الانقلابُ على الرجل أخطرُ انقلابات العصر

 

لم يعد العالم مكانًا مخيفًا للمرأة كما كان من قبل، صارت الشوارع مضاءة كل الوقت، والأسواقُ مزدحمة كل الليل، والسفرُ عبر القارات آمنا، ورجالُ الشرطة وكاميراتها منتشرون في كل مكان. حتى كسبُ الرزق لم يعد بحاجة إلى كثير من القوة الجسدية، بل على العكس، فإنّ المهن التي تحتاج للعضلات أصبحت أدنى المهن في سلم الوظائف، بينما صارت المرأة قادرةً بشهادة جامعية على أن تكسب ضعف ما يكسبه رجل يفوق حجمها بثلاث مرات، وقادرةً بباروكة شقراء وتنورة قصيرة على أن تكسب أضعاف ما يكسبه عشرة رجال!

لقد اختلفت معايير القوة في هذا العصر، لتميل لصالح المرأة في كثير من الأحيان، لقد أصبحت المرأة “قوية” بالفعل وقادرة على أن تكون “مستقلة”، ومستغنية تماما عن وجود الرجل في حياتها.

إنه عصر الانقلاب على الرجل، عصر الاستغناء عنه، عصر الانقلاب على القوامة بالمفهوم القرآني.

إن الشكل الذي انتهت إليه المجتمعات المتحضرة في العقود الأخيرة غيَّر الكثير من المفاهيم الراسخة المتعلقة بالمرأة والرجل والعلاقة بينهما.

بشكل أهوج:

لقد أُدخِلت المرأة إلى معادلة الإنتاج والاستهلاك بشكل أهوج، وعلت قيم سوق العمل على كل منظومة قيمية أخرى، وغلبت الصبغة التجارية الجديدة للعالم أي صبغة ثقافية أو دينية سابقة. كل هذا تضارب مع مفاهيم الأسرة التقليدية، وغيّر من سلم الأولويات في حياة الأفراد ووجدان المجتمعات. لكن الاكتشاف الذهبي والمفاجئ لامرأة العصر الحديث، وسط كل هذه المعمعة، هو قدرتها على الاستغناء عن الرجل.

فهي تعيل نفسها بنفسها، وتملأ عربة تسوقها من أقرب سوبر ماركت بنفسها، ويوصلها مترو الأنفاق إلى الطرف الآخر من المدينة دون أدنى جهد، وتحميها قوة القانون وكاميرات المراقبة من سكارى الليل، وبوسعها أن تنجب بلا زواج، فتنسب الطفل لها بشرعية القانون أيضا، فماذا تبقى لتحتاجه من الرجل؟!

 لقد انكمش دور الرجل إلى الحد الأدنى في حياتها، ولم يعد بالنسبة لها إلا الشريك الذي يشاركها سواد الليل متى شاءت.

لكن البشرية تصاب بالخبل أحيانا، ويُسكرها رفاه اللحظة التي تعيشها، فتغامر بتبني فلسفات لا تكاد تنطبق إلا على لحظة الرفاه العابرة تلك، أما التاريخ فقد علمنا أن أحوال الأمم في تغير مستمر، وبين ليلة وضحايا قد ينقلب كل شيء على رأس المرأة!

خبل البشرية:

إن قيام حرب، أو تفجر اقتتال أهلي، أو وقوع زلزال أو فيضان، أو حصول انقطاع شامل في إمدادات الطاقة الكهربائية للدولة، أو حدوث كارثة بيئية، أو حركة هجرة قسرية، أو انفلات أمني، سيفتح عيون البشرية على حقيقة خبلها، وسيوقظها من هذيانها الفلسفي ذاك. ففي مثل هذه الظروف ستتبخر النساء السترونغ إندبندت، لتجد كل امرأة أنها بحاجة إلى كتف رجل تحتمي خلفه، إلى ثبات رجل يخوض الخطر لينقذها، إلى قوة رجل قادر على القتالِ والقتلِ من أجل حمايتها، إلى حنكة رجل قادر على مفاوضة تجار الحدود والبشر، إلى خشونة رجل قادر على تحمل الصعاب ليؤمن لها ولأطفالها خبزا وماء، إلى ذراعي رجل يحملها وأطفالَها عندما يعز المسير.

نحن النساء بناتَ الحروب ومآسي اللجوء، نحن بنات الهرب تحت القصف، والتسلل غير الشرعي عبر الحدود المغلقة، نحن بنات العبور المرعب على الحواجز المدججة بالسلاح، والخروج المعجِزِ من بين الأنقاض، نحن نعرف كم أن هذه الكذبة كبيرة، نحن نعرف أننا في تلك اللحظات السوداء لم نكن سترونغ إندبنت أبدا، وأننا لن نكون يوما كذلك حتى في أكثر لحظاتنا رفاها وأمانا.

نحن نعرف أن وجود الرجل في حياة المرأة، أباً كان أو أخا أو زوجا أو عماً أو حتى ابناً، ليس ترفا قابلا للموافقة والرفض، بل هو حاجة حقيقية لكل أنثى، لأن الحياة لا يؤمن لها جانب، ولأن قانون الغاب هو الشِّرعة الوحيدة التي سيحتكم الناس إليها في اللحظة التي يقرر فيها الرفاه والنظام أن يديرا ظهريهما للمجتمعات المدللة.

ورغم تاريخ طويل من الظلم الذي تعرضت له المرأة في كل المجتمعات، ورغم لحظات الإنصاف القليلة التي شهدتها البشرية عند نزول وحي السماء، إلا أننا يجب ألّا ننكر أن الحضارات منذ فجر الدهر قامت على أكتاف الرجال، وأن المهمات الصعبة كانت دوما لهم وستظل دوما لهم. ومهما احتفلنا بامرأة تقود شاحنة، أو تتسلق جبلا، أو تقضم زجاجا، فإن هذه تبقى استثناءات تثبت القاعدة، أما بناءُ السدود، وحفر المناجم، وحمل الحجارة، والموت في ساحات الوغى، والاختناق في المصانع، والاحتراق خلف أفران المعادن وجمع نفايات البشر، وخوض البحار، والتجمد بردا عند الحدود، كانت دوما مهمات الرجال.

تشرنوبل:

وقبل أشهر قليلة، هز مسلسل تشرنوبل قلوب الناس، باستحضاره تلك الكارثة المخيفة من التاريخ القريب، لكن المسلسل لم ينقل فقط فظاعة الكارثة، بل نقل صورة حقيقية لبديهية دور الرجال في المجتمعات، والتي أصبحت بسبب العبث الفلسفي مدعاة للشك والسخرية.

فبعد أن تيقن المسؤولون من وقوع الكارثة، أوكلت كل المهام الخطيرة للمجندين من الرجال، لقد كان على الآلاف منهم أن يواجهوا خطر المرض والموت والعمل المضني في بيئة ملوثة إشعاعيا لكي يقوموا بواجب حماية البلاد، حماية زوجاتهم وأطفالهم وآبائهم والضعفاء من أبناء وطنهم. لقد كانوا جميعا رجالا، ولم يُطلب من أي امرأة أن تكون موجودة هناك، في عين الكارثة، لتواجه هذا العناء، ولا يجب أن تكون موجودة لأنها لم تُخلق لتحمل هذا العبء، ولكن الانفجار الأخلاقي النووي الذي يشهده عصرنا، بات يشوه في أعيننا بديهيات العقل والمنطق.

بل حتى في مجتمعات الرفاهية نفسها، لا يزال على المرأة الغارقة في أوهام القوة والاستقلال، أن تواجه أصناف الاستنزاف النفسي والابتزاز العاطفي، في مجتمع استغنى عن قيم الحياة الزوجية والأسرية، وعطل دور الأب والأخ والزوج حماةً للنساء.

إن مفهوم القوامة بمعناه القرآني، الذي يتولى فيه الرجل القيام على شأن المرأة، فيما لا طاقة لها به، من حماية وإعالة وعناية، والذي يكون فيه الرجل سيفا للمرأة لا عليها، هو مفهومٌ مستدام بدوام البشرية، متوافقٌ مع ما جبل عليه الرجال والنساء، لا يجب أن يغيره رفاه طارئ، ولا هذيان فلسفي يعلو صوته على صوت الحق عُلوَّ برطمة المخمور على حديث العاقل.

وإن ما يجب الخوف والتخويف منه بالفعل، هو استمرار هذا الهذيان بخلقِ رجالٍ فقدوا رجولتهم الحقة واستساغوا التخلي عن مسؤولياتهم، وخلقِ نساء يملؤهن وهم القوة والاستقلال، ولا هن في الواقع باسترونغ ولا بإندبندت وومن.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه