامية هو للعجز أقرب منه للدين

الحالة المصرية بين الأمس واليوم

عانت مصر كثيرا من افتقاد التخطيط العلمي على مستوي الأنظمة المتوالية ، وعلى مستوى المنظمات والأحزاب والهيئات والمؤسسات والأفراد، فبينما يعلن النظام تلو النظام عن خطط قصيرة المدى وخطط بعيدة المدى، نجد أن تلك الخطط سياسيا واقتصاديا وعلميا واجتماعيا مجرد أحبار على ورق لا تساوي ثمنه، فتتغير على المدى القريب والبعيد بتغير الأفراد، ويبدأ المسؤول من حيث بدأ الآخر ويهدم ما بدأه سواه، فنجد أن سير الأمور في البلاد كسير السلحفاة، والخطط متشابهة ولا تكاد تكتمل في الوقت الذي تخطط فيه الدول المتقدمة لمدى خمسين ومائة ومائتين من الأعوام، بل تخطت مدد أكثر من ذلك ..
والحركة الإسلامية التي تولت مسألة التغيير في بلادنا باعتبار أنها الوحيدة التي استطاعت أن تجمع شتات نشاط  الأفراد في بوتقة الصف والجماعة، كانت جزءا من تلك الإشكالية، فوقعت فيما وقعت فيه الأنظمة، وافتقدت لتلك الدراسات العلمية التي تخرجها من دائرة الجمود وتكرار الأخطاء لمنطقة مرنة تستطيع من خلالها تغيير المخططات وفق المتغيرات لتتغير النتائج، ووقع عكس ذلك تماما لدرجة أن النتائج متكررة في كل مرة وما زالت الحركة مصرة على نفس الفعل في كل مرة، فهي لا تتعلم من أخطاء الماضي، ولا تحسن قراءة الحاضر، ولا تبغى التخطيط للمستقبل، وتترك ذاتها في مهب الريح لتمثل رد الفعل دوما دون أي فعل ملحوظ. 

وحين تحاول أن تعدد أخطاء الحركة الإسلامية فسوف تجدها أنها هي نفس الأخطاء منذ بداية الخمسينات وحتى اليوم بعد مقتل البنا رحمه الله، الذي وضع قواعد المرونة في منهجه التربوي والعملي في فترة وجوده، والذي لم تطوره الجماعة وفقط تطور الحدث، بل وجمدته هو ذاته لتتكلس الفكرة وتقف عند فترة الاستعمار، وعذابات الاعتقالات وهوانها.

الجديد في المشهد المصري

حالة من الاحتقان الشديد تسرى في كل طبقات الشعب المصري، وبشكل سريع يساعد عليها ممارسات النظام الذي يشعل الأسعار يوما بعد يوم دون مراعاة الحالة الاقتصادية المتدنية التي يعانيها الشعب بالفعل ، ولم يترك طبقة أو فئة دون التعرض لها ودفعها دفعا للثورة عليه لولا آلة البطش والتنكيل الشديدة التي يختبئ خلفها أهل الحكم، وما أشبه اليوم بالبارحة، ففي العام 2010 تحديدا في شهر أكتوبر خاطبت أحد المسؤولين في تنظيم  جماعة الإخوان المسلمين بأن أحوال البلد تنذر بالتغيير القريب، لست أدري كنهه ولا وسيلته ولا حده، لكن الأمور بالشارع وصلت لحد يشبه مرحلة ما قبل غليان المرجل فيكاد أن ينفجر، وأن التغيير قادم لا محالة، وإلا ستتحول البلاد لحالة من الفوضى العارمة، وجهت إليه سؤالا مباشرا : هل أنتم جاهزون لمرحلة ما بعد مبارك؟

فأكد لي أنهم يرصدون الشارع جيدا، وأن خطط ما بعد سقوط النظام جاهزة باعتبارهم البديل للحزب الوطني بحجمه وسعة انتشاره، وبعد مرور تلك الفترة وإطلاعي على تصريحات الكثير من القيادات بأن الثورة كانت مفاجأة للجميع تأكد لي أنه لم يكن هناك أي قراءة للمشهد، ولا استعداد له، وأن الأحداث جميعها مرت دون دراسة وافية أو حتى متدنية للواقع واستقراء المستقبل القريب وتوقع بعض أحداثه، وها هي الأيام تتكرر لكن ربما بمشاهد أكثر عنفا وقساوة على الشعب تحت حكم نظام أتى ليخرب لا ليحكم .. 
فها هو الفلاح المصري الذي بات على وشك الخسارة الكبرى بعد رفع مواد الطاقة وزيادة تكلفة زراعة محاصيله عن أسعارها التي تحددها الدولة مما يهدد بتجويعه عن عمد، وها هي الطبقة المتوسطة التي تتساقط يوما تلو الآخر للطبقة الدنيا من المجتمع، فيملك السيارة ولا يملك ثمن وقودها، ويملك أجهزة التكييف ولا يملك ثمن فاتورة الكهرباء، وها هو التعليم يتواضع ليصل للترتيب قبل الأخير عالميا، فيتخرج الآلاف كل عام من الجامعات دون تأهيل لسوق العمل، فيزداد التضخم والبطالة مما ينذر بشؤم لا يرجى خيره، واليوم وبعد غياب معظم قادة الحركة الإسلامية خلف المعتقلات، وتهجير شبابها ومطاردتهم داخل البلاد وخارجها، هل يملك من تبقى منها قراءة للمشهد العنيف الذي يمكن أن يحدث في ظل  حالة الاحتقان التي تزداد يوما بعد يوما؟
هل تملك الأحزاب المعارضة، والأصوات المعارضة رؤية واقعية تستقرئ الحاضر وتبني عليه بأن الثورة قادمة، وأقرب مما نتخيل فتعمل لذلك اليوم لتوجه الغضبة الكبرى للإصلاح لا الفوضى؟
هذا سؤال أكرره لعلني أجد من يجيب عليه، وعسى أن تترك الأيام فرصة للجواب، قبل الغضبة الشعبية المتوقعة. 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه