الانتخابات التركية من “الجورشي” إلى “مأمون فندي”!

كثير من المنتمين للنخب العربية لا يشعرون بعمق الأزمة التي يعيشون فيها، وأدت بهم إلى الانفصال عن حركة الجماهير وتطلعاتها حتى باتوا – من دون مواربة – جزءاً أصيلاً من أزمة عامة تلفُّ المجتمعات العربية، حتى أن بعضهم لم يستحِ من الاصطفاف مع أنظمة القمع والجبروت في مواجهة متطلبات الجماهير الأصيلة في نيل الحرية ومكافحة الفساد.

تعرية النخب العربية، خاصة التي تربت وترعرعت في أحضان الأنظمة القمعية، جاء عبر محطات أبرزها الثورات العربية والموقف منها، خاصة في قبول أو عدم قبول ما ترتب عليها من استحقاقات تصويتية ولجوء إلى الشعب للمرة الأولى منذ عقود للحصول على الشرعية، وهو الاختبار الذي سقطت فيه معظم هذه النخب ثم زاد الأمر تأزماً مع هبوب الثورات المضادة تجهيزا وتنفيذا، إذ لعبت كثير من النخب دور المحلل لدهس الدبابات والمجنزرات ثورات الربيع العربي.

الانتخابات التركية هي الأخرى مثلت محطة هامة لتعرية كثير من النخب العربية، خاصة وأن تركيا ظلت عصية على محاولات الإطاحة بالتجربة الديمقراطية، وأثبت النظام الحاكم فيها أنه أشد عوداً وأقوى شكيمة من جميع المحاولات التي تمت للإطاحة به بعيدا عن المسار الديمقراطي، بدءا من أحداث غيزي بارك من مايو/أيار ٢٠١٣، مرورا بمحاولة الانقلاب القضائي ١٧-٢٥ من ديسمبر/كانون الأول ٢٠١٣، وانتهاء بمحاولة الانقلاب الفاشلة ليلة ١٥ من يوليو/تموز٢٠١٦.

الأيديولوجية مقابل الموضوعية

كان ملفتا للنظر شح تناول كبار الكتاب العرب، أصحاب الأعمدة الثابتة في كبريات الصحف العربية لنتائج الانتخابات التركية على الرغم من أهميتها وتداعيتها على أوضاع الإقليم بصفة عامة فضلا عن انعكاساتها على الداخل التركي بطبيعة الحال، خلافا لما كان سيبدو عليه المشهد إذا كانت النتائج قد تمخضت عن تعثر أردوغان أو حتى دخوله الجولة الثانية!

لكن وبالرغم من الكتابات الشحيحة فإن كثيرا منها تغلب فيها “الأيديولوجي” على “الموضوعي” وتجاوز حدود المعقول في التناول والتحليل، إذ بدا البعض متناقضا مع ذاته وهو ينتقل من الفكرة إلى نقيضها، فيبدو خائفا على مستقبل الديمقراطية في تركيا، لكنه لا يجد غضاضة من التحريض على إزاحة أردوغان بالقوة.

“مأمون فندي” أحد هذه النماذج، فالرجل يقدم نفسه على أنه أستاذ في جامعة جورج تاون الأمريكية، كما يشغل منصب مدير أحد مراكز الأبحاث بالعاصمة البريطانية لندن، لذا فبالرغم من اختلاطه بالديمقراطية الغربية، ما أتاح له معرفة أصولها ودروبها فإنه يطرح كل ذلك خلف ظهره ليتساءل بغرابة شديدة في مقال له في جريدة الشرق الأوسط اللندنية الاثنين ٢ من يوليو/تموز حمل عنوان “مستقبل أردوغان” عن إمكانية إسقاط أردوغان قائلا:

“ما مستقبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعد فوزه بولاية ثانية بنسبة 52 في المئة في مجتمع بدا منقسماً على نفسه؟ وما مستقبل أردوغان في ظل نظام جديد يجعل من رئيس تركيا سلطاناً عثمانياً بصلاحيات لا حدود لها؟ هل هو تعزيز لرئاسته أم أنه يفتح الباب حول إزاحته بالقوة قبل انقضاء فترته الرئاسية؟”

ففندي (وهو هنا مجرد نموذج) يعتبر أن المجتمع التركي منقسم على نفسه، لا لشيء سوى أن أردوغان فاز بنسبة تتجاوز الـ٥٢٪، رغم أنه يعلم أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على سبيل المثال لم يفز بمنصب الرئاسة إلا في الجولة الثانية حيث لم يحصل على أية أغلبية في الجولة الأولى التي حصل فيها على 24% فقط من أصوات الناخبين، أي أقل من نصف النسبة التي حصل عليها أردوغان في الجولة نفسها، وعندما فاز في الجولة الثانية بنسبة 66%  لم يكن ذلك مدعاة للحديث عن انقسام المجتمع الفرنسي!

عندما يتغلب الأيديولوجي على الموضوعي يختفي الحديث عن أرقام الصناديق ودلالاتها إلى الحديث برجم الغيب عن افتراضات وتوهمات هي جزء من أيديولوجية الكاتب وليست من الواقع بطبيعة الحال.

ففي المقال المشار إليه يعيد “مأمون فندي” التأكيد على فكرة إسقاط رئيس منتخب انتخابا ديمقراطيا بواسطة القوة، بل ويسوقها باعتبارها عملا مشروعا، وخيارا مفضلاً، فبحسب رأيه يمكن لأردوغان أن “يغيِّر المسار ويبدأ حقبة جديدة في تاريخ تركيا في ظل النظام الرئاسي الجديد، ويمكنه أيضاً أن يظل غارقاً في نرجسيته السلطانية، وبهذا يدفع الأتراك دفعاً لإزاحته عن الحكم بالقوة”.

فندي كما قلت هو هنا مجرد نموذج لقطاع من النخب العربية، تنظر إلى الديمقراطية باعتبارها استهلاكا كلاميا وفقط، من دون أن تمتد قناعتها إلى كونها أداة لتداول السلطة وتعبير الشعب عن حقه في اختيار من يحكمه، وذلك لما ركز في وعي الكثيرين منهم من احتقار حقيقي للشعوب وتعظيم الأنظمة السلطوية التي يرتبطون بها عبر شبكة من المصالح المتعددة، وهو ما رأيناه جليا في التجربتين المصرية والتونسية، وامتد إلى الحالة التركية التي عرَّتهم في موقفين الأول: خلال الساعات الأولى من محاولة الانقلاب الفاشلة في ١٥ من يوليو/تموز، والثاني: عقب الإعلان عن نتائج الانتخابات التركية مؤخراً.

أحكام مطلقة مجافية للواقع

مزلق آخر وقعت فيه بعض النخب العربية، تمثل في عدم بذل الجهد والوقت لفهم الواقع التركي، وسبر أغواره، ومعرفة دقائقه، ومحاولة تفسير ظواهره السياسية والاجتماعية بربطها بسياقها المجتمعي وتطورها التاريخي.. إلخ، وذلك قبل إصدار أحكام قيمية تأخذ صفة العموم.

أضرب هنا مثالا بما كتبه الكاتب التونسي صلاح الدين الجورشي في جريدة “العربي الجديد” بتاريخ ٣ من يوليو/تموز، بعنوان “انتصار أردوغان المربك”، وأكد فيه أن انتصار أردوغان أثار جدلا داخل أوروبا بل “ذُهل كثيرون بهذا الانتصار الساحق بعد أن توقعوا هزيمة ماحقة لحزب العدالة والتنمية وقائده، بسبب ما اعتبروها “أخطاء قاتلة” ارتكبها الرجل القوي في تركيا خلال السنوات الأخيرة”.

ولو عاد الكاتب إلى استطلاعات الرأي التي جرت قبل الانتخابات سيجد أن معظمها كان يؤكد فوز أردوغان وحزبه ولكن بقي الخلاف حول قدرة أردوغان على حسم الانتخابات من الجولة الأولى أم أنه سيدخل جولة ثانية، وأيضا حول النسبة التي كان من المتوقع أن يحصل عليها حزب العدالة والتنمية، وهل سيتمكن من تحقيق الأغلبية بمفرده أم لا؟

هذا هو النقاش الحقيقي الذي كان دائرا في الأوساط الإعلامية والشعبية التركية، بل إن أوربا نفسها التي أكد الكاتب ذهولها من نتائج الانتخابات كانت تعرف وتدرك أن أردوغان سيتمكن من حسم نتيجة الانتخابات وليس أدل على ذلك من الدعوة التي وجهتها إليه المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، يوم ٢٩ من مايو/أيار الماضي أثناء زيارة وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو لألمانيا، لزيارة بلادها عقب الانتخابات، في إشارة إلى تيقنها من فوزه.

الجورشي (وهو هنا أيضا مجرد نموذج) طرح سؤالا عن إمكانية أن يزيد الانتصار الانتخابي من ثقة أردوغان في نفسه، وفي اختياراته، ما يجعله “غير عابئ بخصومه، وبالانتقادات الموجهة إليه في مجال الحريات” وهذا الأمر من وجهة نظر الجورشي “يفتح الباب أمام احتمال تحول تركيا إلى دولةٍ تعطي الأولوية للقوة والاقتصاد والاستقرار على حساب الديمقراطية وحقوق الإنسان”.

لكن مراجعة سريعة لتاريخ السنوات الست عشرة الماضية منذ وصول أردوغان وحزبه إلى السلطة تكشف جهدا غير مسبوق تم إنجازه دستوريا وقانونيا من أجل تعزيز الحريات وتدعيم الممارسة الديمقراطية أذكر منها سريعاً:

  • مواجهة الانقلابات العسكرية بكل حزم وعبر اللجوء للإرادة الشعبية مثلما حدث في محاولة انقلاب عام ٢٠٠٧ عبر مذكرة إلكترونية بثتها رئاسة الأركان على موقعها اعتراضا على ترشيح حزب العدالة والتنمية عبد الله غول للرئاسة، وقد اتخذ الجيش حينها غطاء مدنيا من خلال ما عرف حينها بتجمعات الجمهورية التي نظمها من عرفوا بدعاة الكمالية الجديدة، بدعوى الخوف على مصير الجمهورية التركية، ثم مواجهة انقلاب ١٥ من يوليو/تموز، من خلال أحداث تابعها العالم لحظة بلحظة.
  • إعادة تشكيل العلاقات المدنية العسكرية من خلال سلسلة من الإجراءات والتدابير الدستورية والقانونية التي أعادت الاعتبار في النهاية للسلطة المدنية المنتخبة وقضت على ازدواجية مراكز القرار داخل الدولة.
  • إلغاء المحاكم العسكرية وقصرها على المحاكم التأديبية داخل الوحدات، حتى أن العسكريين الذين دبروا محاولة الانقلاب الفاشلة تمت محاكمتهم أمام محاكم مدنية.
  • إلغاء الأحكام العرفية نهائيا، وهي حالة أشد وطأة من حالة الطوارئ.
  • إلغاء القيود التي فرضها انقلاب ٢٨ من فبراير/شباط ١٩٩٧ على الحريات وخاصة ارتداء الحجاب في الجامعات ومؤسسات الدولة.
  • وضع مزيد من القيود على حل الأحزاب، بحيث لم يعد ممكنا أن يتم حلها بقرار من المحكمة الدستورية كما كان يحدث في الماضي.
  • إعادة تنظيم المحكمة الدستورية وإلغاء وجود قاضيين عسكريين ضمن هيئتها.
  • السعي إلى تمكين الشباب من خلال النزول بسن الترشح إلى ١٨ سنة.

هذه بعض نماذج من سلسلة إجراءات طويلة اتخذها أردوغان من أجل تعزيز ملف الحريات والتي للأسف يجهلها كثير من النخب العربية التي لا تمل الحديث عن ديكتاتورية الرجل المتوهمة!

وإذا كان من الممكن ألا نلتفت إلى مثل كلام “أحمد موسى” في الإعلام المصري عن الانتخابات التركية والذي تحول إلى مادة للفكاهة والسخرية، فإن الوضع يختلف عما تكتبه النخب العربية، التي يبدو لزاما عليها أن تدرس بأناة ما يحدث في تركيا من تطور ديمقراطي ضخم، أنجز كثيرا مما نقف أمامه الآن غير مستوعبين له.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه