ابتسام تريسي تكتب: تدوير الديكتاتورية

تكميم الأفواه… سياسة السلطة التي تحكم بقوة السلاح، فالحاكم العسكري لا يعرف لغة غير لغة قمع الحريات وفرض رؤيته الخاصة للأمور والمحصورة دائماً بكيان المرأة

ابتسام تريسي*
أسوة بالنفايات تقوم الفصائل المسلحة في سوريا بعملية تدوير للديكتاتورية التي عاش السوريون تحت سياطها خمسين عاماً من حكم البعث.
البيان الذي أصدرته الفصائل المسلحة في المناطق المحررة والذي يقضي بمحاسبة ولي أمر الفتاة التي لا تلتزم باللباس الشرعي المقرّر من الهيئة الشرعية.. أعاد إلى ذاكرتي ما حدث في منتصف الثمانينات أيام حكم “رفعت الأسد”. السوريون جميعاً يعرفون أنّ الحكم في تلك الفترة كان لرفعت فقد كان يقبض بيد من حديد على الجيش ويتصرف في الدولة على هواه.. وقد سعى حافظ الأسد لمصالحة رفعت بعد أن قام الأخير بمحاولة الانقلاب على أخيه، وتمخضت المصالحة عن إبعاده من سوريا إثر صفقة قام القذافي بدفع قسم من فاتورتها!
في ذلك الزمن صدرت الأوامر لمديرات المدارس بمنع الحجاب في المدرسة وأوكلت تلك المهمة لمدرّبات “الفتوة” أيّ مدرّسات مادّة التربية العسكرية.. وهي ليست مادّة نظرية فقط بل حصة تدريب على النّظام المنضم يتبعها في آخر السنة “للصف العاشر” معسكر تقوم الفتيات بالتدرّب فيه على الرمي “رمي الرصاص طبعاً” وبطريقهن ربّما يرمين المدرّب بسهام العينين!” لأنّ التدريب على الرمي يوكل إلى الذكور فقط، ولا تقوم به المدرّبات “اللواتي يشبهن الإناث” بشكلٍ أو بآخر.
مدرّبات الفتوة كن يقفن أمام باب المدرسة في الصباح الباكر لنزع الحجاب عن رؤوس الفتيات اللواتي لم يلتزمن بوضع “السيدارة” العسكرية في الشارع.. وهذا يعني أنّ الفتيات لن يجدن حجاباً حين الانصراف من المدرسة وسيسرن في الشارع مكشوفات الرأس.. وقد أوقعت العقوبات على الكثير من الفتيات اللواتي كن يجلبن معهن حجاباً إضافياً في حقائبهن ليضعنه بعد الخروج إلى الشارع قبل عودتهن إلى البيت.. وفُصلت الكثيرات من المدرسة لهذا السبب.. وفي تصعيد ملفت للنظر قامت فرقة من سرايا الدفاع التابعة لرفعت الأسد بنزع الحجاب عن رؤوس نساء يسرن في الشارع..
هذه الأفعال اضطرت الكثير من الآباء لمنع بناتهم من الذهاب إلى المدرسة. وقد شهد ريف إدلب الكثير من هذه الحالات مما جعل الفتيات من مواليد السبعينات يقرن في بيوتهن.. وانخفضت نسبة الحاصلات على الشهادة الجامعية في تلك الفترة.
ما فعله رفعت الأسد والنظام السوري العلماني في ذلك الوقت يدخل في إطار الإرهاب ولا يختلف عمّا تفعله الفصائل المسلحة حالياً بفرض نوع اللباس ولونه وطريقة الحجاب تحت طائلة العقاب لمن لا يرضخ للأمر.
لا نستطيع فصل ما يجري في الداخل السوري عن الحركة العالمية الضاغطة باتجاه فرض كلّ أنواع الموت على السوريين وإجبارهم على ترك الأرض والهجرة أو قتلهم بالبراميل والصواريخ وكلّ أنواع الأسلحة.. وتسليط القوى الظلامية عليهم. السوريون أمام عدّة خيارات كلّها أمرّ من العلقم لكن لا بدّ لهم من الاختيار! السوري يجب أن يموت غرقاً في رحلته البحرية لالتماس الأمان، حرقاً وتقطيعاً بالبراميل المتفجرة، خنقاً بالكيماوي، ذبحاً على أيدي الظلاميين، أو يرضى بحكم الأسد، وخياره المفتوح أيضاً أن يطلق لحيته ويحمل السلاح وينضم إلى فصيل ما وأهم شيء أن ينتبه إلى حريمه وحريم الآخرين كي لا يفلت عيارهن.
أيام رفعت الأسد كان الاختباء طوعياً والحجاب والاحتجاب ينقذ الفتيات في بعض المناطق الواقعة تحت سيطرة سرايا الدفاع وأقارب الأسد خاصة أولاد المرضي عنه جميل الأسد صاحب حركة “المرتضى”. وقد كان الخيار مفتوحاً أيضاً، إمّا الانفلات الكامل والانضمام إلى حزب البعث وحضور ندواته “التثقيفية التربوية” ونشاطاته الحزبية المرتبطة بشكل أو بآخر بالسهرات والرحلات المختلطة، وأيضاً ومن أجل دراسة ناجحة وتفوق باهر لا بأس من عمل دورة “صاعقة” أو “قفز بالمظلة” وإن لم تعرف الفتاة كيف تفتح المظلة بعد دفعها من الطائرة ووقعت وكسرت رقبتها، الأمر بسيط جداً فهي تكسب المجد وتحمل الدورات اللاحقة اسمها كما حصل مع “ألماظة خليل” وكان هناك خيار آخر وهو القيام بعمل انتحاري طوعي، كما فعلت “حميدة الطاهر” حين فجّرت نفسها في عملية “استشهادية” في لبنان، وأطلق اسمها على عدة مدارس. حميدة الطاهر التي كانت السبب في منعي من العمل في وزارة التربية لأجل رأي قلته في منتصف الثمانينات -أمام طالباتي- عنها عندما سألوني إن كانت شهيدة أم لا؟ فقلت بصراحة “إنّها انتحارية خدمت قضية عادلة من وجهة نظرها ونظر من أرسلها، أمّا الشهداء فهم من ذكرهم الله في كتابه العزيز!”.
تكميم الأفواه سياسة السلطة التي تحكم بقوة السلاح، فالحاكم العسكري لا يعرف لغة غير لغة قمع الحريات وفرض رؤيته الخاصة للأمور والمحصورة دائماً بكيان المرأة، بغض النظر عن مرجعيته “الدينية المتشددة” أو “العلمانية المنفلتة”.
في الثمانينات أدت أفعال رفعت الأسد بالمحافظين من المجتمع السوري إلى اللجوء إلى اللباس الأسود حفاظاً على هويتهم الخاصة كما حصل في المجتمع الدمشقي بعد أن تمّ غزو دمشق وتحويلها إلى ما يشبه المستعمرة من قبل الموالين لحافظ أو لشقيقه أو المنتفعين من الحكم بشكل عام. أما اليوم فكيف سيواجه المجتمع السوري هذه الحملة من التشدد وهذا الاستزلام الذي تقوم به مجموعات تظنُّ أنّها موكلة من الله على رقاب البشر؟ لقد نسي أصحاب الرايات السود قاعدة قرآنية على درجة من الأهمية، جاءت في سورة آل عمران: (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك).
لقد أخطأ السوريون بسكوتهم أربعين عاماً على نظام الأسد، والآن يرتكبون خطأ أكبر بانضوائهم تحت رايات الجهاديين القادمين من كلِّ أصقاع العالم لتعليم السوريين “الدين الصحيح” الذي يجهلونه!

_____________________________

*روائية سورية 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه