الأمن القومي المفترى عليه

من المساخر أن دويلة الإمارات هي التي تضع رؤية الأمن القومي لمصر، وأصبح طابور الإمارات من السياسيين المستفيدين والموظفين التابعين دعاة لنظريات جديدة لأمننا القومي

 

في الفترة الأخيرة يتردد مصطلح الأمن القومي على كل الألسنة، بالحق وبالباطل، وتحول كل من هب ودب إلى خبير استراتيجي، في مشهد يكشف عمق الأزمة التي يواجهها المصريون، ويفضح مرحلة التيه الاستراتيجي التي نعيشها وعدم وضوح الرؤية بسبب التخبط السياسي في قضايانا المصيرية.

من المساخر أن دويلة الإمارات هي التي تضع رؤية الأمن القومي لمصر بدلا من الرؤية المتوارثة عبر التاريخ، وأصبح طابور الإمارات من السياسيين المستفيدين والموظفين التابعين دعاة لنظريات جديدة لأمننا القومي، جعلت العدو صديقا، وحولت الجوار العربي المسلم إلى عدو، ونشرت الشقاق والعداوة بين أبناء الشعب الواحد.

وفق النظرية المزيفة للأمن القومي أصبحت “إسرائيل” حليفا، واخترعوا عدوا جديدا مثل قطر وتركيا وشيطنوهما، وباتت مصر في حالة عداء مع جوارها العربي والمسلم في غزة وليبيا والسودان، وحركت مصر حدودها الشرقية والشمالية البحرية لصالح ” إسرائيل” وتحالفت مع قبرص واليونان ضد تركيا المسلمة.

مصر مهما كان وضعها السياسي قويا أو ضعيفا، ليست دولة صغيرة وإنما دولة كبرى في محيطها الإقليمي، وبوابة الدخول على العالم العربي، وهي قلب العالم الإسلامي، ولها نفوذها العالمي، ولأهميتها كانت مطمعا لكل الإمبراطوريات والدول الكبرى قديما وحديثا.

وبسبب هذه المكانة الجغرافية والسياسية والدينية تعرضت مصر للاحتلال معظم تاريخها، ولهذا كانت محاور الأمن القومي المصري معلومة ومعروفة منذ القدم، ولم تتغير عبر القرون، وحافظ عليها الفراعنة في فترات قوتهم، كما حافظ عليها المحتلون باختلاف جنسياتهم ودياناتهم، سواء من الشرق أو من الغرب.

المحاور والثوابت

عبر التاريخ كان نهر النيل هو المحور الرئيس للأمن القومي المصري، ولهذا أول ما فكر فيه الفراعنة هو مد سلطتهم إلى الجنوب لتأمين مصدر الماء؛ فوصلت الجيوش المصرية في ذلك الوقت المبكر حتى بلاد كوش وهي آخر الممالك حتى منابع النيل، ووصلت الأساطيل إلى بلاد بونت للاحاطة بمنابع النيل من الناحية الأخرى.

منذ أيام الفراعنة ولأهمية النهر توجد استراحات خبراء الري المصريين على امتداد النيل حتى جوبا، ولأهمية الماء كانت وزارة الري هي أكبر وأهم وزارة في مصر ولها أكبر المقار في العاصمة المصرية.

ظل الاهتمام بتأمين منابع النيل حتى عهد الخديوي إسماعيل الذي أكمل فتوحات جده محمد علي ومد السلطة المصرية إلى القرن الأفريقي وأوغندا، ولأنه نسي من هو العدو سلم الممتلكات المصرية للإنجليز الذين استعان بهم وعينهم رؤساء لحملات الاستكشاف وقادة لفرق الجيش المصري.

حتى الإنجليز الذين احتلوا مصر لم ينسوا تأمين منابع النهر لصالح وجودهم، وأبرموا مع إثيوبيا الاتفاقات التي تمنع تهديد الفيضان الذي يصل إلى مصر، وحافظوا على استمرار تدفق المياه بدون نقصان حفاظا على زراعة القطن المصري اللازم لتشغيل المصانع البريطانية.

كان المحور الثاني في الأهمية هو تأمين سيناء والحدود الشرقية التي يأتي منها الغزاة عبر التاريخ، وتمتليء المعابد الفرعونية بصور الجيوش المصرية وهي تقاتل في فلسطين والشام حتى حدود الفرات، والتي وصلت أقصى اتساع لها في عهد تحتمس الثالث أشهر أبطال العالم القديم.

الحقيقة الاستراتيجية منذ القدم هي ارتباط مصر بحكم الشام، فمن يحكم مصر يحكم الشام، ومن يسيطر على الشام سرعان ما يغزو مصر ويحكمها، وكان بالتبعية من يحكم مصر والشام يسيطر على جزر شرق البحر المتوسط، في مقدمتها قبرص وردوس وكريت.

وظل الحكم الإسلامي لمصر والشام لأكثر من ألف عام، يحمي الأمة من الغزو الذي تحول من الشرق إلى الغرب، بعد انتشار الإسلام في آسيا، ومنذ الحروب الصليبية والحملات الغربية لا تتوقف حتى اليوم، وأصبح الخطر من الشمال من ساحل البحر المتوسط.

الهيمنة الغربية

التهديد المتواصل للأمن القومي المصري والعربي وكل بلاد الإسلام في الوقت الجاري من الهيمنة الغربية، ورغم اختفاء الرايات الصليبية القديمة فإن الروح الصليبية مسيطرة على زعماء الغرب، وتجعلهم يتكتلون ضد الدول الإسلامية ويمنعون أي محاولة للاستقلال، من أجل ستمرار النهب والسيطرة.

الهيمنة الغربية هي الامتداد الحديث للاستعمار الأوروبي لإفريقيا وآسيا، وتقف هذه الهيمنة خلف كل محاولات التحرر في عالمنا، وهي التي تساند الحكام الموالين، وتحارب كل محاولات التمرد الشعبي والثورات، حتى لا تأتي بحكام مؤيدين شعبيا، يبنون بلادهم على أسس جديدة، تحافظ على الثروات وتوقف عمليات السطو الاستعماري وتعود إلى هويتها العربية والإسلامية.

لكي يضمن الغرب القضاء على قوة المسلمين استهدف الشام في البداية لفصلها عن مصر، وقام بتأسيس الممالك الصليبية التي امتدت إلى خليج العقبة وقطعت التواصل البري بين أرض المسلمين في إفريقيا وآسيا، ولكن استطاع صلاح الدين الأيوبي بعد إعادة الاتحاد بين مصر والشام طرد الصليبيين واستعاد التماسك الإسلامي.

منذ حملة لويس التاسع بدأ استهداف مصر، واعتبارها القلب النابض للعرب والإسلام الذي يجب الانقضاض عليه لمنع قيامة المسلمين مرة أخرى، ونصح لويس التاسع في وصاياه بعد هزيمة حملته في المنصورة وإخلاء سبيله من دار بن لقمان باحتلال مصر، واعتبرها مفتاح الشرق، ولم تتوقف الحملات حتى احتل الإنجليز الديار المصرية واقتسموا الشام مع الفرنسيين، وسلموه للأقليات الطائفية المحمية من دول الغرب.

ولكي يضمنوا عدم عودة وحدة مصر والشام مرة أخرى زرعوا الكيان الصهيوني ووصفوه في وثائقهم بأنه “دولة حاجزة” أي تحجز بين ضلعي الزاوية الشرقية الجنوبية لشرق البحر المتوسط حتى لا يعود هذا القلب القوي في المستقبل.

التطور الأحدث في هذا المحور هو تدمير الشام، ولم يكتفوا بتفكيكه وتمزيقه إلى دويلات ضعيفة، فأوكلوا إلى الاحتلال الروسي المهمة الجديدة وهي تدمير سوريا وتفريغها من السكان؛ بقتل شعبها بالقنابل، وتهجير من نجا من الإبادة في المنافي القريبة والبعيدة، في جريمة ضحاياها بالملايين، بتوافق واتفاق كل دول الغرب!

منذ تمكين الصهاينة من أرض فلسطين ونحن نواجه التحدي الأكثر خطورة، لأن المستوطنين الجدد يريدون تشييد كيان ديني توسعي يعتمد على تفسيرات توراتية ترى أن حدود دولتهم لا تقف عند حدود فلسطين وإنما إلى التمدد في كل الاتجاهات والهيمنة على ما حولها من دول، وأصبح الكيان الصهيوني هو الخطر الأولى بالمواجهة لأنه يلعب على كل المحاور التي تهددنا، ووجوده مرتبط بتفكيك مصر وتقسيمها.

أطماع القوى المتصارعة

الذين يزعمون أنهم يدافعون عن الأمن القومي المصري هذه الأيام، ويدقون طبول الحرب في الاتجاهات الخاطئة، بعيدا عن المعارك الحقيقية إنما يطلقون قنابل الدخان للتشويش، لإبعاد الأنظار عن ساحات التحدي الصحيحة، ويساعدون على استنزافنا في الصراعات “الغلط ” حتى تصل مصر إلى العجز التام أمام الذئاب الجائعة التي تنتظر الجائزة الكبرى.

إن حصاد السياسة الخارجية المصرية كارثي، فهذه السياسة المتحالفة مع خصومنا أفقدتنا كل عوامل قوتنا، وجعلتنا في حالة صدام وقطيعة مع أنفسنا وأشقائنا وعمقنا الاستراتيجي، وحربا على ثوابت أمننا القومي حتى وصلنا إلى تسليم إسرائيل شريان الماء وشريان الطاقة.

لقد أعطت اتفاقيات استيراد الغاز من إسرائيل الصهاينة السيطرة الكاملة، للتحكم في شريان الطاقة الذي ستعتمد عليه مصر في تشغيل المصانع، ومحطات الكهرباء، والإنارة، والاستخدام المنزلي لمدة 15 عاما!

وقد وضعت “إسرائيل” يدها على نهر النيل من خلال سد النهضة الذي تبنيه رءوس الأموال الصهيونية، والشركات الأمريكية والأوربية والعربية التابعة، تحت إشراف البنك الدولي.

الخطر الذي يهدد مصر الآن أكثر من أي وقت مضى هو أن حالة الانكسار الاستراتيجي والهزيمة أمام التحديات الخارجية ستشجع الطامعين، وتفتح الباب أمام تهديدات لم تكن في الحسبان، ولن تقف عند الهيمنة الاقتصادية ووضع اليد على النفط والغاز والثروات والولاء السياسي.

إن العجز عن الدفاع عن حق المصريين في نهر النيل أمام إثيوبيا، والتفريط في الحدود الشرقية وبيع تيران وصنافير، وإخلاء رفح وشرق سيناء باتفاقات سرية مع الإسرائيليين والأمريكيين، ثم التفريط في حقوقنا في البحر المتوسط، وخوض حروب بالوكالة مثل ما يجري في ليبيا، كل ما سبق قد يغري القوى الدولية والإقليمية المتصارعة على احتلال مصر لتنفيذ خطط أكثر عدوانية لتفكيكها وتدميرها، خاصة في ظل انقسام الجبهة الداخلية واختراق عقلها الاستراتيجي.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه