الأحرار

.تحدثت فى مقالي السابق عن العبيد والعبودية، وكيف أن الصفة أو الكلمة انتقلت من المعنى الحرفي لها، وهى ملكية إنسان لآخر إلى معنى أشمل وأعم

هذا المعنى يرتبط بالمعتقد والمصالح والطبائع النفسية والتأثيرات المجتمعية، حتى أنك تجد حاكمًا بنفسية العبد، وأصبحت العبودية جزءًا من مكون صاحبها دون الضرورة، لأن يصبح مملوكا بالفعل لشخص آخر، فماذا عن الحرية؟، وهل العكس صحيح؟، بمعنى أنه إذا وجد شخص حر بالمعنى القانوني واللفظي، وفى نفس الوقت عبد بالمعنى النفسي، فهل يمكن أن يكون هناك شخوص عبيد بالمعنى القانوني واللفظي أحرارًا بالمعنى النفسي؟، وهل الأسير الفاقد لحريته عبدًا لدى السجان الذى أوقعه في الأسر، أم هو أكثر منه حرية؟، وكيف يمكن للعبد أن يأسر الحر ويقيد حريته؟!!

تعريف الحر

وإذا كان التعريف الحرفي للعبد هو الشخص المملوك لشخص آخر، فمن المنطقى أن يكون التعريف الحرفي للحر هو الشخص غير المملوك لشخص آخر، وهذا هو الحال الطبيعية لأى إنسان عند دخوله الدنيا، ولهذا فالإنسان يميل بطبعه إلى الحرية باعتبارها جزءًا أصيلًا من مكونه الذى نشأ عليه، ولهذا لا يمكن لنا أن نأخذ مقولة عمر بن الخطاب “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا” مأخذًا سطحيًا فى ظل الزمان والمكان والمجتمع الذى قيلت فيه هذه العبارة، والذى كانت تسوده العبودية باعتبارها نظاما مجتمعيا طبيعيا.

ولا عجب أن يأخذ مفهوم الحرية مساحة كبيرة فى الفكر الإنساني والفلسفات المختلفة أكثر من المساحة التى شغلها مفهوم العبودية فى هذه المجالات.

والتعريف السطحي الأولي للحرية لم يحصر مفهومها فى تحرر الإنسان من ملكية آخر له، بل تجاوزها إلى معنى أشمل وهو “التحرر من القيود التي تكبل طاقات الإنسان وإنتاجه سواء كانت قيودًا مادية أو قيودًا معنوية، فهي تشمل التخلص من العبودية لشخص أو جماعة أو للذات، والتخلص من الضغوط المفروضة على شخص ما لتنفيذ غرض ما، والتخلص من الإجبار والفرض”.

وانتقل الأمر من التعريف السطحي إلى تعريفات أكثر تعقيدًا عندما وضعت الفلسفات المختلفة مفهوم الحرية فى مقدمة اهتماماتها، إلا أن أوضح ما تناوله فلاسفة العصور الحديثة يتعلق بمفهوم الحرية السالبة والحرية الموجبة عند الفيلسوف الألمانى إيمانويل كانط، فالحرية السالبة أو الشخصية عنده هي إمكانية اتخاذ القرار دون قيود، وهي حق طبيعي، أما الحرية الموجبة فهي حرية معطاة أو إمكانية معطاة ليستطيع الإنسان ممارسة الحرية السالبة (الشخصية) وهي حق إنساني أساسي.

شروط لممارسة الحرية

وهنا لم يضع “كانط” الحرية كمفهوم مطلق لا يخضع لسقف أو قيود كما فعل فلاسفة الوجودية، بل اشترط لممارسة الحرية السالبة كحق طبيعي أن تكون فى إطار من الحرية الموجبة المعطاة أو الممنوحة من المجتمع المحيط.

وما فعله “كانط” لم يكن غريبًا على الفكر الإنساني، فقد فعلته الأديان كلها من قبل عندما وضعت حرية الإنسان فى إطار قواعد عقائدية ملزمة تضمن الحرية الإنسانية بصفة عامة.

الحقيقة أن الإنسان خُلق فى كبد، فلم يلتزم بالحرية الموجبة التى تنظم حريته فى إطار من القواعد المجتمعية أو العقائدية، خاصة فى المجتمعات الشرقية، وأخص بالذكر أكثر مصر، ولهذا خضع معظم الحكام المستبدين لنفسية العبد الذى لا يرى فى العلاقات البشرية إلا مالكا أو مملوكا، ولجأوا إلى التفسيرات القانونية والدينية المغرضة، ليحولوا كل القواعد المنظمة للحرية إلى مبررات لاستبدادهم وطغيانهم.

وكما ذكرت فى مقالي السابق، فإنه رغم صعود شجرة الدر إلى عرش مصر ظلت تحكم أحرارا بنفسية العبد، والأمر ينطبق على محمد على وأسرته من بعده، والحقيقة أنه بعد الإطاحة بالنظام الملكي وأسرة محمد علي عام 1952، وتحول مصر إلى نظام جمهوري، كانت هناك مرحلة مفصلية، إما يتحول الحكم في مصر إلى حكام أحرار يحكمون بقواعد الأحرار، وإما يظل تحت سيطرة حكام يحملون نفسية العبد الذى لا يجد ضمانا لوجوده كحاكم إلا البطش، والمعيار الوحيد الدال على طبيعة الحكام هو موقفهم من الديمقراطية والحريات، فالحر في تكوينه لا يعرف السجون ولا البطش كأدوات للخلاف والاختلاف على عكس الحاكم العبد الذى يجبن عن مواجهة المختلفين معه، فيتخلص منهم بالسجن أو القتل أو النفي، وهى الأدوات الوحيدة التي يعرفها العبيد.

 وللأسف انتهت المرحلة المفصلية في مصر بمزيد من القمع والسجون والملاحقات لأي معارض للنظام الحاكم، والقاعدة الثابتة أنك إذا رأيت حاكمًا أو شخصًا أدواته القمع والبطش، فأعلم أنه ليس حرًا أو مستقلًا وحتمًا سيكون في قراراته تابع تبعية العبيد لكيان ما أو جماعة ما، وإذا رأيت أسيرًا مقيدة حريته من أجل الحق والحرية والعدالة، فاعلم أنه الحر صاحب كلمة الحق في وجه الحاكم العبد، وكما قال الشاعر “الحر في الأوطان حاكم ولو محكوم” وهى كلمات من مقطع في قصيدة لأغنية سجلها المغنى المصري محمد عبد الوهاب 1952، ومنع القصر إذاعتها باعتبارها تحريضا ضد الحاكم، حتى الكلمات حول الحرية ترعب الحاكم العبد!!

 تحية للأحرار داخل سجون العبيد

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه