الإعجاز اللغوي في الجملة السيساوية

 قرأت منذ فترة مقالاً في موقع الجزيرة لصحفي فلسطيني يمتدح فيه الفصحى التي تكلّم بها الرئيس التونسي الجديد ووصفه بأنّه الرئيس العربي الوحيد المفوّه

قد لا يقارن الرئيس التونسي بأيّ رئيس عربي آخر في فصاحته، لكن للفصاحة أوجه في اللغة العربية لم يمتلكها أحد كما امتلكها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي

والفصاحة التي أعنيها لا تخص قواعد اللغة في مبناها اللغوي بل في معناها. وقد قام السيسي بتبسيط المعاني في خطاباته بشكل صادم.

المفهوم الديني لكلمة “الله”

بوصف السيسي بفيلسوف وطبيب الفلاسفة فهو يدرك جيداً أنّ الشعب البسيط لا يمكنه فهم المعاني العميقة لخطابه لذا بذل جهداً في إيجاد شكل شعبي مناسب يصل به إلى قلوب النّاس وعقولهم ببساطة كأن يصور الله سبحانه بشكل بشري في إحدى جمله المعجزة حين قال “أنتوا بتصدقوا أنو في حد يقدر يخدع ربنا؟ حد يقدر؟ طيب، يا ترى ربنا بيساعد المفسد ولا الصالح؟ فهو مطلع… فآآآآآ… فلأ ربنا…. بسم الله ماشاء الله يعني”

ويتمثل الإعجاز السيساوي هنا في الازدواجية التي صوّرت الله سبحانه فيها، وكأن الله هنا خارج من صفحات التوراة يصارع نبياً ويخبر آخر بأنّه يحبُّ رائحة الشّواء. وكأنّما ثمّة أحد ما أو إله ما يمكن أن يخدع ربنا. هذا الإيحاء بوجود إلهين لم يقصده السيسي بالتّأكيد لكن إرسال الكلام بشكل عفوي ومن دون تحضير مسبق يكشف خبايا النّفس ويورط القائل بطرح أحاسيسه الحقيقية من دون أن يدري.

السيسي وعلامات الترقيم

لعلامات الترقيم أهمية كبيرة في اللغة العربية فهي تساعد القارئ أو السّامع على إدراك المعنى بشكل أفضل وأوضح وتمنع الالتباس الذي يحصل أحياناً.

والوقوف عند علامات التّرقيم يجعل الجمل مترابطة المعنى، فلا يشعر السّامع بالغموض أو اضطراب المعنى. وهذا ما برع به الرئيس السيسي في كلّ خطاباته تقريباً، فهو يستخدم النقطتين في وسط الكلام والثلاث نقط في آخر جمله. النقطتان في وسط الكلام تستخدم كفاصل بين الجمل، وتعبّر أحياناً عمّا أسقط من الكلام عمداً ويعرفه القارئ أو المستمع. يستخدمها الشّعراء والعشاق لترك الفرصة لمخيلة الآخر كي تضع الكلام المناسب في الفراغ! أمّا النقاط الثلاث في آخر الجملة فتستخدم (للاختصار والإيجاز، وتوضع بدل الكلام المستقبح ذكره).  

يترك السيسي المسافة للمستمع المتابع لخطاباته ليردم هوة النقاط بثقافته ومعرفته بما ذهب إليه الرئيس أو قصده في كلامه. مثال ذلك قوله: (اللي اتعمل للجيش فوق الخيال، دا ترتيب الجيش الـ…)
يصفق الحاضرون، لم يذكر السيسي الرقم لكنّ التّصفيق يوحي أنّ المصفقين قد فهموا ما يعنيه وهو أنّ الجيش في مرتبة متقدمة قد يكون الأوّل أو الثاني.. عدم ذكر الرقم فيه إيحاء بالتّفوق والعظمة فلو ذكر الرقم لوقع في المباشرة، والمباشرة في الكلام لا تترك الأثر نفسه في المستمع الذي يتشوق لسماع ما يتمنّاه! لكن هناك بالتّأكيد من يعرف وقرأ في السوشيال ميديا أنّ ترتيب الجيش هو “12”

ليس ضرورياً أن يذكر الرئيس الرقم، فمن باب الإعجاز أن يترك ذلك للمواطن المستمع ليبحث ويعرف، وقبل ذلك يصفق كي لا يظن به الرئيس الجهل!

سقطات اللسان:

يقع السيسي أحياناً في فخ الإيحاء بأشياء لا يريد قولها لكنّ كلامه يشير إليها بوضوح، ففي إحدى خطبه قال:

(اسمعوها مني حتى هم دلوقت كل الدنيا _ولا إيه؟_ بيقولك لأ اسمعوه، مين كل الدنيا؟ خبراء المخابرات؛ والسياسيين؛ والإعلاميين؛ وكبار الفلاسفة لو حبيتوا، ابتدوا يفهموا الكلام اللي احنا منقوله أنو كلام نقي وشريف وأمين ومخلص ما فيش منه هدف غير المصلحة حتى لو كانت مصلحة إنسانية!)

ما يهمنا من كلّ الكلام الجملة الأخيرة “حتّى لو كانت مصلحة إنسانية” وهذه تعني أنّ المصلحة التي قصدها الرئيس مصلحته هو غير الإنسانية، نهب الشعب وإفقاره وتجويعه وإرهابه. ولا بأس أن تكون هناك مصلحة أخرى “إنسانية” وتلك لن تكون أبداً.

التّطور الدلالي في خطابات السيسي

تطورت اللغة العربية عبر العصور واختلفت دلالة الكلمات باختلاف الزمن، اللغة _كما يعرّفها بعض العلماء_ كائن حي قابل للتطور والاختلاف في مراحل حياته. واللغة أيضاً ظاهرة اجتماعية تتغيّر وتتبدل في مختلف عناصرها (أصواتها، قواعدها، متنها، دلالاتها) والتّطور الدّلالي أحد جوانب تطور اللغة من حيث المعنى، والمعنى هو علاقة متبادلة بين اللفظ والمدلول، يقع التّغير في المعنى عندما تتغير العلاقة بين اللفظ ودلالته وذلك بإضافة مدلول جديد إلى لفظ قديم، أو لفظ جديد إلى مدلول قديم، ويحدث ذلك بشكل متعمد أحياناً وهو ما تقوم به المجامع اللغوية أو الهيئات العلمية، وهذه لا تلقى أهمية و لا تقوم عليها الدّراسات بل على تلك التّغيرات التي تحدث بعفوية من دون قصد ولا تعمد. وعليه يمكننا دراسة الدّلالة التي حدثت على لسان الرئيس في أحد المؤتمرات حين قال: “عايز ولادي ينظر لهم بالبنان”

في سابقة فريدة طور الرئيس السيسي استخدام كلمة بنان وجعلها للنظر بدل الإشارة وهذا يندرج ضمن الاستخدام الشّعري المباح فما يحق للشاعر _بالتّصرف في اللغة_ لا يحق لغيره، وهنا يبدو أنّ السيسي ليس طبيباً وفيلسوفاً فقط بل شاعر أيضاً جعل للعينين أصابع تشير إلى أولاده!

وقد تفوق السيسي على الشاعر أحمد فؤاد نجم الذي كتب قصيدة “البتاع” واستخدم الكلمة في دلالات عديدة ضمن سياق القصيدة والتي قال فيها: “يبقى البتاع بالبتاع والناس صايبها ذهول، وان حد قال دا البتاع يقولوا له مش معقول، وناس تنام ع البتاع وناس تنام كشكول، وناس تعيش بالبتاع وناس تموت بالفول”

السيسي أيضاً نسج على منوالها:

“الحكاية كانت كده واحنا كنا كدة وبالرغم من كدا عملنا كده ودي المعجزة”!

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه