إغلاق الجزيرة.. العار الذي لن يُنسى

هي كلمة واحدة إذن جلبت اهتمام كثيرين لا يعرفون من الخليج سوى كلمتين مفتاحيتين: البترول والجزيرة.

في الوقت الذي كان فيه الرّأي العام الإسباني يتأمّل وربّما يتأهّب لتصديق التّهم المُوجّهة لقطر، أماطت مضامين قائمة الشّروط التي نشرتها دُول الحصار اللّثام عن زيْفِ هذه التّهم وتلفيق مالا يليق بزماننا من الأكاذيب المفضوحة. وقد طغى التّهكّم من  شرط إغلاق الجزيرة وجرّ النّاقدين (و حتى الذين لم يكونوا يوما عالمين بسياسات قطر) إلى التّعرّف على تفاصيل قمّة الرّياض.

هي كلمة واحدة إذن جلبت اهتمام كثيرين لا يعرفون من الخليج سوى كلمتين مفتاحيتين: البترول و الجزيرة. واضح أن هذه الجزيرة مؤسسة بمكانة دولة، تربّعت على عرش تصنيف القنوات الصّادحة  بالفصحى ونالت مكانة لا بأس بها لدى متابعي الشّأن العربي و متعلّمي اللغة العربية النّاطقين بغيرها أكثر. هي الجزيرة إذن تتقدّم صورة قطر  لدى هذه الفئة من المهتمّين بالثقافة واللّغة العربية، فبماذا ترتبط صورتا السعودية والإمارات في أذهانهم؟

التنكر للهوية

لاشكّ أنّ تآمر العرب على لغتهم، حكومات و شعوبا، (قَسرا كان أو طوْعا) لا يمكن تفسيره سوى بالغباء أو بالتنكّر للهوية وهدر لثروة كان من المُمكن أن ترفع شأن هذه الأمّة إلى مصافي الأمم التي استثمرت تاريخها و دُرَرِ حضاراتها. ورغم هذا التّفريط و الهدر لثروة اللّغة (والأمر لا يختلف عن باقي ثروات العرب المهدورة) ما زال عدد لا بأس به من جميع أصقاع العالم يتهافت على تعلّم هذه اللغة المُصنّفة في المراتب الخمس الأولى الأكثر تداولا. و ممّا لاشكّ فيه أيضا، أن العمل على ضرب الهويّة العربية و اللّغة كهدف استراتيجي لا يُمكن أن يأتي أكله في المجتمع الأمّ بسهولة بفضل السلوك الدّفاعي الغريزي لدى الإنسان.

لكن المؤسف في الأمر انّ إهمال هذا المجال في سياسات الأمة قاطبة وعدم بذل مجهود يليق باستقطاب الآخر يجعل الرّاغبين في تعلّم اللّغة العربية من خارج أراضيها يواجهون صعوبات كثيرة تنتهي بأغلبهم  الى التّخلي عن هذه التّجربة. وأوّل ما يصدم طالب العربية النّاطق بغيرها هو كثرة اللّهجات النابعة منها و جهل العرب أنفسهم بقواعد لغتهم المُتعلّقة أساسا بالنحو والصّرف و الرّسم. قواعد يشقى الطالب منهم في تعلّمها ولا يلقى لها صدى لا على أرض الواقع ولا حتى في الفضاء الإعلامي الذي يدّعي تجاوز المحلية ومراعاة احتياجات الآخر المقبل على لغته و ثقافته. 

في المُقابل، دعونا نُلقي نظرة خاطفة عن اهتمام الأمم الأخرى بلُغاتها وحرصهم على نشرها.

الوعي الأمريكي

في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وَعت الولايات المتحدة الأمريكيّة أن تفعيل الاهتمام باللّغة الانجليزية أمر يتجاوز القيمة المعرفية والثقافية، بل هي أداه حرب وجب تطويرها لتسهيل الغزو و الدفاع والاستقطاب و حتى الجاسوسية. فعملت على المعالجة العلمية لبعض النقاط المتعلقة بتقييم إتقان اللغة وأرست مع الوقت أُطُرا معيارية تخرج بتقييماتنا لشخص يعرف لغة ما من جيد أو متوسط أو ضعيف إلى وحدات قياس كُبرى مُتعارف عليها عالميا بدرجات مختصرة بحروف A,B,C… وصغرى تنحدر منها مثال C1,C2,C3، ما نُطلق عليه اليوم درجات اختبارات التويفل و الآيلتس مثلا.

وأسوة بهذه الخطوة الذّكية، نهجت البلدان الأوربية العظمى مؤخّرا على منوال التجربة الأمريكية وأرسوا الإطار المرجعي الأوربي المشترك للغات CEFR. مبادرات تعمل جميعها على توحيد مقاييس التّقييم اللّغوي  لكلّ لُغة، تُشبه وحدات قيس المسافات و الوزن …فمثلا من أجل انتداب أشخاص لعملٍ ما، يكفي أن يذكُر باعث العرض أنه من بين الشروط هو الحصول على مستوى C1 في الإنجليزية و B3 في الفرنسية. و بالتالي، يختصر المُشغّل الوقت الكثير في التقييمات النسبية للمترشّحين ويحسم أمره بحصر الاختيار في المُترشحين الذين يتوفّرون على هذه الشروط مهما كانت جنسياتهم.

تصوّروا أنّه وسط هذا التّدافع على ترسيخ اللّغات في مجتمعاتها الأم و العمل على نشرها و فتح كل الأبواب لاستقطاب الآخر، ما زالت بلداننا العربيّة تتعثّر ولم تتوصّل بعد إلى دعم مشروع قومي يُرسي إطارا لغويا مرجعيا يستر حال الأمة على الأقلّ في هذا الجانب.

صحيح أنّ هناك بعض المحاولات المتناثرة لكنّها تكاد تقودنا إلى تصديق استنتاج مُرّ “اتّفق العرب على أن لا يتّفقوا”.

الجزيرة وتعليم اللغة

ووسط هذا الفشل تتوه مبادرات النّهوض باللغة و إقناع الأجيال الصّاعدة بقيمة هذه الثّروة التي يقبل عليها أجانب يقتفون أثر الكلمة الصّواب و النّطق السّليم. فقر معرفي تفطّنت له الجزيرة مُبكّرا، فعملت على دعمه، وأنشات موقعا مُتميّزا جعل من خدماته تعليم العربية للناطقين بغيرها مُراعيا كالعادة؛ المهنية العالية والتوجّه الى فضاء الجمهور الرّحب عربا كانوا أو عجما.

من الطبيعي إذن أن يضع العديد من الرّاغبين في تعلّم اللغة العربية ثقتهم في هذه المُؤسسة، ويتأثّرون حتى بأداء بعض نجومها إعجابا. ربّما مُشكلة قطر هي أنها سعت مُبكّرا إلى الرّيادة في مجال الإعلام والثقافة والمعرفة في بيئة خالية من التّنافس، مجال لم يراهن عليه خُصومها واستثمروا في ما جادت به قرائحهم. فاستفردت الإمارات بالارتفاع بأبراجها وتوفير مالذ وطاب و حُرِّم بسخاء وبالشكل الذي يجعلها نقطة لقاء عالمي لكل طالبي اللّذة والمولعين بمراكمة الأموال بطرق لا يعلمها إلا الله.

أمّا السعودية فحضورها في الأذهان هنا لا يتجاوز كونها بلد التناقضات. أشبه بالقفص الذهبي فهو البلد الذي يسطّر نظام حياة خانق لإناث مملكته باسم الدّين ويفرش رجاله الأشاوس السّجاد الأحمر و ينحنون أمام ابنة ترامب وزوجته باسم السياسة، ومُغدقين عليهن أموال البلد باسم السياسة والصفقات أيضا.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه