الانتخابات المحلية التركية. حديث ما بعد العاصفة

نتائج هذه الانتخابات سترسم –دونما شك- ملامح الفترة القادمة خلال السنوات المتبقية حتى عام ٢٠٢٣ موعد حلول الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.

لم يعد باقيا من عاصفة الانتخابات المحلية التركية حتى كتابة هذه السطور سوى إسطنبول، واسطة عقد الولايات التركية الواحد والثمانين ولربما تطوى صفحتها عندما يظهر هذا المقال للعلن، إضافة إلى أحد أقضية ولاية أرتفين الذي قررت اللجنة العليا للانتخابات إعادة الانتخابات فيه في الثاني من يونيو/حزيران المقبل عقب قبول طعن حزب الشعب الجمهوري المعارض على فوز مرشح حزب العدالة والتنمية.
 هذه الانتخابات تعد الثانية التي أشهدها على مستوى المحليات والسابعة على جميع المستويات البلدية والنيابية والرئاسية والاستفتاءات الدستورية.
وبنظرة سريعة على الانتخابات المحلية الماضية عام ٢٠١٤ نجد أنه سبقتها بأشهر قليلة أحداث مهمة حيث شهدت تركيا حينها محاولة انقلاب عن طريق القضاء، دبرها تنظيم فتح الله غولن في ديسمبر ٢٠١٣ من خلال عناصره المتنفذين في السلك القضائي، الذين فاجأوا الرأي العام بفتح تحقيقات بحق وزراء ومسؤولين حكوميين بتهم تتعلق بالفساد، وحاولوا من خلالها اتهام رئيس الوزراء آنذاك رجب طيب أردوغان وتقديمه للمحاكمة؛ لكن الخطة فشلت عقب تحرك الحكومة السريع على عدة أصعدة أمنية وسياسية وقضائية قادها أردوغان بنفسه.
كان يُتوقع آنذاك أن تترك تلك الأحداث أثرها على الانتخابات البلدية؛ لكن صناديق الاقتراع خالفت التوقعات وتصدر حزب العدالة والتنمية النتائج بنسبة ٤٥.٦٪ واحتفظ برئاسة بلديتي أنقرة وإسطنبول وعدد من المدن الكبرى.
وبالرغم من ذلك فإن السياق الذي أجريت فيه الانتخابات الحالية سواء على مستوى الداخل التركي أو الإقليمي أو الدولي جعلها أكثر سخونة وتخطت كونها انتخابات محلية إلى اعتبارها بمثابة استفتاء متجدد على شعبية أردوغان وحزبه..
فالمرشح الرئاسي السابق عن حزب الشعب الجمهوري محرم إنجه، استبق الانتخابات بتصريحات صحفية مثيرة قال فيها إن حزبه سيفوز برئاسة بلديات المدن الكبرى ومن ثم سيدعو إلى انتخابات رئاسية مبكرة!!!!

رغم عدم علاقة الانتخابات المحلية نهائيا بالوضع الرئاسي أو البرلماني، لكن ربما عكست تلك التصريحات خطة لدى المعارضة ترمي إلى إثارة الاضطرابات وخلط الأوراق داخل تركيا وفق السيناريو الفنزويلي.. 
ومن هنا فإن نتائج هذه الانتخابات سترسم – دونما شك – ملامح الفترة القادمة خلال السنوات المتبقية حتى عام ٢٠٢٣ موعد حلول الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة على نحو ما سنفصله عقب هدوء عاصفة الدعاية الانتخابية والتصويت والفرز والطعون.

هل خسر حزب العدالة والتنمية الانتخابات؟!

روجت كثير من المنصات الإعلام العالمية والعربية لفكرة خسارة حزب العدالة والتنمية الانتخابات وركزت معظم التغطيات الإخبارية على إبراز عدة مضامين كالحديث عن المستقبل السياسي لأردوغان، ومرحلة ما بعد العدالة والتنمية والانصراف الشعبي عن أردوغان وحزبه.. إلخ

لكن قبل الحديث عن المكسب أو الخسارة يجدر بنا مطالعة بعض الفروق المهمة للأرقام التي حصلها الحزب في الانتخابات الحالية وانتخابات الدورة الماضية عام ٢٠١٤ من خلال الجدول التالي:

عدد الأقضية

عدد البلديات الصغرى

 

عدد البلديات الكبرى التي حصل عليها

النسبة المئوية

عدد من صوتوا للحزب

عدد الناخبين بالملايين

الدورة

559

30

18

45.6٪

20.519.829

48

انتخابات 2014

535

24

15

44.3٪

20.584.029

57

انتخابات 2019

 

هذه الأرقام تعكس عدة مضامين مهمة:
1-    الحزب حاز ثقة عدد أكبر من الناخبين مقارنة بما حصل عليه في الدورة الماضية؛ لكن النسبة المئوية انخفضت قليلا نظرا لارتفاع عدد الناخبين بحوالي ٩ ملايين ناخب عن انتخابات ٢٠١٤، وتصدر هذه الانتخابات بفارق كبير عن حزب الشعب الجمهوري الذي حصل على ٣٠٪، بينما حصل تحالف الشعب المكون من حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية على ٥١.٦٪ هذه الأرقام تنفي ما يتم الترويج له من “خسارة” الحزب ويتضح معها أن ثمة تضليلا متعمدا يمارس في حق الرأي العام خاصة في منطقتنا العربية، علماً أن الحزب يحكم منذ سبعة عشر عاما ولم يخسر أي انتخابات خاضها منذ ذلك التاريخ.
2-    بالرغم من ذلك فقد حدث تراجع طفيف في عدد رئاسة البلديات الكبرى والصغرى والأقضية التي فاز فيها الحزب كما هو موضح بالجدول أعلاه وهذا التراجع كان واضحا في الولايات المطلة على البحر المتوسط وبحر إيجه في حين حافظ الحزب على مكانته داخل الأناضول، بينما حقق مفاجأة كبيرة بالفوز بمدينتي شرناق وآغري ذات الأغلبية الكردية كما سنوضح لاحقا، وربما لعب العامل الاقتصادي دورا في ذلك التراجع في بعض تلك المدن نظرا للطبيعة الاقتصادية لها إضافة إلى أن البعض الآخر منها يعد معقلا تاريخيا لحزب الشعب الجمهوري مثل إزمير ولم يكن متوقعا فوز حزب العدالة والتنمية فيها.
3-    رغم خسارة الحزب في العاصمة السياسية أنقرة والتاريخية إسطنبول (حتى الآن على الأقل) إلا أنه يسيطر سيطرة تامة على مجلس إدارة البلدية الذي يتكون من رؤساء بلديات الأقضية الفرعية التي يحوز فيها الحزب على الأكثرية، ففي إسطنبول فاز الحزب برئاسة ٢٤ قضاء من أصل ٣٩ قضاء إضافة إلى قضاء واحد من نصيب حليفه حزب الحركة القومية، وفي أنقرة فاز الحزب برئاسة ١٩ قضاء من أصل ٢٥ قضاء فيما فاز حليفه حزب الحركة القومية برئاسة ٣ أقضية، بينما لم يفز حزب الشعب الجمهوري سوى بـ ٣ أقضية فقط، ما يعني أن حزب العدالة والتنمية سيبقى موجودا بقوة في صنع قرارات البلديتين المهمتين، ولن يكون في وسع رئيسي البلديتين تجاوز الحزب بل سيكون عليهما صياغة سياسة توافق وتعايش مع تلك الأكثرية بما لا يؤدي إلى تجميد المشاريع الهامة أو تعطيل مصالح المواطنين.
4-    الحزب ما يزال يواجه مشكلة مع شريحة الشباب رغم الجهد الكبير الذي بذله أردوغان في التواصل مع الشباب عبر مواقع التواصل الاجتماعي قبل الانتخابات بأيام قليلة، لأن هذه الشريحة لم ترَ تركيا القديمة وما وصلت إليه حينها من انهيار في الخدمات والبنى التحتية وأصعدة شتى، وبالتالي لا تحمل امتنانا داخليا للحزب فيما أنجزه على مدار سبعة عشر عاما عكس الشرائح العمرية الأخرى التي عاصرت حكومات ما قبل العدالة والتنمية، وبالتالي فرغم زيادة عدد الناخبين ممن أتموا الثامنة عشرة عاما من عمرهم (حوالي تسعة ملايين ناخب) إلا أن الحزب لم يجذب أصوات كثيرين منهم.

حزب العدالة والتنمية بين التراجع والتغيير

رغم ظهور أحزاب قوية في فترات مختلف من تاريخ الجمهورية التركية، استطاعت الارتكاز على قاعدة جماهيرية عريضة، مثل الحزب الديمقراطي، والوطن الأم ، والرفاه بطبعاته المختلفة ، إلا أنها انهارت برحيل مؤسسها ، أو انفصاله عنها ، كما حدث في تجربة حزب الوطن الأم الذي فارقه مؤسسه تورغوت أوزال عندما تولى منصب الرئاسة ( ١٩٨٧-١٩٨٩) ، فلم يستطع الحزب الحفاظ على الأغلبية سوى لدورة واحدة فقط ، حيث حل ثانياً في انتخابات نوفمبر/ تشرين الأول ١٩٩١ بنسبة ٢٥.٥٪ ..

 أما حزب الرفاة فقد دب الضعف إلى أنحائه بغياب نجم الدين أربكان عن الساحة نتيجة الحظر الذي فُرِضَ بحقه عقب انقلاب فبراير/شباط ١٩٩٧، الأمر ذاته حدث مع حزب الطريق القويم الذي أسسه الرئيس الأسبق سليمان ديميريل، هذا الداء الحزبي يعرفه أردوغان جيدا لذا عندما انتخب رئيسا للجمهورية في أغسطس عام ٢٠١٤ كان الدستور حينها يحظر الجمع بين منصبي رئيس الجمهورية ورئاسة أحد الأحزاب، فاستقال من منصبه الحزبي لكنه اجتهد في الحفاظ على تماسك الحزب بطرق غير مباشرة قبل أن يعود إلي رئاسته مرة أخرى مع إقرار التعديلات الدستورية عبر استفتاء أبريل/نيسان ٢٠١٧ ..
ومنذ ذلك الحين أجرى أردوغان الكثير من التغييرات التي طالت المناصب القيادية مراكز صنع القرار داخل الحزب؛ لكن يبدو أنه سيحتاج إلى المزيد منها خلال الفترة القادمة للقضاء على الترهلات داخل الحزب خاصة وأنه أكد أن الحزب سيتعامل بجدية مع رسائل الناخب التركي التي أفصحت عنها صناديق الاقتراع.
الفترة القادمة قد تشهد مزيدا من المتاعب للحزب حال أعلن رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو تأسيس حزب جديد بمشاركة بعض القيادات القديمة للحزب مثل وزير الاقتصاد الأسبق على باباجان (أغلب الظن أن رئيس الجمهورية السابق عبد الله غل لن يكون داخل الحزب).
فهذا الحزب حال خرج للعلن فسيمثل خصما من الكتلة التصويتية للعدالة والتنمية، وليس من الكتل الأخرى ذات الالتزام الأيديولوجي والعرقي الحاد، مما سيؤدي إلى تفتيت التصويت داخل تيار اليمين بصفة عامة سواء كان محافظا أو قوميا ولن يستفيد من وجود ذلك الحزب إلا التيارات الأخرى، ولعل هذا ما دفع رئيس البرلمان الأسبق وأحد مؤسسي العدالة والتنمية بولنت آرينتش إلى استباق تلك الخطوة بتأكيده أنه لن يسامح أولئك الذين يسعون إلى تأسيس حزب جديد.
لكن من جهة أخرى فإن الوحيد القادر على مواجهة عاصفة ذلك التأسيس المنتظر هو أردوغان نفسه، ما حدا ببعض المحللين الأتراك للتأكيد على أن ذلك الحزب لن يرى النور لأن داود أوغلو – من وجهة نظرهم – لن يتمكن من مواجهة أردوغان.

اختراق مهم في مناطق الأكراد

رغم إخفاق حزب العدالة والتنمية في انتخابات بعض المدن الكبرى كما أسلفنا يبقى إنجازه الأهم والمتمثل في فوزه بمدينتين مهمتين من المدن ذات الغالبية الكردية في الجنوب الشرقي، وهما: شرناق وآغرى اللذين كانا في حوزة حزب الشعوب الديمقراطي وهذا الجدول يوضح نسب الحزب في انتخابات ٢٠١٤ والانتخابات الحالية: 

 

انتخابات ٢٠١٩

انتخابات ٢٠١٤

المدينة

٦١.٧٪

٢٩.٣٪

شيرناق

٥٥.٥٪

٤٥.٤٪

آغري

فولاية شيرناق كانت معقلا لتنظيم حزب العمال (بي كا كا) والذي أعلن عام ٢٠١٥ استقلال قضائي جيزرة وسيلوبي داخل الولاية وأقام فيهما المتاريس والحواجز ما دفع الدولة إلى تجريد حملة عسكرية ضخمة حينها للتعامل مع تلك التطورات اضطرت معها إلى إجلاء السكان من مناطق بأكملها والدخول في حرب شوارع مع التنظيم إلى أن تمكنت من القضاء عليه.
ثم شرعت الدولة في بناء الأحياء التي تهدمت بناء حديثا وتعمير المدينة بأكملها بعد عزل مجلس البلدية لتورطه في التعامل مع تنظيم بي كا كا. الأمر الذي مهد الطريق أمام ذلك الفوز المهم والذي عكس تمسك المواطنين الأكراد بالدولة الموحدة وليس الانفصال كما يريد تنظيم حزب العمال.
والمفارقة أن الإعلام العربي الذي لطالما هاجم “ديكتاتورية” أردوغان هو ذاته الذي روج لهزيمة حزبه المزعومة واحتفى بها، دون أن يخبرنا كيف لديكتاتور يشرف على انتخابات بنزاهة تامة ليفوز فيها معارضوه؟!!!!!! وتلك قصة أخرى تُحْكى.  
 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه