“الأمن القومي” في مواجهة كورونا

الأمن المصري يفرق أهالي قرية "شبرا البهو" التي رفضت دفن جثمان الطبيبة المتوفاة بكورونا

أظهر وباء كورونا المستجدّ اختلالًا في تحقُّق الأمن القومي، بمفهومه الواسع، في دولٍ عظمى، وليس فقط في الدول المتواضعة الإمكانات والبناء.

وقد أحرج هذا التفشِّي للوباء الخطير صُنّاعَ السياسة والمسؤولين في دول  كبرى، كأمريكا ودول الاتحاد الأوربي، حين أصبح القلق حقيقيًّا وملموسًا من انهيار النظام الصحِّي؛ ففي أمريكا ظهر التقصير في إجراء الفحص المشخِّص للمرض، بالقدر الكافي، فضلًا عن الوصول إلى علاج، أو لقاح، كما جاء في تحقيق لمجلة ذي أتلانتك الأمريكية، و قارن بين عدد الفحوص في  كلٍّ من الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية؛ لتظهر الأرقام الفارق لصالح كوريا الجنوبية، في عدد المواطنين الذين حَظُوا بالفحص.
علمًا بأن مثل هذا الوباء لم يكن غائبًا عن توقُّعات الباحثين، وحتى المسؤولين في إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب الذين أُطلِعوا على مخاطر حدوثه، قبل فترة كانت كافية لتعزيز البحوث لمواجهته، أو استباقه. ولا يخفى أن ذلك يكشف عن الهاجس الأهم لقسمٍ لا بأس به من السياسيين، وهو الإنجازات الملموسة والراهنة، دون التورُّط في بذل جهود وميزانيات قد لا تظهر نتائجُها، ولا تكون قابلة للاستثمار، على نحو مضمون.
وهذا يُظهر خللًا أكبر في أجهزة الدولة الأمريكية، ولا سيما في عهد ترامب، وانعكس هذا في تدنِّي منسوب الثقة في إدارته، وفق ما نقلت NPR الإذاعة القومية العامة، بأن 60% من الأمريكيين لا يثقون في ترامب والحكومة الفيدرالية، فيما يتعلق بتصريحاتهم بشأن فيروس كورونا.
فالخلل يكمن في نقصان الفاعليَّة الكافية عن أجهزة الدولة، بما يكفي لتلبية احتياجاتها واحتياجات المواطنين الحيوية، وذلك وقت الحاجة الملحّة والعاجلة لتلك الفاعليَّة؛ بسبب قدرة الرئيس على استخدام سلطاته، بما يطغى، أحيانًا، على الاختصاصيين في جهاز الصحة.

لطالما تناول مفكرون استراتيجيون مفهوم الأمن القومي، ومنهم أمريكيون تحدَّثوا عن غياب الأولويات الحقيقية، مقابل ما يصنعه السياسيون، ويروّجون له، ويضخّمون خطره.

ومن هنا كثرت التساؤلات في الآونة الأخيرة، عن تلك الترتيبات المُخلّة، وَفْق المصلحة الأمريكية، مثلا، حين تنهمك إدارة ترمب، في حروب اقتصادية، أو في ملاحقة دول لا تشكّل خطرًا كبيرًا على الولايات المتحدة، أو مُلحّاً، كإيران مثلا، وتترك الجهاز الصحي ومتطلَّباته يعاني مثل هذه الحالة القاصرة.

وليس الحال في إسرائيل، دولة الاحتلال، بأحسن، طبعًا، فقد أصبح القلق من انهيار النظام الصحِّي قائمًا، وثمة مناشدات من مستشفيات إسرائيلية بالتبرُّع لشراء موادّ الفحص اللازمة. وبالطبع هذا يكشف عن أولويات الأحزاب الصهيونية والدينية المتطرِّفة، وأولويَّات الطبقة الحاكمة، وعلى رأسها بنيامين نتنياهو المنهمك في تثبيت نفسه، أمام مهدِّدات بقائه، قضائيًّا، وسياسيًّا.

أما عندنا، فقد اختارت بعض النُّظُم العربية، كما في مصر، و(سورية المحاطة بدول مصابة)، لفترة من الوقت، وهي الفترة المهمة، أن تتعامى عن الوباء، وحاولت ما وَسِعَها ذلك، التغطية عليه، حتى اتسعت دائرة انتشاره، للأسف. كما في خبر صحيفة النيويورك تايمز التي قالت إن مصر لا تزال أكبر مصدر لفيروس كورونا، فيما يتعلق بالسفر إلى الولايات المتحدة. وفق آخر إحصاءات الصحيفة، نقلًا عن مسؤولين محليِّين بالولايات المتحدة. 

وهذا المنحى إمَّا أن يدل على استخفاف الدولة بمواطنيها، وإمَّا أنه يدل على ضعف ثقة تلك النُّظُم في نفسها، أو على الاثنتين معًا؛ فالأولوية ومعاني (الانتصار) ليست هنا؛ ليست في إبداء المسؤولية المطلوبة، وفي الوقت المناسب؛ لأن ذلك قد يتطلَّب تعديلًا في السياسيات، ليس من السهل على بنيتها الأمنية (القاصرة على القمع والملاحقة) الوفاء بها.   

والآن، وحين قارب الوباءُ المستوياتِ العليا في  كثير من الدول، (فهو إن لم يصب المسؤولين فقد أصبح يهدِّدهم، وأصبحوا مجبرين على الانعزال. كما حصل في الولايات المتحدة، مع وزير الدفاع، وغيره)، يمكن أن يقال إن هذا الفيروس (الأكثر عدلًا)  يدفع إلى إعادة نظر، في جَسْر الفجوةِ بين النظرية والتطبيق؛ بين المفهوم النظري  للأمن القومي، والذي يتطلَّب الوفاء بكل عناصر أمن المجتمعات والأفراد، وعلى رأسها المتطلَّبات الصحية، وبين وضع تلك العناصر في صلب الموازنات، والخطط الفعلية.

فبدلًا من مراعاة التقاليد السياسية السائدة، والأولويات التي تقِّدمها جماعاتُ الضغط، وأصحاب رؤوس الأموال، أصبح من غير الممكن تجاهل ذلك الترابط الحتمي بين جوانب الأمن القومي كافة؛ ذلك أن الإصرار على ذلك السَّلم المختل، لا يفضي فقط إلى تهديد قطاعات من الشعب، بل إنه يسمح باختلال مكانة الدولة، فأمريكا، اليوم، أصبحت أكثر انعزالًا، وأقلَّ ريادة، على مستوى العالم؛ فلم تظهر بمظهر الدولة القوية القادرة على مساعدة الدول الأقل قدرة، وهذا يتيح، كما لفت النظر محللون غربيُّون، المجال لإعادة بناءٍ للموقف الدولي، والسماح للصين، مثلا، بتلقّي دفعة لافتة، عالميًّا، حين أظهرت قدرتها على الانخراط الإيجابي في احتواء الوباء، ومساعدة  دول أوربية، كإيطاليا، وصربيا، في التخفيف من حدَّة الكارثة الصحية، والاقتصادية التي تواجهها.

وهنا تتعانق العوامل الإنسانية مع  عوامل أخرى، منها الاقتصادية والعلمية، والجيو استراتيجية. ففي وقت اختارت الولايات المتحدة مزيدًا من الانكفاء، والأُحادية، يأتي الوباء ليُظهر عَوار هذه التوجُّهات، مقابل التعاون الدولي، والاعتماد المتبادل.

ومما لا يخفى أن آثار اختلال الأمن القومي، بمفهومه الشامل، لا تقتصر على الدولة ومكانتها، ولكن تتعدّاها إلى المجتمع، وإحساس أفراده، فمثل هذا الارتباك، ولا سيِّما إن طال، يُلقي بظلاله على مجمل القيم المجتمعية؛ فضعف الثقة في الدولة وقدرتها على مواجهة الاخطار، وفي مقدِّمتها الصحية، يربك المنظومة الأخلاقية، والشعور بالسِّلْم الاجتماعي، ويترك المجال واسعًا لحالات من الفوضى  المدفوعة بالأنانية الضيِّقة، والقلق على المصير.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه