الإعدام والقصاص

لم تكن الجماعات المرتبطة بالإسلام فقط هي التي يتناقض موقفها بشأن أحكام الإعدام فكثير من أصوات المسيحيين المصريين قد ارتفعت لتبارك

 

 حالة من الجدل الشديد وغير متوقعة ثارت بين كافة فئات الشعب المصري حول خبر تنفيذ حكم الإعدام في تسعة من الشباب بتهمة المشاركة في عملية اغتيال النائب العام، ومبعث الدهشة أن هذا الخبر جاء في حقبة زمنية تزايدت فيها أحكام الإعدام بشكل كبير بالإضافة إلى الأحكام بالسجن لمدد طويلة على المعارضين للدولة والاختفاء القسري والقتل خارج نطاق القانون، وهو ما فرض سؤالا حول سبب هذا الجدل والانفعال رغم أن كل الظروف المحيطة وتدهور الحالة الديمقراطية في مصر انتهت بنا إلى توقع مثل هذه الأحكام وأكثر؟

 الإعدام والقصاص

رغم أن كلا من الكلمتين يؤدي إلى معنى واحد وهو إنهاء حياة شخص إلا أن الإعدام ينطلق من مصدر قانوني والقصاص ينطلق من مصدر ديني وعقائدي، والموقف الشعبي الأخير من تنفيذ حكم الإعدام على الشباب طرح عدة أسئلة عن التناقض في موقف جماعات تؤيد القصاص لأسباب عقائدية وترفض أحكام الإعدام عندما تقترب من مجموعاتهم، ولكن ربما هم يقصدون خللا في الأحكام وتطبيق العدالة وبالتالي فهم يقصدون براءة المنفذ فيهم حكم الإعدام، مع عدم رفضهم تنفيذ الإعدام في الجناة الفعليين، ربما، ولكني أقف أيضا أمام هؤلاء لأوجه لهم أسئلة حول صمتهم على حالة الارتباك في تطبيق العدالة في المجتمع المصري والتي زجت بالكثير من الأبرياء في غياهب السجون وتم اكتشاف براءتهم بعد ذلك مثلما حدث مع الفنانة حبيبة التي قضت 15 عاما في السجن بعد اعترافها بالقتل تحت ضغط التعذيب وبعد كل هذه الأعوام تم اكتشاف براءتها، أتعجب من صمتهم على تخفيف حكم الإعدام على الراقصة شمس والثابت قيامها بجريمة قتل، أو العفو عن هشام طلعت مصطفى بعد صدور حكم إعدام بحقة لقيامة بقتل عشيقته، مظاهر كثيرة تشير إلى ارتباك في منظومة العدالة في مصر لم يتعرض لها أحد إلا عندما تقترب نيرانها من حدوده ومجاله، الشاهد أن شخصنة المواقف وتحديدها بحدود جماعات أو مجموعات وعدم الاهتمام بما يعرف بالصالح العام تسببت في أن يصبح الجميع فريسة سهلة وضحية لهذا الخلل القانوني.

الغرض مرض

لم تكن الجماعات المرتبطة بالإسلام فقط هي التي يتناقض موقفها بشأن أحكام الإعدام فنجد أن أراء أصوات كثير من المسيحيين المصريين قد ارتفعت لتبارك حكم الإعدام ضد الشباب التسعة باعتبارهم إرهابيين متطرفين دينيين وباعتبارهم قتلة والقاتل يُقتل بينما المفاجأة أن معظم الكنائس المسيحية بمختلف مذاهبها تدين الإعدام انطلاقا من بعض من تعاليم السيد المسيح التي ترفض عقوبة الإعدام في إنجيل لوقا وإنجيل مَتَى: «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر»، وفي دفاعه عن امرأة زانية قال: «من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر»

كما أن كثيرا من المذاهب المسيحية تدين القتل بصفة عامة ولا تقره تحت أي مبرر أو سبب ولا تعترف به كعقوبة فنجد في الوصية السادسة «لا تقتل»!!

إذا الأمر هنا يتعلق بالهوى الطائفي سواء كان إسلاميا أو مسيحيا فكل يغني ليلاه دون الاهتمام بالمبدأ العام أو كما يقولون في العامية المصرية «الغرض مرض»، فإذا أضفنا لهذه المشاهد العقائدية المبتسرة مشهدا أكثر تناقضا للدولة والقانون سندرك مدى ارتباك العدالة وخاصة فيما يخص عقوبات الإعدام، وهذا المشهد الأخير يتمثل في صدور حكم قضائي يوم السبت الماضي بإحالة أوراق الراهبين أشعياء المقاري، وفلتاؤوس المقارى المتهمين بقتل الأنبا إبيفانيوس رئيس دير الأنبا أبومقار بوادي النطرون، إلى فضيلة المفتي.

وهنا عدة تساؤلات، هل القانون المصري يستند على قواعد مدنية وليست دينية، ولو كان كذلك لكان الحكم قد صدر مباشرة دون الإحالة لفضيلة المفتي وهو منصب ديني، أما إذا كان القانون يستند على الشريعة الإسلامية ويلزم إحالته للمفتي فالأمر هنا يفرض تساؤلات أخرى حول حق تطبيق شرع الدين الإسلامي على مواطنين يدينون بدين آخر، وخاصة أن الجريمة كل أطرافها ومكانها مرتبطين بالكنيسة ولا علاقة للمسلمين بها، فما دور مفتي المسلمين في هذا الأمر؟

العدالة المذبوحة

والحقيقة أنا لا أستهدف مناقشة التناقضات في القانون المصري بين القواعد المدنية والشرع الديني، وذكرت ما ذكرته في الجزء الأول من المقال لإلقاء الضوء على بعض التساؤلات التي تدور في ثنايا المجتمع المصري والذي لا يجد سكانه منفذا للتعبير عن ما يجول في خواطرهم، ولكنني بالأساس أريد مناقشة المشترك بين الجميع والذي يتعلق بفقدان الثقة بين المواطنين والقضاء ليس فيما يتعلق بأحكام الإعدام فقط، وحالة الترويع المفروضة على المصريين من مناقشة أحكام القضاء والاعتراض عليها والهيبة والأبهة المبالغ فيها والتي يحاط بها القضاء حتى إن القاضي يمكن له حبس أى مواطن داخل المحكمة سعل أثناء المحاكمة، وحيث ترى مشهدا متكررا وقاضيا يدخل المحكمة وأمامة رجال ينحنون ويوسعون له الطريق وكأنه إله، و مثلا إذا قدر لك السير في شارع عبد الخالق ثروت ستجد انضباطا مروريا مبالغا فيه ولا يمكن لصاحب سيارة الانتظار دقيقة لنزول شخص من سيارته، وفي وسط هذا الانضباط المبالغ فيه تجد ركن فيه السيارات واقفة ثلاثة صفوف في شكل نشاز وقميء ورجال المرور يقفون أمامها مستسلمين مخرجين طاقتهم على المواطنين، إنه ركن سيارات القضاة أمام نادي القضاة حيث إنه مسموح للقاضي في مصر بمخالفة القانون والإعفاء من أي غرامة في أي مجال!!!

فقدان الثقة

ومن أهم أسباب فقدان الثقة في العدالة هو ضياع حقوق الناس في المحاكم بسبب طول فترات المحاكمات واختلال منظومة إعمال العدالة وهي ليست من رجال القضاء فقط حيث إنها منظومة تبدأ من أقسام الشرطة مرورا بالنيابة وموظفي النيابة والمحكمة والمحضرين وغيرهم، وعدم خضوع كل هذا لرقابة حقيقية، مما يتسبب في ضياع الكثير من الحقوق، والأهم هو حالة المبالغة في إصدار أحكام قضائية مغلظة ضد المعارضين لنظام الحكم وتبرئة الفسدة من رجالات النظام الذين تورطوا في قضايا فساد أو تمت إحالتهم للمحاكمات تحت ضغط ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011.

وأصبحت الأحكام في مصر وخاصة أحكام الإعدام والسجن مددا طويلة بحق المعارضين للنظام مبعث قلق ليس في مصر فقط وإنما على المستوى الدولي ففي يوم الجمعة الماضي قال روبرت كولفيل، المتحدث باسم المفوضية الأممية، في بيان نشر على موقعها الإلكتروني «هناك سبب كبير للقلق من احتمال عدم اتباع ضمانات الإجراءات القانونية والمحاكمة العادلة في بعض أو كل هذه الحالات».

وقال: إن خمسة عشر شخصا تم تنفيذ حكم الإعدام فيهم في شهر واحد جميعهم زعموا أمام المحاكم أنهم قد اختفوا أو احتجزوا بمعزل عن العالم الخارجي لفترات طويلة، وتعرضوا للتعذيب لكي يعترفوا بجرائمهم، وأن الادعاءات الخطيرة المتعلقة باستخدام التعذيب لم يتم التحقيق فيها بشكل صحيح.

وأكد أن البلدان التي لا تزال تسمح بعقوبة الإعدام يجب أن تفي المحاكمات فيها في حالات عقوبة الإعدام بأعلى معايير الإنصاف ومراعاة الأصول القانونية لضمان عدم حدوث أي خطأ في العدالة، ما يؤدي إلى حرمان الأبرياء من حقهم في الحياة.

وحثت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، السلطات المصرية على وقف جميع عمليات الإعدام، وإجراء استعراض لجميع الحالات المعلقة التي تنطوي على عقوبة الإعدام، وفقاً للالتزامات الدولية في مجال حقوق الإنسان.

والشك في عدالة القضاء هنا أمر طبيعي ومشروع في ظل وجود قاض يقوم بإصدار حكم بإعدام 529 شخصا في قضية واحدة وفي ظل وجود قاض يحكم على شخص كفيف بالسجن بتهمة قنص ضابط، وفي ظل وجود قاض يحكم على 25 شخصا بالإعدام دون السماح للدفاع بالمرافعة عنهم، وفي ظل وجود قضية كان أحد المتهمين فيها طفل رضيع ذهبت قوات تنفيذ الأحكام للقبض عليه، ونوادر وحكايات كثيرة تفوق أي خيال وأي مبالغات.

وفي مقابل كل هذه التجاوزات في حق المجتمع يقف مبدأ عدم مناقشة أحكام القضاء أو انتقاد القضاة أو لومهم أو التحدث بشأنهم شاهرا سلاح السجن والتنكيل والتشريد أمام من تسول له نفسه للقيام بأي من هذه الأمور؛ حيث ينص قانون العقوبات على عقوبة الحبس مدة لاتتجاوز ستة أشهر وبغرامة لاتقل عن خمسة آلاف جنيه ولاتزيد على عشرة آلاف جنيه أو إحدى هاتين العقوبتين لكل من أخل بمقام قاضي التحقيق أو هيئة أو سلطة، وبتطبيق ذات العقوبة لكل من أهان أو سب مجلسي الشعب أو الشورى أو غيرهما من الهيئات النظامية أو القوات المسلحة أو المحاكم أو السلطات والمصالح العامة.

والسائد أن مناقشة أحكام القضاء أو تناولها بالنقد يعد من الأمور المجرمة في مصر، وفي الوقت الذي فيه يجرم القانون أي تصرف يعتبر إهانة لمجلسي الشعب أو الشورى أو غيرهما من الهيئات النظامية أو القوات المسلحة أو المحاكم أو السلطات والمصالح العامة، نجده فقيرا جدا في المواد القانونية التي تحمي المواطن من الظلم والبطش والانتهاك من هذه الجهات، وإذا وجدت بعض القوانين الشكلية تتعلق بهذا الأمر، تصاحبها تعقيدات شديدة في التنفيذ والإثبات.

ويل لقاضي الأرض من قاضي السماء

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة، ناصيته ورأسه بيده، وأوداجه تشخب دماً، فيقول: يا رب، سل هذا فيم قتلني؟ حتى يدنيه من العرش»

لا أستطيع أن أفهم المرجعية المنطقية لتحصين القاضي من الانتقاد والمراقبة والمتابعة والمناقشة وهو يحكم في مصائر ومقدرات بشر وأرواحهم، وماحجم قامة أعظم قاض في زماننا بجانب قامة الفاروق عمر بن الخطاب الذي ناقشته امرأة فقال أصابت امرأة وأخطأ عمر، بل إن المولى ذاته لم يتكبر عندما ناقشه عبده ونبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام وقال له «أرني كيف تحيي الموتى» ولم يغضب الله منه وأجابه سؤاله برفق وعظمة الخالق، من هو هذا القاضي أو النائب أو الضابط الذي يضع نفسه في مرتبة أعلى من مرتبة الله سبحانه وتعالى، فيحاسب من يناقشه

ولكنه الجبروت الذي يعمي الأبصار والبصائر فيهلك صاحبه مثلما أهلك النمرود وقارون وأقواما دمرها الضلال والكبر والطغيان.

إذا جــار الأمیر وحاجباه * وقاضي الأرض أسرف في القضاء

فویــل ثم ویـل ثم ویـل * لقاضي الأرض من قاضي السماء.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه