إيش تاخد من تفليسي يا برديسي

لا تسألوا كثيراً متى يأتي فرج الله قبل أن تفيقوا من سباتكم، وتعودوا إلى ما كان عليه السلف الثائر من رفض وتمرد على الفساد.

منذ أيام تحدث رئيس جمهورية مصر العربية بحديث متكرر أثناء زيارته لمحافظة من محافظات مصر، وقال كلمات تشابهت مع كثير من الكلمات التي يقولها دوما ليبرر زيادة الأعباء على المواطنين، باعتبارهم السبب الرئيسي في تجويع وإمراض أنفسهم، وأن العلاج الوحيد لمواجهة فقر المصريين هو تحميلهم مزيداً من الأعباء فقال: «وزي ما أنا هعملك محاور تختصر 100 كيلو لـ25 كيلو لما أعلّي عليك السعر ماتزعلش، مفيش حاجة ببلاش بعد كده، وطبيعي إني أغلي كارتة المرور». وفورا ظهرت سيارات الخدمة العامة التي تتبع الجيش تحمل متاريس بلاستيكية لتقطع بعض الطرق وتفرض ضريبة «كارتة طريق» تتحدد بحسب حمولة السيارة ونوعيتها!!!

طريق جديد تم تمهيده من عرق ودماء وأموال الفقراء التي يسددونها كجباية تقتطع من أقواتهم ونتاج عملهم محدود الدخل، ثم يكون الهدف منه تحصيل رسوم من المصريين على المرور من خلاله، وكأنه استثمار بأموال الفقراء من دمائهم طبقا للنظرية المصرية الشعبية «من دقنه وافتله»، والنظام المصري يغض البصر دائماً عن أن مشروعات البنية الأساسية الغرض منها تحقيق الرفاهية للمواطن، وتسهيل مشروعات التنمية المستهدفة والنهوض بالمواصفات البشرية وتحقيق الرفاهية للشعب.

«إيش تاخد من تفليسي يا برديسي»

“إيش تاخد من تفليسي يا برديسي”: شعار من أشهر الشعارات التي رفعها المصريون في ثورتهم ضد سياسة المبالغة في فرض الجباية والضرائب على المواطنين من أجل توفير المرتبات الباهظة للجند والمماليك، وكان ذلك عام 1801 وبعد خروج الحملة الفرنسية من مصر وعودة سيطرة المماليك ولجوء عثمان البرديسي وزير المالية آنذاك لفرض ضريبة جديدة على المصريين لتغطية رواتب المماليك الباهظة وترضيتهم، فخرج المصريون في ثورة كبيرة رافعين هذا الشعار.

والحقيقة أن احتجاج المصريين على الضرائب لا يعني عدم الالتزام أو عدم الشعور بالمسؤولية تجاه أوطانهم كما يحاول أن يظهره حكام الأنظمة الفاسدة، وإنما هو انعكاس لإحساس المصري أن الضرائب ما هي إلا جباية وإتاوة بغير مقابل.

في بداية الألفية الثانية وقف مدحت حسنين وزير المالية المصري آنذاك ووبخ المصريين في مؤتمر صحفي على تهربهم من الضرائب، وقال: المواطن الأوربي يعتبر التهرب من الضرائب عارا وخطيئة كبرى، بينما المواطن المصري يبتدع فنونا للتهرب من الضرائب ويعتبرها إتاوة بلا مقابل، فعقب أحد الصحفيين وقال بكلمات حادة للوزير إن إحساس المواطن المصري في محله وسلوكه طبيعي ولا وجه للمقارنة بين سلوكه الضريبي وسلوك المواطن الأوربي الذي يحصل مقابل الضرائب على خدمات عينية في كل المجالات الصحية والحياتية والاجتماعية والتعليمية، في حين يعيش المواطن المصري في بؤس يدفع ثمنا باهظا مقابل الخدمات التي يحصل عليها هذا إن توفرت، وتسأل لماذا يحرص المواطن المصري على دفع الضرائب وهو يعيش هذا البؤس بينما هناك فئات تعيش في رغد وتستفيد بشكل خاص من حصيلة الضرائب التي تثقل كاهل الفئات الفقيرة الكادحة، وهنا صمت وزير المالية وتوقف عن حديث التوبيخ للمصريين، وبعدها تم تجاهل توجيه الدعوة لهذا الصحفي في مؤتمراته!!!

حكومات الاستبداد

والحقيقة أن حالة الفصل بين فرض الضرائب من الحكومات والتزامها بسداد مقابل هذه الضرائب من الخدمات هو أمر قديم في مصر، ويلازمه بشكل مواز ثورات المصريين المتعاقبة ضد هذه السياسات المجحفة، ولم يؤثر فيه معسول الخطاب الذي كان يوجهه الحكام للشعب مثل حق الوطن والتضحية من أجل مصر ومواجهة المخاطر الأمنية وتوفير الأمن والآمان وغيرها من كلمات جوفاء الغرض منها تبرير فرض الضرائب أو الجباية على المصريين.

ففي فجر التاريخ المصري وفي عهد الملك بيبي الثاني الذي حكم مصر 96 عاما شهدت البلاد حالة فوضي شديدة وانتشرت السرقات والقتل والفقر، ورغم ذلك استمرت الحكومة في فرض الضرائب في ظل هذا المناخ، فتحولت كل طاقة البؤساء إلى ثورة على الملك وانتهى حكمه الذي اقترب من مائة عام.

وفي عهد بطليموس الثالث شهدت مصر أكبر ثورة ضد زيادة الضرائب لتغطية رواتب الجند وتكلفة للسلاح في حروبه في سوريا، مما دفع بطليموس إلى تخفيض الضرائب وإغراق سوق مصر بالقمح الذي جلبه من فينيقيا وقبرص وسوريا، وتنازل هو وكبار موظفيه والكهنة عن جزء كبير من دخلهم.

وعندما ثار الشعب المصري عقب جلاء الفرنسيين عن مصر في بداية القرن التاسع عشر ورفض ولاية خورشيد باشا التي فرضها الخليفة العثماني وأصروا على ولاية محمد علي، لم تكن ثورتهم ضد الخلافة العثمانية أو تمردا على أوامر الباب العالي وإنما كانت رفضا لسياسة خورشيد باشا التي تعتمد على الإفراط في فرض الضرائب.

ثورة الفؤوس

في فترة حكم الخديوي إسماعيل وتحديدا في عام 1864 م عانت البلاد من كثرة الضرائب المفروضة وحالة التفاوت الطبقي الشديد بين شعب فقير يعمل ويكدح وينصب عائد عمله على فئات محيطة بدوائر الحكم تعيش في قصور في رفاهية ورغد من العيش، وفي ذلك الوقت قاد الشيخ الطيب أحمد عبيد أول ثورة وصفها المؤرخون الأجانب بالثورة الاشتراكية طالب فيها بالعدالة الاجتماعية وتوزيع الأراضي الزراعية على الفقراء، واستخدم الثوار الفؤوس كأداة للتعبير عن ثورتهم في مواجهة السلطة المستبدة واستمرت الثورة التي انطلقت من قرية السيلمية في محافظة قنا (التابعة لمركز أرمنت بالأقصر الآن) لعدة أعوام وشملت العديد من القرى حتى قمعتها السلطة بعنف ومذابح غير مسبوقة.
كما وصفت البريطانية الليدي لوسي داف غوردن، التي تعد كتاباتها أهم وثيقة أرخت لهذه الثورة، واستخدمت السلطة الفؤوس التي كانت رمزا للثورة في قتل الثوار وتعذيبهم بطريقة بشعة حتى أن الخديوي إسماعيل تدخل لوقف هذا التعذيب.

والحقيقة أنه منذ هذه الفترة انشغلت الدوائر الشعبية والساحة السياسية بمشكلات مواجهة الاحتلال ودعايات حماية الوطن وأمنه، وهو ما استغله حكام البلاد حتى بعد الاستقلال في نشر مناخ التبرير والصبر على زيادة الضرائب وسياسات الإفقار وفساد الحكام والأنظمة والحكومات، فلم تقم ثورة مباشرة من المصريين ضد إتساع الفجوة الطبقية، وتحول الغالبية منهم إلى معسكر الكادحين وزيادة الضرائب والجباية على الفقراء حتى وصلت اليوم إلى فرض ضرائب على الموتى في قبورهم!!

لا تسألوا كثيراً متى يأتي فرج الله قبل أن تفيقوا من سباتكم، وتعودوا إلى ما كان عليه السلف الثائر من رفض وتمرد على الفساد، وتعودوا إلى فضيلة كلمة الحق في وجه الحاكم الظالم.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه