البشير والجنائية.. تكريس سُلطة الرجل الأبيض

 

منذ نحو عشرة أعوام تقريباً تلاحق المحكمة الجنائية الدولية الرئيس السوداني المعزول عمر البشير، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الانسانية، دون أن تقطع بفشلها في المهمة التي جردت لها أكثر من مدعٍ عام، لتذكرنا بين حين وأخر، أن البشير مطلوب لديها، فقط هو مطلوب لديها، كما لو أن الدافع الأساسي ليس الوصول إلى العدالة، وإنما الوصول إلى رأس السُلطة في السودان، واخضاعه، على الدوام، للابتزاز الغربي.

استهداف منصب البشير

لم يكن استصدار مذكرة قبض على البشير مسألة خطيرة، فهو رغم الاتهامات بحقه مع ذلك، تعاونت معه معظم الدول العالم، زراها أو عبر أجواءها، وتعاملت مع نداءات توقيفه بحماسٍ فاتر، ما يعني أن تلك المحكمة التي تجاهلت كذلك جرائم حرب ارتكبتها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وإسرائيل عياناً، مجرد أداة سياسية، أو بالأحرى سلسلة حديدية ثقيلة تتدلى فقط على رقاب الأفارقة، بصورة أقل ما توصف أنها تكريس للعدالة المنتقاة، أو أنها لم تكن إطلاقاً تستهدف البشير وإنما تستهدف منصبه.

قبل أيام جددت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودة مطالبتها بتسليم البشير لها، قائلة :“ الرئيس السوداني المخلوع يعد مجرماً كبيراً وخطيراً وأن مكوثه داخل محبسه في سجون السودان حالياً يعد خطراً يحدق بالتحول السياسي في السودان” وهى بذلك تتجاهل المحاكمة الحالية المتواصلة التي يخضع لها البشير بتهمة الفساد والثراء الحرام، إلى جانب تحريك بلاغات حرب دارفور ضده، والأخطر من ذلك أنها حكمت مسبقاً على عدم استقلالية القضاء السوداني، وأهالت على المحاكم الوطنية التراب، بصورة تبدو مسيئة لحكومة الثورة قبل كل شيء، بل صفعت حتى سلطات السجون السودانية من خلال التعريض بها، ويبدو أن المشغل الأوربي لبنسودة يريد ابتزاز السلطة الحاكمة الجديدة التي قررت عدم تسليم البشير .

سُلطة الرجل الأبيض

لعل أغرب مافي تحركات المحكمة الجنائية التي لم يصادق عليها السودان حقاً، أنها ساهمت بقصد أو ربما دون قصد في إطالة حقبة البشير في الحكم، والتي امتدت لثلاثة عقود، وجعلته يكتسب شعبية بالداخل، كونه تحدى وقتها سُلطة الرجل الأبيض، وبدا كبطل قومي في مواجهة اللاستعمار الجديد.

الاستعمار الذي حاول وضع الرباط الخانق على رقبة البشير، لتمرير طلباته، مع حرص الغرب على احتفاظ المتهم بمنصبه ودعمه في الخفاء، كحيلة ماكرة للحصول على مبتغاهم تحت وطأة الخوف، وهو ما حدث بالفعل، إذ إن الرئيس السوداني بأت مهموماً بمصيره، على نحوٍ حفزه لتقديم تنازلات هائلة، أخطرها تقرير مصير جنوب السودان، وفي الوقت نفسه التمسك بالسُلطة، التي ضمنت له نسبياً حصانة دستورية، ورغبة هائلة في الاستحواذ على كافة أوراق اللعب السياسي، وبناء سلطة استبدادية قاهرة.

كسر العزلة الجنائية

أفلح البشير وقتها في اختراق جدار الجنائية الصلب، وكسر العزلة المفروضة عليه، بل ومضى في استثمار الاستهداف الغربي في حملاته السياسية، وإتخذ منحى مصادماً أحياناً إلى درجة مواجهة أوكامبو ومن ثم فاتو بنسودا، قائلًا في أكثر من خطاب جماهيري “أقول لهم جميعًا مدعي المحكمة الجنائية وأعضاؤها ومن ساندهم، كلكم تحت حذائي” وأضاف أن على مجلس الأمن والجنائية “بل قراراتهم بالماء وشربها” تأكيدًا على أنها بلا قيمة بالنسبة له.

آليات الاستعمار الجديد

عطفاً على ذلك دخل الاتحاد الإفريقي على الخط، مسانداً لموقف السودان، وطالب هايلى ماريام ديسالي الرئيس الدوري للاتحاد الأفريقي حينها بإسقاط التهم التي وجهتها المحكمة الجنائية الدولية للرئيس الكيني أوهورو كينياتا والبشير أيضًا، مردداً “هدف المحكمة كان تجنب أي نوع من الإفلات من العقوبة، لكن الآن العملية تحولت الى نوع من الاصطياد العنصري ” واعتبرها قادة أفارقة واحدة من “آليات الاستعمار الأبيض” وربما هذا أضعف كثيراً من المحكمة الجنائية، التي فشلت قبل ذلك في كسب توقيع روسيا والصين والولايات المتحدة الأمريكية، الدول ذات المخالب الحادة، والأكثر إجراماً.

ثلاثة أشخاص من المطلوبين للجنائية حالياً يقبعون داخل سجن كوبر، من ضمنهم البشير، وأحمد هارون وعبد الرحيم محمد حسين وزير الدفاع الأسبق، فبيما تتواصل محاكمة البشير، لم توجه بعد أي تهمة ضد البقية، وظل الحال كما هو عليه، الجيش أعلن أكثر من مرة رفضه لتسليم البشير أو أي متهم سوداني ليحاكم بالخارج، أما قوى الحرية والتغيير، فقد أعلنت بصورة واضحة توافق جميع مكوناتها على تسليم الرئيس المعزول إلى المحكمة الجنائية الدولية، بعد الفراغ من محاكمته بالداخل.

حريق شامل ومخاطر تهدد الجميع

 وهذا الاعلان سوف يشعل فتنة على الأرجح، ليس بين المكون العسكري والمدني داخل الحكومة فقط، وإنما بانفتاح المخاطر على الجميع، حتى رئيس المجلس السيادي الفريق عبد الفتاح البرهان وحميدتي يمكن الزج بهما في قائمة مرادفة، باعتبار مسؤوليتهما المباشرة عن ضحايا فض الاعتصام والانتهاكات الإنسانية التي تلت ذلك، بل إن حميدتي تحديداً تلوح قبالته اتهامات متجددة إزاء خروقات حرب اليمن ودارفور يصعب أن يفلت دون تسوية وحماية كبرى.

من المهم الإشارة إلى أن تمكين الجنائية من محاكمة سودانيين بالخارج غالباً سوف يسارع بعودة الحرب الأهلية، وهو من شأنه أيضاً أن يتسبب في سيطرة الجيش على السُلطة بصورة كاملة واجهاض الثورة، فضلاً عن مواجهات محتملة، وذلك على خلفية تهديد قوات “الدفاع الشعبي” ذات الصبغة الاسلامية بـ “حريق شامل لن يسلم منه أحد”، حال تسليم قائدها عمر البشير للمحكمة الجنائية الدولية، كما أعلنت مطلع هذا الأسبوع.

من يحاكم قادة أمريكا؟

بالنسبة لإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فهى قد سعت مراراً إلى تقويض شرعية المحكمة الجنائية، وهددت بإحباط التحقيقات التي تشمل الولايات المتحدة الأمريكية أو حلفاءها، حيث أعلن مستشار الأمن القومي الأمريكي، جون بولتون، أن الولايات المتحدة لن تتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، كما هدد بعدد من الخطوات الانتقامية إذا حققت المحكمة مع مواطنين أمريكيين أو مواطني الدول الحليفة لهم، والحال نفسه ينسحب على إسرائيل وروسيا، فكيف تتحامل الجنائية فقط على دول العالم الثالث؟ إن لم يكن ذلك بمثابة حكم القوي على الضعيف.

حسناً، فلا أحد يجرؤ على محاكمة المجرمين الكبار، في عالم تهيمن عليه القوة، والتعايش مع منطق المعايير المزدوجة، وهذا بالضبط يذكرنا بملاحظة ساخرة للمؤرخ والمنظر الفرنسي ألكسيس دوتوكفيل من أن الولايات المتحدة “استطاعت أن تبيد العرق الهندي من غير أن تنتهك مبداً عظيماً واحداً من مبادئ الأخلاق في نظر العالم”!

مصالحة شاملة

لو كان البشير متهماً في أي قضية فمن الأسلم محاكمته بالداخل بشكل يضمن إعادة الثقة في القضاء السوداني بعد الثورة، والتخلص من الوصاية الغربية مرة وإلى الأبد، بل إن طلب العدالة في الداخل يضمن عدم تمرير الأجندة الخارجية، واستيفاء كل الحقوق المطلوبة بما فيها إنصاف الضحايا، والوصول إلى صيغة تؤمن، على الأقل، مطلب المصالحة الشاملة بين السودانيين.

 

 

 

 

 

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه