التجربة التركية في مكافحة كورونا: التفوق على أوربا!

 

مع توالي الأخبار التي تحمل لنا يوميا العشرات من قصص الفشل الذي منيت به الدول الأوربية في تعاملها مع وباء فيروس كورونا الذي يجتاح العالم، سواء المحافظة أو تلك التي تدعي الليبرالية، أعتقد انه أصبح من المناسب إفساح المجال لتسليط الضوء على تجربة مختلفة في توجهاتها الأيديولوجية، وفي فلسفتها التي تحكم تصرفاتها في الأزمات، وأقصد بذلك التجربة التركية.

البعد الإنساني

تركيا التي تعاني مثلها مثل باقي دول العالم من انتشار فيروس كورونا بين مواطنيها، وتسابق الزمن من أجل تخفيض تداعياته على الوضع الاجتماعي والاقتصادي لديها، لها تجربة تستحق عرضها والتعريف بها، نظرا لبعدها الإنساني الذي تمتاز به عن غيرها من تجارب الدول الأخرى.

وعلى عكس الدول الأوربية التي تركت القطاع الصحي لديها كاملا في أيدي القطاع الخاص، ما تسبب في معاناة مواطنيها خلال الأزمة الحالية، نتيجة النقص الحاد في الأجهزة والاستعدادات، بل وحتى في نوعية الخدمات الطبية المقدمة، ما ساهم في سرعة انتشار الوباء وفي فشل محاولات تحجيمه، نجحت تركيا بالفعل في التعامل مع الفيروس، وفي سعيها للحد من انتشاره بين مواطنيها والقاطنين فيها، وذلك يعود في المقام الأول إلى الاهتمام الذي أولته الدولة لبناء منظومة صحية قوية، من خلال التحولات الكبيرة التي شهدها القطاع الصحي التركي خلال العقدين الماضيين، وقيام الحكومة بتوجيه جزء كبير من استثماراتها لهذا القطاع الحيوي، الذي يهتم بصحة المواطنين ويحافظ على ثروة البلد البشرية.

بين الأفعال والشعارات:

سارعت الحكومة التركية، فور انتشار الفيروس، إلى العمل على تطوير نظام خاص يحمي مواطنيها من كبار السن والمصابين بأمراض مزمنة من التعرض للإصابة بفيروس كورونا، خوفا عليهم وحرصا على حياتهم، حيث قامت بحظر تواجدهم في الشوارع، ومنعت خروجهم من منازلهم، وفرضت غرامات مالية كبيرة على المخالفين منهم، وفي مقابل ذلك قامت بتوفير خدمات توصيل احتياجاتهم اليومية، ووصفاتهم العلاجية، عبر أرقام هواتف تم تخصيصها لهم في كل منطقة سكنية، ويقوم العاملون في البلديات بتلبية تلك الاحتياجات على مدار ساعات اليوم.

إلى جانب إطلاق برنامج خاص لمتابعة الحالة الصحية لكبار السن فوق الثمانين عاما، وتوفير مليون جهاز تشخيص سريع للفيروس، بهدف عدم المخاطرة بأرواح هذه الشريحة من المواطنين.

لم يتوقف اهتمام الدولة التركية بكبار السن لديها عند هذا الحد، إذ أعلنت وزيرة الأسرة والعمل والخدمات الاجتماعية زيادة في رواتب التقاعد الشهرية بدءا من شهر نيسان/ أبريل المقبل، لتصل إلى ما يعادل 250 دولارا شهريا بعد أن كانت تعادل حوالي 160 دولارا.

إلى جانب توزيع الأقنعة الواقية والمطهرات بالمجان، وزيادة عدد الاطقم الطبية العاملة في دور رعاية المسنين البالغ عددها 500 دار، حتى يمكن متابعة تطورات حالات المقيمين فيها يوميا.

هذا في الوقت الذي قامت فيه عدة دول أوربية بعقد موازنة بين إيجابيات محاربة الفيروس والقيام بدور ملموس طبيا وبحثيا لإيجاد العلاج اللازم للقضاء عليه، وما قد يسببه ذلك من تداعيات سلبية وخسائر مالية يمكن أن يتحملها اقتصادها، حتى لو وصل الأمر إلى القيام بتأميم المستشفيات والمراكز الطبية والبحثية مثلما تهدد فرنسا حاليا، وبين تجاهل الأمر برمته، والسماح للفيروس باجتياح أراضيها، تطبيقا لنظرية البقاء للأقوى، وربما للأصلح، مثلما فعلت بريطانيا، التي قررت المخاطرة بحياة مواطنيها، رغم علمها بأن ذلك المنطق قد يودي بحياة الملايين لديها، خصوصا كبار السن والمرضى إلى جانب أولئك الذين لا يملكون رفاهية العلاج في العيادات الطبية أوفي المستشفيات الخاصة، مع ما تحمله تلك الفكرة من تناقض تام للشعارات الغربية المرتبطة بمسألة حقوق الإنسان، والتي أبسطها بطبيعة الحال الحق في الحياة.

حظر التجوال وتداعياته

وإذا كانت بعض الدول الأوربية قد طالبت مواطنيها بضرورة الحد من تحركاتهم والالتزام الكامل بالجلوس في منازلهم، من دون أن توضح الكيفية التي يمكن لذوي الدخول المحدودة وهؤلاء الذين لا يستطيعون توفير احتياجاتهم الأساسية من دون الاضطرار إلى النزول للعمل رغم ما يمثله ذلك من خطورة على حياتهم وحياة ذويهم، فإن الحكومة التركية قررت تقديم دعم نقدي بقيمة نحو 140 دولارا، بالإضافة لرصد أكثر من مليار دولار لدعم المواطنين الذين يتقاضون الحد الأدنى للأجور، لحثهم على الالتزام بتعليمات وزارة الصحة الخاصة بضرورة عدم مغادرة منازلهم لمنع انتشار الفيروس.

لم تنس الحكومة التركية أثناء اتخاذها لتلك الحزمة من الإجراءات، مؤسسات الرعاية الاجتماعية والأوقاف، إذ خصصت لدعمهم حوالي 282 مليون دولار، حتى لا يتوقفوا عن أداء عملهم الإنساني.

وإذا كان القادة الأوربيون لم يلتفتوا، وربما تجاهلوا النظر حاليا في مكافأة العاملين في مجال الرعاية الصحية، الذين يقومون بعمل بطولي في مواجهة ومكافحة الوباء، معرضين حياتهم للخطر في سبيل ذلك، فإن وزارة الصحة التركية أعلنت عن دفع مبالغ إضافية للأطباء وجميع أفراد الطواقم الطبية العاملين في المستشفيات والمراكز العلاجية لمدة ثلاثة أشهر، وفق الدرجات العلمية لكل منهم، تقديرا وعرفانا بجهودهم في مكافحة الفيروس القاتل.

ناهيك عن أن الحكومة التركية لم تعلن عن طلب متطوعين لمساعدة الفرق الطبية في أداء عملها، مثلما حدث في بريطانيا، بل قامت فور زيادة عدد المصابين لديها بتوظيف 32 ألف موظف إضافي في القطاع الصحي، تحسبا لما يمكن أن تتطور إليه الأوضاع.

نظرة الدولة للمواطن :

الإجراءات التي اتخذتها الحكومة التركية لدعم مواطنيها بمختلف فئاتهم العمرية، ومستوياتهم الاجتماعية، جاءت كما هو واضح من منطلق إنساني واجتماعي لا يهدف إلى استثمار تلك الازمة أو السعي للتكسب من ورائها، لا سياسيا ولا اقتصاديا، ورغم إن تركيا دولة علمانية في المقام الأول، فإنها لم تنتهج نهج الدول الأوربية الغنية التي تعاملت مع مواطنيها على أنهم عبء وحمل ثقيل عليها، تسعى للتخلص منه بأية وسيلة، بل بالعكس فإن تركيا في كل ما اتخذته من إجراءات، وما قررته من قرارات بثت في نفوس كافة المتواجدين لديها من مواطنين ومقيمين الطمأنينة، وجعلتهم – رغم كارثة الوباء – يشعرون بأنهم يمثلون قيمة حقيقية للمجتمع تسعى الدولة للحفاظ عليها مهما كلفها ذلك من ثمن، رغم أزمتها الاقتصادية الخانقة. إنها تجربة مثيرة للاهتمام، وجديرة بالتطبيق في الدول التي ترى في مواطنيها ثروتها الحقيقية التي يجب صونها والدفاع عنها.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه