إلى الأمام .. إلى الخلف !

مشهد أول:

الرئيس الفرنسي فرنسوا أولاند يستقبل الرئيس المنتخب إيمانويل ماكرون على سلالم قصر الإليزيه، ويصطحبه داخل القصر لاجتماع ثنائي قبل أداء ماكرون القسم وتنصيبه رسميا رئيسا لفرنسا.

مشهد ثان:

الرئيس الجديد إيمانويل ماكرون يصطحب فرنسوا أولاند إلى خارج قصر الإليزيه ويودعه، فقد صار رئيسا سابقا انتهت دورته وسنوات خدمته للشعب.

مشهد ثالث:

الاثنان، أولاند وماكرون، يلتقيان بابتسامة ومصافحة حارة، ثم يفترقان بنفس الابتسامة والمصافحة الحارة.

مشهد رابع:

أولاند بات مواطنا عاديا يحمل لقب رئيس سابق، ماكرون أصبح رئيسا بعد أن كان مواطنا عاديا.

المشاهد الأربعة السريعة التي التقطتها من أحداث كثيرة يوم 7 مايو 2017 حيث جرى انتقال السلطة في فرنسا من رئيس مغادر إلى رئيس جديد، تتلخص في كلمة واحدة فقط اسمها “الديمقراطية”.

الديمقراطية بكل آلياتها ووسائلها وإجراءاتها تظل أعظم إنجاز سياسي غربي في نظم الحكم حتى الآن.

فرنسا ليست وحيدة في هذا النظام السياسي الدقيق في الانتقال السلمي والسلس للسلطة ليكون اليوم الذي يتم فيه تسليم وتسلم القيادة يوما للاحتفال الرسمي والشعبي بمشاركة الجميع، أنصار الفائز والمهزوم على السواء، فالحياة الطبيعية تستمر هناك، وبلدان الديمقراطية تتحرك جميعها إلى الأمام، فلا يوجد ما يشدها للخلف من نشوء أزمات حكم وصراعات ساسة وأحزاب وألاعيب مؤسسات في الظلام والخفاء لمنع الديمقراطية من بلوغ غاياتها وأهدافها، ولا يوجد منتصرون يستفيدون من نتائج الديمقراطية ثم هم في قرارة أنفسهم غير ديمقراطيين يضمرون شرا لها ويرتبون أوضاعهم للبقاء في السلطة وعدم تكرار المشهد الذي جرى فيه استلامهم للحكم مرة أخرى، أو على الأقل يثيرون المخاوف في نواياهم تجاه مستقبل الديمقراطية.

الدورس

العالم الحر يقدم مع كل تجربة جديدة الدروس لبقية العالم، سواء الذي يتحرك على نفس الطريق لتكريس ديمقراطيته واعتبارها نهج حياة سياسية ونموذج حكم لا رجعة فيه أو عنه، أو من يؤسسون لديمقراطيات ناشئة لم يشتد عودها بعد، والأهم أن الدرس يكون موجها أيضا لمن يخاصمون فكرة الديمقراطية ولديهم نزوع تجاه الحكم السلطوي والاستبداد السياسي وتكريس دولة الفرد الواحد وبناء الديكتاتوريات التي عفا عليها الزمن السياسي والتي يجب أن تدخل متاحف الفكر والحكم المتخلف الذي أثبت فشلا ذريعا ومريعا في كل بلد طبق فيه، والفشل نفسه لايزال يتكرر في كل بلد موبوء بهذا التخلف السياسي والحضاري والإنساني.

لم تهتز فرنسا الدولة الكبرى عالميا، ولم تشعر أحزابها التقليدية الكبرى ولا مؤسساتها وعلى رأسها المؤسسة الأمنية من جيش وقوى أمن وأجهزة استخبارات وكذلك مؤسساتها الاقتصادية والمالية، ولم يقلق أحد على السلاح النووي باعتبارها دولة نووية من كون الرئيس الجديد شابا صغير السن ” 39 عاما” ولا ينتمي لأي حزب كبير أو صغير، إنما يستند فقط إلى حركة شعبية أطلقها بطريقة عفوية اسمها “إلى الأمام” وهى التي قادته إلى الفوز في الجولة الأولى على مرشحين كبار ينتمون إلى الحزبين التقليديين اللذين يتبادلان الحكم في الجمهورية الخامسة ” اليمين المعتدل، واليسار”، ثم  حسم الأمر في الجولة الثانية على مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبن التي تقود حركة قديمة تشهد صعودا في الحياة السياسية الفرنسية، وكل الذين نافسوا ماكرون كانوا أكثر خبرة سياسية منه، ويستندون لتيارات سياسية وعقائدية لها وجودها وجذورها ومناصروها.

هكذا الدول الواثقة من نفسها، والواثقة في ديمقراطيتها، والمؤمنة بأن الحرية هى عامل قوة لها ولشعوبها، وليس عامل قلق وخوف ومثار اتهام بالتسبب في الفوضى، ومثل هذا الاتهام الكاذب هو دأب المستبدين الذين يريدون التفرد بالحكم ووأد فكرة الديمقراطية وجعلها مرادفا للشيطان ومنع التداول السلمي للسلطة وفرض الرأي الواحد وهم يخيفون الناس من الحريات العامة والخاصة ويقرنونها بالفوضى وتعريض حياة الدول والمجتمعات للخطر، مقولة تهديد الدولة وإسقاط الدولة ستجدها لدى كل نظام مستبد يضلل بها العامة وفئات وشرائح الوعي المنعدم أو المحدود، ويلجأ مع كل أزمة في الحكم والفشل في الإنجاز والعجز عن تحسين أوضاع الناس إلى استدعاء مخزونات الفزاعات والشعارات من هذا النوع في هذه التجارة الكاسدة العفنة.

لم يتهدد فرنسا سواء الدولة أو المكانة العالمية أي شيء، بل خرجت من تجربتها الديمقراطية الجديدة مع أصغر رئيس في تاريخها أكثر شبابية وعافية، وداخليا كشفت الانتخابات عن المخبوء لدى ساسة  كبار لهم وزن حيث عرت فسادهم ” فرنسوا فيون”، وكشفت انقسامات حزب كبير ” الحزب الاشتراكي”، ودقت ناقوس الخطر من تزايد شعبية المتطرفين في التيار اليميني القومي ” حزب الجبهة الوطنية”، وأكدت على عمق وعي الشعب الفرنسي وساسته وأحزابه رغم ما بها من أزمات داخلية حيث قطعوا الطريق على المتطرفين للوصول إلى قمة السلطة في قصر الإليزيه، وكان ذلك حلمهم القديم والتاريخي، انحازت فرنسا إلى الاعتدال وإلى الشباب وإلى مشهد جديد في حياتها السياسية وإلى الخروج من منظومات الحكم التقليدية، وتشابهت في ذلك شكلا فقط مع الولايات المتحدة الأمريكية التي اختار شعبها رئيسا قادما من خارج منظومة الحكم التقليدية في واشنطن ولا ينتمي لعائلات وقوى الحكم المتعارف عليها الممسكة بزمام السياسة والعاصمة، لكن الفارق في الجوهر بين الاثنين ماكرون في فرنسا وترمب في أمريكا كبير، فالأول رئيسا طبيعيا في أفكاره وأهدافه وأجندته لا يثير قلقا ولا مخاوف فرنسية ولا أوربية ولا عالمية منه، أما الثاني فهو يحمل أجندة غير طبيعية ويثير مخاوف كبيرة منذ فاز وحتى اليوم ولم يبدد تلك المخاوف بعد وبما يمكن أن يرتكبه من مغامرات وحماقات رغم محاولات منظومة الحكم التقليدية السيطرة عليه وتعديل مساره وتغييره في اتجاهها.

فكرة الحاكم الأبوي والرئيس القائد والزعيم الملهم وغيرها من الأوصاف الطاغوتية الكريهة لا تجد لها ظلا  ولو خفيفا في بلاد الديمقراطية، فالرئيس لا يختلف عن غيره من سائر المواطنين إلا فقط أن شعبه اختاره لمهمة محددة بزمن محدد وهو فترة الحكم الدستورية لكي يقوم على خدمة هذا الشعب، وإذا أحسن يجددون ثقتهم فيه في الانتخابات التالية، وإذا أخفق يأتون بغيره، وعندما تأكد الرئيس السابق فرنسوا أولاند أن شعبيته متدنية، وأنه لو ترشح لفترة ثانية فلن ينجح لذلك انسحب بهدوء، وكان الرئيس الوحيد الذي لم يرشح نفسه لفترة أخرى في تاريخ الجمهورية الخامسة في فرنسا، وجلس مكانه شاب كان يعمل موظفا عنده في قصر الحكم ثم وزيرا في واحدة من حكوماته ثم استقال وبدأ يجهز نفسه للانتخابات ولم يتهم بطعن الرئيس من الظهر ولا بالجحود ولا بالخيانة ولا بأنه مجرد شاب صغير وأين هو من المنصب الرفيع ومقامات وكراسي الكبار مثل ديجول وميتران وشيراك؟.

العقد السياسية

المجتمعات الحرة منفتحة لا تعرف العقد السياسية ولا النفسية والشخصية كما هو حاصل في مجتمعات الانغلاق وحكم الزعيم الأوحد في طول العالم العربي والإسلامي وفي عرضه إلا نادرا، وفي كوريا الشمالية وكوبا وعدد من بلدان إفريقيا، لذلك تبقى فرنسا مع رئيس شاب من عمر أولاد رؤساء وحكام محتكرين للحكم في بلادهم منذ عقود بنفس دورها وتأثيرها وكلمتها على هؤلاء الحكام وعلى بلدانهم، مثلما أن أمريكا مع ترمب النسخة الأغرب في تاريخ الرؤساء الأمريكان ولو في القرن الأخير تمارس نفس النفوذ والتأثير العالمي وتستمر واشنطن محجا للجميع، بل إنه يفعل مالم يفعله رئيس من قبل عندما يجتمع معه 17 حاكما عربيا ومسلما في مكان واحد وهو الرياض، كلهم يأتون إليه وهو جالس وسطهم أو على رأس الطاولة مسنودا بالديمقراطية التي جاءت به للبيت الأبيض، والتي صنعت المعجزة الأمريكية وجعلتها القوة الكبرى بلا منافس.

أوباما غادر مكتبه مصافحا ترمب ليجلس مكانه، كما حصل بين أولاند وماكرون، وديفيد كاميرون ترك بيت الحكم في 10 داونيننغ ستريت في بريطانيا لوزيرة داخليته تريزا ماي بعد أن فشل في استفتاء الخروج من الاتحاد الأوربي، وماتيو رينزي رئيس وزراء إيطاليا استقال تاركا السلطة لوزير خارجيته باولو جينتلوني بعد أن أخفق في استفتاء تمرير الإصلاحات السياسية والدستورية،

هكذا بكل بساطة وسهولة ويسر يغادر حاكم ويأتي آخر لأن المنصب للخدمة العامة وليس للمصلحة الشخصية أو الحزبية، لكن في مصر مثلا لم يغادر حاكم واحد منذ تأسيس الجمهورية قبل أكثر من ستين عاما بشكل ديمقراطي ويسلم السلطة لبديله المنتخب، استبداد متواصل، والرئيس الوحيد المنتخب بنزاهة بعد ثورة 25 يناير تم عزله ويقبع في السجن الآن، وفي العراق خرج صدام من الحكم لرحلة هروب بعد احتلال أمريكا للعراق ثم كان مصيره الإعدام، وفي سوريا يدمر الديكتاتور الأسد بلده ويذبح شعبه حتى يظل رئيسا ولو على أكبر خرابة في العالم، وفي اليمن تشتعل حربا مدمرة لأن رئيسا مخلوعا في ثورة شعبية ” علي عبدالله صالح” يسعى للعودة للحكم ولو على ما تبقى من اليمن التعيس، وفي ليبيا خرج القذافي صاحب أطول فترة حكم لحاكم عربي من السلطة ومن الحياة بثورة ثم رصاصة أنهت حياته، وفي الجزائر يحكمها رئيس مريض من على كرسي متحرك، وربما الاستثناء حتى الآن في تونس الذي خرج رئيسها السابق من الحكم ” المنصف المرزوقي” وجاء مكانه “السبسي” في انتخابات نزيهة، وسبق هذا التداول السلمي الأول  للسلطة رئيس مستبد هرب تحت وطأة اشتعال الثورة ضده مثلما تنحى مبارك تحت الضغط الثوري والشعبي.

نحن في بلادنا نسير للخلف، لا ننظر للأمام، نعيش في الماضي بكل كوارثه، ونفضل هذا الماضي رغم فشله مرات على المستقبل والتطلع للأمام ومحاكاة وتقليد العالم الحر في نجاحاته، ذلك العالم الذي لم يتقدم إلا لأن حركته دوما للأمام ولأنه ينتهج الديمقراطية والحرية عقيدة فكرية وإيمانا سياسيا راسخا وإرادة شعبية لا يمكن التراجع عنها أو الانقلاب عليها.

هم مع الديمقراطية باتوا أفضل، وصنعوا الحضارة، ونحن مع الديكتاتورية صرنا أسوأ، وخارج الحضارة.

فهل يضيف كل مسلم إلى أدعيته بعد كل صلاة دعاء آخر يقول فيه : اللهم وفقنا للأخذ بنعمة الديمقراطية في بلادنا حتى نكون مثل فرنسا وأخواتها؟!.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه