الإعلام في حكم العسكر: هذه هي مصر يا عبلة!

سليم عزوز*

هذه هي مصر يا «عبلة». فلا يمل أحدهم وهو يظهر على شاشة «الجزيرة،» من الإعلان بأنه يمارس حريته الإعلامية في المحروسة دون أن يقول له احد: أُف، ليقف العالم كله ذات صباح، على أن حريته التي يتحدث عنها لا تتجاوز «حقه الدستوري» في دخول «دورة المياه» كلما أراد، وفي أن يمارس حقه في الغناء داخل «الحمام»، أغنية «الطشت قالي»!
فقد صدرت الصحف المصرية يا «عبلة» ذات صباح وهي تعزف نغمة واحدة، وبمانشيت واحد، لا يتجاوز العبارة غير المفهومة لعبد الفتاح السيسي «مصر تستيقظ»، وكأنه يكتشف طريق رأس الرجاء الصالح!
الصحف المصرية تتعدد ملكيتها، ما بين قومية، تابعة للسلطة، وخاصة مملوكة لأصحابها وتابعة أيضاً للسلطة، وحزبية مملوكة لأحزابها وتابعة كذلك للسلطة. وهي صباحية ومسائية، ومع ذلك لم تجد في خطاب السيسي التاريخي للأمة والأمم المجاورة إلا عبارة واحدة تستحق الإبراز، هي «مصر تستيقظ»، والحمد لله أنه لم يقل أنها كانت «حامل»، ووضعت ما في بطنها محرراً، بانعقاد المؤتمر الاقتصادي، فلو قال ذلك فإن الصحف كلها كانت ستصدر بمانشيت واحد هو: «مبروك مصر جابت ولد»!
ليست هذه المرة الأولى التي تصدر فيها الصحافة المصرية بمانشيت واحد، فقد احتفظت بعناوينها ذات يوم، وكانت كلها تعزف نغمة واحدة: «السيسي: سنثأر للشهداء»، لا فرق بين جريدة «الجمهورية»، و»جريدة الشروق»، ولكن الفضيحة هذه المرة صارت عالمية، لأن «وليد العطار»، أعد تقريراً أذاعته «الجزيرة» نقل هذه الفضيحة للعالم، مع العلم أننا نعيش بذلك مرحلة ما بعد بعد الفضيحة!
في مرحلة الفضيحة، فإن المفضوح يطلب الستر، ولكن في حالتنا، لم تثر داخل أحدهم كرامته المهنية، فيبرر ويعلل، ومن بين رؤساء التحرير من يقدم نفسه للرأي العام على أنه «مهني»، وموضوعي، ومستقل، وهؤلاء بالذات هم الذين جلبوا لنا العار المهني، ولا أدري كيف نتجاوز جريمتهم في حق الإعلام المصري، على نحو لا ينال من سمعة الصحافي المصري خارجياً؟
في الواقع يا «عبلة» أنه جرى من قبل رصد «النغمة الواحدة» في الإعلام المصري، وبرامج «التوك شو»، وكان من رصد هؤلاء برنامج «البرنامج» لباسم يوسف، فلم يكن هناك وحدة فقط في الموضوع، أو في أسلوب التناول، وإنما في العبارة الواحدة، وهناك تقارير بثتها «الجزيرة»، أمسكت مقدمي البرامج متلبسين بالخيانة المهنية، وكنا نتحدث عن «الاسكريبت الواحد» الذي يوزع عليهم كل مساء، قبل أن تكشف التسريبات عن أن الإعلام المصري يدار من مكتب سكرتير عبد الفتاح السيسي، اللواء عباس، والذي يعامل هؤلاء على أنهم ليسوا أكثر من خدم في «السرايا»، وعلى طريقة «الواد» و»البت»، وهو انحدار في مستوى «سكان السرايا»، فلا أظن أن هذه مفردات كانت تجد طريقها على ألسنة السابقين من سكانها، في تعاملهم مع الحاشية وخدم البلاط!

المانشيت الموحد
كان الصحفيون الكبار، يروون لنا ما كان يجري في الصحافة المصرية، على يد الرقيب الجاهل الذي فرضه حكم العسكر في سنة 1952، قبل تأميم الصحافة، من نوادر تضحك الثكالى، وكنا نظن لغرابتها أنها تنتمي لعصور الانحطاط التي تجاوزناها. وبعد التأميم كان الرقيب هو رئيس التحرير، المعين من قبل رئيس الدولة، لكن مهنية هؤلاء لم تكن محل شك، فقد كانت الطبخة الصحفية، التي تقدمها الصحيفة لقرائها كل يوم، تدفع القارئ إلى تجاوز «المانشيت»، فلم يكن أحد يشتري صحيفة لأن عنوانها الرئيس جذبه، فالعناوين واحدة تقريباً، لكن ليس بالنص كما هو الحاصل الآن. فرئيس الدولة يخطب، وكل صحيفة تختار من كلامه ما تراه الأفضل ليكون «المانشيت»!
وبطبيعة الحال يا «عبلة»، فإن الرؤساء كان لديهم ما يقولونه، حتى حسني مبارك على سوئه، لكن المستوى انحدر على كل المستويات، مستوى الرئيس ومستوى رؤساء التحرير، وقد بدأ الخيار الرديء في مرحلة جمال مبارك، عندما أتحفنا برؤساء تحرير يكتبون عن «البعرور»، كما يكتب أحدهم عن أنه لا يميل لاستخدام المنشطات الجنسية، وكان الأبرز هو صاحب مقال «طشة الملوخية»، واستمر الخيار سيئاً في المراحل التالية، بما فيها مرحلة الرئيس محمد مرسي، لأن في عهده كانت قاعدة الاختيار العامة، هو ما وصفته إبان حكمه بأصحاب القامات المنخفضة فلم يقم حكم الدكتور مرسي بأخونة الصحافة، كما كانت تعلن لميس الحديدي وأخواتها، ولم تكن اختياراتهم وفق قواعد مهنية، أو للانحياز للثورة ومعارضة النظام البائد، لذا فلما رأوا أن سفينة مرسي ستغرق، قفزوا على سفينة الانقلاب، وبالغوا في الانحياز له وتأييده وسب العهد الذي جعلهم رؤساء المؤسسات الصحافية، ومع ذلك تخلص منهم عبد الفتاح السيسي!
الجديد مع حكم العسكر الطبعة الحالية، أننا عدنا إلى مرحلة «الرقيب الجاهل»، ولا أظن أن الصحافة المصرية كانت تصدر في هذه المرحلة بمانشيت واحد، كعنوان «مصر تستيقظ»، كما لم يحدث في عهد مبارك على استبداده، أن تمت هذه الوحدة التي جمعت الصحافة الخاصة والحزبية على «قلب مانشيت واحد»، إلا في هذا العهد، الذي تحكم فيه مصر عن طريق سكرتير عبد الفتاح السيسي، عباس!
وفي الأسبوع نفسه، الذي وقف فيه العالم كله على الإعلام المصري في مرحلة ما بعد بعد الفضيحة، ومن خلال الاطلاع على تقرير «وليد العطار» بالجزيرة، كان تصريح لرجل الأعمال نجيب ساويرس، يكشف جزءاً من المشهد!

اعترافات ساويرس
فباعتراف ساويرس مالك فضائية «أون تي في»، أن المذيع الشاب بقناته «رامي رضوان» تلقي اتصالاً هاتفياً من أحد «أجهزة الدولة» طلب منه القيام «بشتيمة» الدكتور محمد أبو الغار، وقد فعل. وربما لهذا تم الاستغناء عن خدماته، ولأننا في ظل حكم «أجهزة الدولة»، فقد تم الإعلان على الفور عن عودة برنامج «البيت بيتك»، عن طريق فضائية جديدة، فالأجهزة تحمي المتعاونين معها، فهي وحدها من حقها الاستغناء عنهم، لكن لا يجوز لأحد أن يستغني عن خدمات متعاون مع الأجهزة، لمجرد أنه نفذ تعليماتها!
«البيت بيتك» كما تعلمون كان يقدم عبر التلفزيون المصري الرسمي، ولأن الشركة المنتجة له لصاحبها رجل أعمال شهير، تعثرت عن سداد مديونيات للدولة ولمؤسسات صحافية، فقد هرب صاحبها إلى لندن وتوقف البرنامج، لكن رجل الأعمال هذا لم يعد متعثراً الآن!
اصطلاح «أجهزة الدولة»، يقصد به الأجهزة الأمنية، فأي جهاز هذا الذي كلم «رامي رضوان» ليسب رئيس حزب، من ائتلاف 30 يونيو، لمجرد أن قال رأياً لم يعجب الآلهة، ونشره في مقال، مع أن أبو الغار عندما ردت عليه الرئاسة، امتن امتناناً كبيراً لذلك، لكن «الأجهزة» جميعها ضد ثورة يناير، وأبو الغار من الذين انحازوا لها، ولن تغفر له ذنبه، وإن صار من مؤيدي حكم العسكر الآن، لأن ولاء العسكر لمبارك وليس للثورة.
ليبق السؤال، كم عدد الذين فتحت عليهم الفضائيات النار، باتصال هاتفي من «أجهزة الدولة»، وكم من فتحت عليه النار يا «عبلة»، ليس في قرب محمد أبو الغار من نجيب ساويرس، أو كان صاحب القناة، ليس في قوة ساويرس، الذي يعامل دولة الانقلاب على أنه شريك، وليس من خدم البلاط؟!
تصريحات ساويرس منشورة في جريدة «المال»، ولم أستطع أن أهضم ما قاله عن أن سبب وقف برنامج «يسري فودة» راجع إلى نهاية عقده. فهل التعاقد الذي تنتهي مدته لا يجدد؟!… ولماذا مثلاً لا ينتهي عقد «جابر القرموطي»، أم تراه عقداً كاثوليكيا؟!

فودة متعلثماً
لقد ظهر «يسري فودة» في مقابلة تلفزيونية مع «محمود سعد»، وكان واضحاً أن في فمه ماء، فبدا وهو المعروف بتدفقه في الكلام كأنه منى الشاذلي عندما تتحدث من بطنها، فيخرج الكلام كأنه كلمات متقاطعة هائمة في الهواء تبحث عن مكانها في جملة لتستقر فيه، فتكتشف أنه لا جملة هناك!
كنت قد كتبت من قبل أن دراسة علمية أكدت أن المرأة لا تتكلم من بطنها، حتى لا يُحشر الكلام بجانب الجنين وهي حامل، لكن «منى» لا تسري عليها هذه القاعدة!
وعلى ذكر «منى الشاذلي»، فقد كان هناك ما يسمي بإفطار الخميس، الذي ينظمه مساعد وزير الداخلية لشؤون الإعلام، لمقدمي برامج «التوك شو»، يلقي عليهم فيه التوجيه لمدة أسبوع، ويترك التنفيذ لقدرات كل واحد منهم، ومع هذا فهناك من كان يتعامل مع بعضهم على انه المذيع المرموق الذي لا يمالئ النظام، وكأنه كان مسموحاً لمن ليسوا من رجال النظام بأن يكونوا مجرد ضيوف؟!
لكنه التوجيه الذكي، وليس توجيه عباس، في زمن انخفض فيه المستوى واختلطت فيه الأوراق وصار رجل الدين يقوم بدور القائد العسكري ويصدر أمره:»اضرب في المليان»، وأصبح عباس هو مفكر المرحلة وموجهها! والتوجيه لمقدمي البرامج مؤخراً هو المطالبة بإقالة وزير الداخلية محمد إبراهيم فبدا الأمر كما لو كان حملة استجاب لها رئيس الجمهورية مشكوراً.
«يسري فودة» كان مع محمود سعد خائفاً يترقب، وبتجميع كلماته الطائرة، يمكن القول إن المناخ السياسي لم يعد يتحمل أصحاب الصياغات المختلفة وإن كانوا من الذين ناصروا الثورة المضادة، وكانوا جزءاً منها وهم يصبون نيران مدفعيتهم على الرئيس المنتخب، ليمكنوا العسكر من إيقاع هزيمة بالثورة ويعيدوا حكم مبارك كامل الأوصاف. ولم يكن الأمر أمر عقد انتهى وغير قابل للتجديد، أو أن تجديده محتاج لموافقة الباب العالي في الأستانة!
إن الإعلام المصري يا «عبلة» في عهد عبد الفتاح السيسي وسكرتيره، سيدخل التاريخ، ولكن بظهره.
فهذه هي مصر يا «عبلة»… مبسوطة؟

_______________

*صحفي مصري

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه