الإقصاء والتّهميش في العمل الإسلاميّ

أعظمُ حدثٍ مرَّ على المسلمين على الإطلاق هو الهجرة من مكّة المكّرمة إلى المدينة المنوّرة، وهو نقطة التّحوّل الأكبر في تاريخ المسلمين التي نقلتهم من الدّعوة إلى الدّولة، ومن الجماعة إلى الكيان المؤسَّس.

وفي صناعة هذا الحدث العظيم والتّحوّل الخطير حرص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على إشراك الشّرائح المجتمعيّة كافّة.

فأشرَك الشّرائح العمريّة والتّخصّصية المختلفة، فأشركَ أبا بكرٍ رضي الله عنه الرّجل الكهلَ التّاجر الغنيّ.

وأشرَكَ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه الفتى الفدائيّ، وأشرَكَ عبد الله بن أبي بكر الشّاب الثّقِف القادر على التّتبع اللَّقِن القادر على الحفظ والتّحليل ليمارس عملًا مخابراتيًّا تخصصيًا بالغ الأهميّة.

وأشرَكَ أسماء بنت أبي بكر المرأة الفاعلة المتحرّقة لخدمة قضيّتها، ولم يمنعه من إشراكها كونها حاملًا تنتظر مولودَها.

وأشرَكَ عامرَ بن فهيرة راعي الغنم الذي لا يلتفتُ لموقعه أحدٌ ويتعاملُ النّاس مع أمثالِه بازدراءٍ من الأمس المنصرم إلى يومنا هذا.

بل إنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يقتصر على المسلمين بل أشركَ غير المسلمين ممّن يساندونه في مواجهة الظّلم؛ فأشرَكَ عبد الله بن أريقط المشركَ في صناعة هذا الحدث العظيم، وكان عمله في مهمّةٍ من أخطر المهمّات وهي الدّلالة على الطّريق.

هكذا هي الأحداث العظيمة والتحوّلات المفصليّة على مستوى الأمة والشّعوب لا يمكن أن يصنعها شخصٌ بمفرده مهما كان مُلهَمًا، ولا جماعةٌ متقوقعةٌ على ذاتها مكتفيةٌ بأبنائها مهما كانت تحملُ من الحقّ والرّشاد في منهجها وسلوكها.

الإقصاء الفردي والجماعي

لم يعاني أحدٌ من الإقصاء والتّهميش كما عانى منه الإسلاميّون على اختلاف توجّهاتهم وتياراتهم وكياناتهم وجماعاتهم داخل المجتمعات التي يعيشون فيها ويطمحون لأخذ دورهم وفرصتهم فيها.

تمّ إقصاؤهم من أصحاب القرار السّياسي في مختلف مستوياتهم، كما مورس عليهم الإقصاء البيّن من النّخب غير الإسلاميّة أزمانًا طويلة؛ ومع ذلك وقع كثيرٌ منهم في شرٍّ ممّا عانوه من غيرهم، فمارسوا الإقصاء والتّهميش داخل كياناتهم وخارجها.

فالتّهميش الذي يقوم على وضع أفرادٍ وجماعاتٍ على هامش الأحداث، وإقصاؤهم وعزلهم عن دائرة الفعل والتّأثير.

فالإقصاء يكون فرديًّا أي لأفرادٍ بعينهم وقد يكون الإقصاء الفرديّ داخليّا أي داخل الجماعة أو خارجيًّا بحيث يكون الفردُ شخصيًّة مؤثّرةً من جماعة أخرى أو مستقلًّا عن أيّة جماعة.

والإقصاء الفرديّ سواءً كان داخليًّا أم خارجيًّا فإنّه يعتمدُ على التهشيم الذي يسبق التّهميش، والتّحطيم الذي يسوّق إلى الإلغاء، والاغتيال المعنوي الذي يؤدّي إلى إبعاده عن دائرة القرار إن كان من داخل الجماعة والكيان، ويؤدّي إلى إبعاده عن دائرة التّأثير المجتمعيّ والسّياسي إن كان من خارج الجماعة أو التيّار.

وكذلك يكون الإقصاء جماعيًّا؛ بحيث تمارسُه جماعةٌ بحقّ جماعةٍ أخرى سواءً داخليًّا أو خارجيًّا.

والإقصاء الجماعي الدّاخليّ يعني أن يقوم فريق بالعمل على تهميش وإقصاء فريق آخر داخل الكيان أو الجماعة، والسّبب الرئيس في هذا النّوع من الإقصاء هو “الشّلليّة” التي تنشأ في الجماعات حين يدبّ فيها المرض.

وهذه “الشّلليّة” تقود إلى التّنازع الدّاخلي واستحواذ فريق على قرار الجماعة أو التّيار وتهميش الفريق الآخر، وهذا يستنزف الطّاقات ويضعف الجماعة ويذهب شوكتها وقدرتها على مواجهة العواصف.

أمَّا الإقصاء الجماعي الخارجي فهو الذي تمارسه جماعةٌ بحقّ جماعةٍ أخرى تشترك معها في العمل للمبادئ والأفكار الإسلاميّة لكنّها تخالفها في التّوجّه الفكري، بحيث تسعى الجماعةُ إلى إقصاء الجماعات المخالفة لها من المشهد.

وهذا الإقصاء الجماعي الخارجي سببه “الحزبيّة” وهو التّعصّب الأعمى للجماعة واحتكار الصّواب والنّظرة الاستعلائيّة أو التّنافسيّة تجاه الجماعات الأخرى.

وهذا الإقصاء يتسبب بدخول العاملين في الحقل الإسلامي في معارك بينيّة جميعهم خاسرٌ فيها، ولا ينتصر فيها إلّا خصمهم وعدوّهم الحقيقيّ الذي يتربّص بهم الدّوائر.

فيكون حالهم كحال قطّين تصارعا على قطعة جبنٍ حتّى إذا انهكا بعضهما البعض استحوذ الفأر عليها بكلّ يسرٍ وسهولةٍ وهو يرقبهُما غارقَينِ في التّعب وجراح المعارك الخلّبيّة.

فشلٌ إداريّ ومعضلةٌ فكريّة نفسيّة

للوهلة الأولى تبدو قضيّة الإقصاء والتّهميش مشكلةً إداريّة بحيث يفشل متصدّرو المشهد الإسلامي أو صانعو القرار في استثمار الطّاقات المختلفة وتوظيفها، لكنّ الممارسة الإقصائيّة تكشفُ عن معضلةٍ فكريّة تقوم على احتكار الصّواب واعتقاد الأفضليّة الفكريّة على الغير، كما تكشف عن مشكلة نفسيّة تقوم على غياب الشّعور بالتّكامل الأخوي بين العاملين في الحقل الإسلامي من مختلف المكوّنات وحلول المشاعر السّلبيّة تجاه بعضهم البعض.

وفي الوقت الذي يجب فيه على العاملين في الحقل الإسلامي إشراك الجميع إسلاميين من مختلف التوجهات وغير إسلاميين من مختلف الأفكار في مواجهة العواصف الشديدة التي تريد أن تقتلع أوتادهم وتهوي بخيامهم في مهبّ الرّيح؛ فإنّنا نجد أنّ الإقصاء والتّهميش يجد سبيله ليزيدَ كثيرًا من العاملين وكياناتهم تقوقًعا على الذّات حيث وجب احتضان الجميع، وانغلاقًا في الوقت الذي يجب فيه الاتّساع.

نذير خطر

إنَّ الإقصاء والتّهميش مهلكةٌ للعمل الإسلاميّ إن ملك الإسلاميّون السّلطة فاستأثروا بها وأقصوا غيرهم، وهو عنوان تقويضها والتّعجيل به.

وهو مهلكةٌ أكبر بكثير إن مارسوها في مواجهتهم لمن يريد استئصالهم جميعًا، والقضاء على فكرتهم قبل كياناتهم.

ويغدو الأمر بالغ الخطورة إن تحوّل هذا الإقصاء والتّهميش إلى ثقافةٍ يتمّ التّنظير لها بإلباسِها النّصوص الشرعيّة.

فكم يحتاج هذا من العاملين في الحقل الإسلامي إلى وقفات جادّة للتدارك والمعالجة لهذا الدّاء حيثما وُجد واتخاذ التدابير الفكريّة والتربويّة والعمليّة الوقائيّة قبلَ عضّ الأصابع ندمًا حيث لا ينفع النّدم!

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه