الإرهاب في تونس

د. نور الدين العلوي*

مرّ الإرهاب في تونس إلى السرعة القصوى في أرض إفريقيا المزدهية بسلامة بنيانها الاجتماعي فكشف زَهْوَهَا المغرورَ وهشاشة بنيانها السياسي والاجتماعي وهو يتقدم الآن في أرض سياسية رخوة. يصر الإرهاب على التسميات فيستعيد اسم افريقيا ويؤكد انتماءها بالتسمية إلى أرض الإسلام التي يتخيلها، ويعلن الانتماء إلى عقبة بن نافع الذي فتحها. ولكنه يضربها الآن في القلب فيديمها ضمن خطته في السيطرة وإعادة الفتح والقضاء على الكفر الصراح في أرجائها ولا يستثني من الكفرة إلا نفسه.
في الثامن عشر من شهر مارس 2015 شهدت تونس أفظع العمليات وأخطرها حتى الآن إذ نتوقع المزيد. وتوجهت الضربة إلى القطاع السياحي بالدرجة الأولى ولا نعلم بعد هل الهدف الأول والأصلي كان السياحة أم كان مجلس نواب الشعب المجاور للمتحف هو المستهدف فلما عجز المهاجمون دونه غيروا الهدف؟.
لكن بقطع النظر عن التفتيش في نوايا المنفّذيْن والحيثيات التقنية للتسلل لمكان سيادي محروس وسهولة حركتهما وإثخانهما في الناس ننظر فنرى البلد في حالة من الرخاوة والهشاشة المنذرة بأن الإرهابيين  يمكنهم أن يفعلوا ما يشاؤون دون عناء ووجوه هذه الهشاشة كثيرة ومتعددة سأعرض في هذه الورقة لبعضها ولن أستوفى كل المشهد المرتبك.
1. الهشاشة الأمنية المفزعة.
لا أتحدث حديث الخبير الأمني في حيثيات العملية وخاصة أني لم أكن شاهد عيان ولكن. سهولة الاختراق إذا لم نفسرها بالتواطؤ فهي قابلة للتفسير بالتهاون والغفلة وغياب الخطة الأمنية الفعالة.
لقد خفت القبضة الأمنية على كثير من المواقع التي كانت مؤمنة في عهد حكومات الترويكا ومنها المتحف ومقر المجلس.
 لقد فسّر البعض الارتخاء تفسيرا تآمريا بأن الأجهزة العارفة بمصدر الإرهاب الحقيقي قد قررت أن الإرهاب المصطنع استنفذ أغراضه السياسية وبالتالي لم يعد هناك داع للمزيد من التشدد. لكني أميل إلى نفي هذا الطرح وأرجّح أن اللّحظة لم تقدّر بشكل سليم فغُدِرَت إذ وَثِقَت كما حصل في حادثة السفارة الأمريكية.
قد يكون هناك نقص في المعلومة الاستخبارتية أدى إلى سوء تقدير للموقف، ولكن يظل السؤال يؤرق الجميع رغم استبعاد التحليل بسوء النية. هل كان الإرهاب يراقب ويقدر الموقف بدوره أم له قنوات مدته بالمعلومة؟.
وما هذه إلا بعض أسئلة الشارع التونسي الذي اهتزت ثقته بالأمن في الوقت الذي كان يجب أن تتدعم وتثير التضامن الشعبي الكامل مع الأجهزة.
 هذه الثقة تلقت ضربة كبيرة صبيحة 19 مارس أي بعد 24 ساعة  من تطهير المكان وإعلانه آمنا وإعادة فتحه للزيارة  نكاية في الإرهاب لقد تبين أن هناك ثلاثة أشخاص منهم سائحان وعامل بالمتحف قد قضيا الليلة بالمتحف متخفين. وهو علامة فارقة على تقصير تقني كان يمكن تلافيه  باستعمال كلاب مدربة أو بأجهزة بسيطة لاكتشاف الحرارة لا نعتقد أن الداخلية تفتقدها مهما قيل عن سوء التسليح أو التجهيز. هل هو نقص الدربة أم هو نقص المعدات أم الثقة الزائدة في النفس أم بكل بساطة التهاون وغياب الجدية التي تطبع الآن كل  أجهزة الدولة وتميِّع العمل وتستهين بعواقبه. وهل يساعد هذا في رفع منسوب الثقة في هذه الأجهزة والاطمئنان إليها في مقاومة  آفة الإرهاب؟
عوض توجيه النقاش في هذا الاتجاه يفتح باب تقوية الأمن بجهاز قانوني يطلق يده خارج حقوق الإنسان قانون الإرهاب هو المطلوب فإذا كان القانون إلى جانبك فلست تحتاج الأسلحة قليلها يغني عن كثيرها ولكن ليس في مقاومة الإرهاب بل في مقاومة  طموح شعب إلى الحرية وهذا يزيد من تغول الأجهزة ويقضى على الحرية وهو ما تريده الأجهزة أو ما يراد لها أن تقوم به فالفساد يعيش بالقهر ويموت بالحرية. وهنا تعود أطروحة المؤامرة الإرهابية إلى الظهور ويزيد  توجس الناس من الأمن وتزداد الهشاشة لأن العلاقة  لم تعد قائمة على الثقة بل على الريبة المطلة.
تلك القطيعة المتعمدة بين رجل الأمن وبين المواطن كانت وسيلة الدكتاتورية وسلاحها. ولكنها كانت قاعدة لهشاشة الدولة أيضا. ولذلك طرحت الثورة بناء الأمن الجمهوري فلم تفلح وعادت الأجهزة إلى طبيعتها التي تربّت عليها. وستعمل قضايا الإرهاب كذريعة قوية لكي يعود كل شيء لما كان عليه بما في ذلك استعادة صيغة بن علي من قانون الإرهاب دون تعديل. 
2. الهشاشة السياسية المستدامة
في قمة الألم والخسران الذي سببته العملية الإرهابية عاد خطاب التوريط والاستثمار السياسي من طاقم الرئيس ومن مجموعات اليسار الاستئصالي الذي ما انفك يتسقط عورات الإسلاميين ومن تحالف معهم زمن الترويكا فإن لم يجدها اصطنعها.وركب خطابه على تحميلهم المسؤولية. هكذا تم في كل العمليات الإرهابية جميعها ورغم أن النهضة خرجت من موقع السلطة الأول فإن خطاب التوريط استمر أشدَّ من سابقه .والغاية مكشوفة ولا تحتاج إلى سؤال لماذا.
كل القراءات تنتهي إلى أن نجاح النهضة السياسي يعني نهاية اليسار الاستئصالي. وذلك لتناقض الأطروحتين الفكريتين للتيارين. والهدنة المعلنة عبر مسار التوافق بعد الثورة هو عملية تأجيل المعركة الحاسمة بينهما وإدارتها مؤقتا بشكل سياسي دون مواجهة مباشرة تذكّر بما حصل في أول عهد بن علي. حين تحالف اليسار مع الحزب الحكام وصفُّوا النهضة لمدة ربع قرن.
هذه معركة لم تكن على جدول أعمال الثورة لكن الوقائع/التناقضات/ المؤامرات/ دفعت إلى هذه الوجهة والعملية الإرهابية لم تؤدِّ إلى تحالف بين العدوين من أجل استبعاد عدوٍّ ثالث يستهدف الجميع لكن اليسار المسيطر على وسائل الإعلام وجُّه نتائج الضربة سياسيا ضمن معركته الأزلية لتوريط النهضة والرئيس المرزوقي رغما خروجه من السلطة.
سيتواصل الأمر مع كل عملية وهو ما يزيد من الهشاشة السياسية في مفاصل المجتمع ويوهن الدولة في لحظة مفصلية من تاريخها عن أداء مهمتها في الأمن فالدولة لا تحارب الإرهاب بمجتمع متناحر وقد رأينا تجارب كل الدول وما حادثة شارلي منا ببعيد. أن الكتل السياسية والحزبية والمنظمات تتجاهل صراعاتها العادية وتركز كل الجهد خلف الحكومات بما يقويها في معركة ضد عدو مجهول ولكنه شديد الإيذاء. تونس تعيش اللحظة أشد أوضاعها السياسة هشاشة فطبقتها السياسة تتناحر استثمارا في الدم.وحكومتها عاجزة عن المبادرة والاستباق. واختبار الإرهاب داخل المدينة كشف عورات الجميع خاصة وأن السياسي يستعمل في هذه اللحظة  كمهرب من طرح مشاكل البلد الاقتصادية.
3. الهشاشة الاقتصادية المزمنة.
هنا مدار المعركة وهنا مفاتيحها. لقد ظهر جليا أن ليس لهذه المرحلة من خارطة ولا لهذه الحكومة من تصورات فعّالة للخروج من الأزمة الاقتصادية التي تخلد جزء من أسبابها من سياسة الفساد ثم تفاقمت بفعل الضغط النقابي على حكومات الترويكا المرتعشة التي جبنت أمام نقابات اليسار. يقف الاقتصاد على حافة الهاوية وتتأجل المطالب الاجتماعية كل يوم وترتفع مؤشرات الخيبة في النفوس. سارعت الحكومة إلى الاقتراض والتداين تحت شروط تقليص الاجتماعي تحت الحد الأدنى. ورغم انخفاض أسعار النفط فإنها تهدد بزيادة الأسعار. ويعتبر اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوربي الذي أمضاه وزير خارجية يساري المنشأ والهوى كارثة حقيقية على مستقبل البلد حتى انه لم ينشر في الجريدة الرسمية.
تعمل العمليات الإرهابية كمنقذ مؤقت من ضغط السؤال الاقتصادي وتتم الإجابة في مكان آخر باستصدار قانون الإرهاب بصيغته القديمة. ويمنع الربط المنهجي  بين الإرهاب والفقر.فتظهر النتيجة  معزولة عن أسبابها فتتم الإجابة  بالدعوة إلى الوحدة الوطنية  ضد الإرهاب وتخْوِين من تسوّل له نفسه التفكير في إرساء منظومة الحريات قبل المسارعة  إلى  ترسيخ جهاز القمع باسم حماية الوحدة الوطنية.
4. الهشاشة المركبة
هذه تونس فجر ذكرى الاستقلال الستين. حائرة بين رغبات كثيرة  وضرورات فرضت عليها فرضا. يشعر الصحافيون فيها أنهم قد بُشِمُوا بالحرية فيرفضونها لكنهم يواصلون اللّغو الإقصائي وزرع بذور الاحتراب الأهلي على أسس إيديولوجية بين المكوّنات السياسية تماما كما تربوا تحت حكم الدكتاتورية فيفرضون المعارك الخاطئة على اللّحظة.ويحرفون لحظة الوعي بالتغيير الحقيقي المطلوب من الشارع المفقر  والمنتظر لمكرمات الثورة التي أطلقها. بما في ذلك ترسيخ الاستقلال الذي يمرّ كذكرى حزينة بلا شوق إلى شيء. وترابط النخبة فيها تحت جدار الانتظار علَّ شيء في مكان ما يقع ليزيد في رواتب الموظفين الكبار. بينما يعبث أمنها بكرامة مواطنيه مستعيدا تقاليد الارتشاء والابتزاز في الطرقات الخلفية ويتخفي أمام دواعش الإرهاب الرّعناء.
قدر ما سيشكل الإجابة عن السؤال إلى أين تسير تونس فنخبة هذا البلد المخولة بالإجابة تربت على تبرير عجزها والتظاهر بالغيرة على الوطن. هذه النخب هي التي جعلت أرض السياسة رخوة فسار عليها الإرهاب وضرب حيث أراد

_________________

*كاتب تونسي- استاذ علم الاجتماع

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه