الأمنجية في الصحافة المصرية

كثيرون، ومتنوعون، هم رجالات السلطة والنظام في الإعلام، قليل منهم من هو مقتنع بموقفه وكثير منهم من يحمل موقفه مصلحة أو سعيًا لمنفعة، أو كما هو معروف في الدهاليز الإعلامية المصرية بـ«خير الحكومة».

والحقيقة أن تاريخ الإعلاميين المصريين، بخاصة الصحفيين، كان يشير دائمًا إلى عدم الخلط بين المهنية والتراث المهني والمهارة والسبوبة والمصلحة، تحديدًا فيما يخص ترابط الجماعة الصحفية في نقابتهم واحترام تفعيل مظلة الحماية النقابية على جميع الصحفيين بمختلف أرائهم ورؤاهم.

هيكل وزمن الكبار

كان محمد حسنين هيكل من أكثر الصحفيين قربًا من النظام في الستينيات، ومن أكثر المروجين لكل قرارات جمال عبد الناصر والملاصقين له، ورغم هذا لم يفقد هيكل رشاقته المهنية وعبّر عن اتجاهات السلطة بحرفية ورقي مهني كبير، ولم يضطر إلى اللجوء إلى الإسفاف والانحطاط في التعبيرات، ربما وصفه البعض بـ«مبرراتي الرئيس» وخاصة في سلسة مقالات «بصراحة»، إلا أن أحدًا لا يمكنه انكار أن هذه المقالات تحديدًا، التي كانت تُنشر أسبوعيًا كل يوم جمعة في جريدة الأهرام، كان يتخاطفها القراء ويتسابقون في شراء الجريدة قبل النفاد، ومنهم المعارضون لهيكل والمختلفون مع ما يكتبه، والسبب أن قرب هيكل من النظام لم يفقده مهنيته وحرفيته، وأن النظام ذاته رغم ما فيه من عيوب  لم يكن من الصغر والهيافة التي تضطره إلى اللجوء للمسوخ والصغائر للتعبير عنها إعلاميًا.

كان قُرب هيكل ليس من السلطة، وإنما من رأس السلطة، وهو ما كفل له الحماية من رجال نظام الستينيات بكل عنفهم عندما دخل في صراع مع الاتحاد الاشتراكي وتصدى لفكرة الصوت الإعلامي الواحد، ورأى أنه كارثة كبرى خاصة في ظل نظام الحزب الواحد، وظهرت الإصدارات متعددة الاتجاهات، وتمركز اليسار في «الطليعة» و«روزاليوسف»، وكان هيكل يكتب مقاله الأسبوعي (بصراحة) يوم الجمعة في الأهرام، وتظل جريدة الجمهورية تنشر كل المقالات المعارضة لمقال هيكل طوال الأسبوع، وعندما اعتقل النظام الناصري لطفي الخولي ونوال المحلاوي بسبب أراءهما السياسية، أثار هيكل ضجةً كبيرة حتى تم الإفراج عنهما.

مهنية موسى صبري

 في السبعينيات كان موسي صبري من أشد المناصرين لسياسة النظام الساداتي، وكان مقربًا من أنور السادات، ولا يخفي عداءه لمعارضي النظام من الإعلاميين ويهاجمهم، رغم ذلك لم ينكر أحدٌ من الإعلاميين مهنية الرجل وحرفيته؛ بل أشاد الجميع بذمته المالية البيضاء، وأنه لم يتربح قط من علاقته بالسلطة رغم شراسته مع المعارضين، ولم يتجاوز موسي صبري حدوده فيما يخص التراث المهني والنقابي، ولم يلجأ إلى أساليب الاضطهاد الأمني للمعارضين له رغم قربه الشديد من السلطة.

كان موسي صبري يقبل الخلاف وكان يحترم مهنيته، وكان لا ينكر حق الصحفي المختلف معه في الكتابة الصحفية رغم ضغوط أنور السادات عليه التي جعلته مضطرا بعض الأوقات إلى عدم النشر للبعض، ورغم ذلك لم يمس مرتباتهم ولا دخولهم ولا امتيازاتهم ولم يلوح لهم بسلاح الفصل والتشريد والتهديد في العمل.

وفي السبعينيات؛ رشح موسى صبري نفسه في انتخابات نقابة الصحفيين ممثلًا عن النظام، وهاجمته الجماعة الصحفية وفي مقدمتهم سمير تادرس الذي كان يعمل تحت رئاسة صبري في الأخبار، وسقط “صبري” بالانتخابات ولم يقترب من “تادرس” ولا من معارضيه أو يعاقبهم أو حتى يعاتبهم.

زرع محسن محمد

وعندما زرع أنو السادات الصحفي محسن محمد في جريدة الجمهورية لتطهيرها من العناصر اليسارية، لم يستطع محسن محمد تجاوز القيم المهنية والانقضاض على المعارضين في المؤسسة التي كان يعمل فيها نقيب النقباء كامل الزهيري، والذي يحمل له السادات كراهية شديدة بسبب كتابات الزهيري ضد كامب ديفيد والدفاع عن نهر النيل وموقفه المتشدد من إسرائيل، وطلب السادات من محسن محمد أن يوقف مقاله في الجمهورية، وذهب محسن محمد إلى منزل الزهيري ليحذره وكان غائبًا في مؤتمر في العراق ولم يقدم مقاله للنشر، ولجأ محسن محمد للحيلة حيث أوهم السادات بأن عدم وجود مقال الزهيري بسبب قرار المنع وهو ما أرضى غرور أنور السادات وعاد الزهيري واستكمل مقاله بشكل طبيعي بعد عودته من العراق، وكانت القيم المهنية هي القيد الذي منع محسن محمد من منع مقال كامل الزهيري.

نجم إبراهيم نافع

وفي الحقبة المباركية لمع نجم إبراهيم نافع كأقوى نقيب حكومي، ولم يشعر أيّ فرد من الجماعة الصحفية بهذا الانتماء الرسمي فالرجل كان مدركًا بشكل مثالي لمعنى التمثيل النقابي لجموع الصحفيين، ولم يمارس أيّ ضغط أو اضطهاد لمعارضي النظام؛ بل كان مدافعًا شرسًا عن أي صحفي تبطش به يد الأمن وساعده في هذه المهمة قوة شخصيته داخل جماعة صناع القرار السياسي.

وفي عام 1995 ومع بدء ظهور جماعات رجال الأعمال الفاسدين وارتباطهم بنظام الحكم عن طريق جمال مبارك وأحمد عز، بدأت حملة شرسة لتقييد حرية الصحافة بتغليظ عقوبات النشر في القوانين، التي ظهرت في مشروع القانون 93 لسنة 95 والذي أطلقت عليه الجماعة الصحفية «قانون حماية الفساد» وتصدت له الجماعة الصحفية في معركة شرسة انحاز فيها ابراهيم نافع للجماعة الصحفية وهدد بالاستقالة هو ومجلس النقابة كله، إلى أن تراجع النظام عن تمرير هذا القانون عبر مجلس الشعب.

إبراهيم نافع وهو رئيس مجلس إدارة جريدة الأهرام والمدعوم من النظام المصري رفض الذهاب لإسرائيل التزامًا بقرار الجمعية العمومية للصحفيين، وهو ما يشير إلى انحيازه التام للجماعة الصحفية رغم أي اختلافات سياسية مع المعارضين منها.

التردي

هذه إطلالة سريعة على حال الجماعة الصحافية والمناخ السائد بينها عبر فترات تاريخية متباينة؛ لكي نستطيع تقييم مدى التردي والانهيار الحادث الآن في مؤسسة نقابة الصحفيين وفي جماعة صحفيي السلطة الذين استحقوا بجدارة لفظ «الأمنجية» بعد أن باركوا حمالات الاعتقالات والمطاردات وبطش نظام عبد الفتاح السيسي الفاشي بالصحفيين المعارضين؛ بل تطوع بعضهم بالاقتراحات لشطب الصحفيين المعارضين من النقابة، وشهدت الصحف لأول مرة طرد الصحفيين من العمل وتشريدهم في الشوارع لخلافاتهم مع النظام الحاكم، ووصل الأمر إلى الاعتداء على الصحفيين داخل نقابتهم وهدم كل القيم والقواعد المهنية وتراث النضال الصحفي عبر سنوات طويلة، حتى إن سكرتير نقابة الصحفيين يتفاخر بأنه كان يعلم بنية الأمن القبض على اثنين من الصحفيين قبل القبض عليهما بيومين ولم يخطرهما، ولم يقم بواجبه النقابي بتشكيل هيئة دفاع عنهما واصطحابهما لجهة التحقيق، وترك الأمن يقوم بخطفهما من الشارع وإخفائهما أربعة ايام قبل عرضهما على النيابة بعد ممارسة ابشع الضغوط عليهما!!

أما عن الانهيار المهني والركاكة والتدهور الشديد بشأن القواعد المنظمة للمهنة كافة، فحدث ولا حرج بعد أن حلّت الحقارة محل المهارة، وحلّ المخبرون مكان الصحفيين.

الحقيقة أن التردي الذي أصاب الجماعة الصحفية جزء من التردي الشديد الذي أصاب المجتمع المصري نتيجة وقوعه تحت أكثر الأنظمة فاشية في تاريخه، وهو ما يجعل الحل أمام فئات المجتمع ثورة شعبية واعية بمصالح المجموع من أجل القضاء على الفاشية ورجالها المنتشرين في الإعلام، وبين رجال الأعمال وأجهزة الدولة والمؤسسات العسكرية والأمنية وتطهيرها.

وفي النهاية، هناك فرق كبير بين صحفي السلطة والأمنجي.. الأول ربما يكون انتهازيًا والثاني من المؤكد أنه مخبر مأجور.    

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه