“إسرائيل” وجنوب سوريا وكسر الحواجز

على مدار سبع سنوات ما زالت “إسرائيل” تعمل على قلب الصّورة لدى عامّة النّاس في جنوب سوريا بكلّ هدوء وذكاء ومكر.

دأبت إسرائيل على كسر الحواجز بينها وبين العالم الإسلاميّ وتطبيع العلاقات مع المستويات كافّة سياسيّة وثقافيّة وعسكريّة، غير أنّها كانت على الدّوام تصطدم بصخرة الرّفض الشّعبي في عموم العالم العربي والإسلامي لتقبّل إسرائيل فكرةً وواقعًا.

ولا يخفى على ذي بصرٍ وبصيرةٍ أنَّ أخطر أنواع كسر الحواجز مع الكيان الإسرائيليّ هو كسرها مع الشعب الذي ما زال يراها عدوًّا يحتل الأرض ويدنّس المقدّسات، وقد وجدت إسرائيل نفسها في أزمةٍ مع انطلاق ثورات الرّبيع العربي لا سيما الثّورة السّوريّة وانسحاب قوّات الأمم المتحدّة ونظام الأسد من حدودها الشّماليّة وسيطرة فصائل الثّورة غير أنّها مع تصاعد بطش النّظام عملت على تحويل الأزمة إلى فرصة وقد استثمرتها باقتدار كبير.

وفضلًا عن نجاح الكيان الإسرائيلي في استقطاب عدد من الشخصيات الهامشيّة في المعارضة السوريّة واستثمار بطش النّظام في المعتقلات والميادين لفتح الباب على مصراعيه أمام الجمهور السوريّ والعربي عمومًا أمام المقارنة بين البطشين والمفاضلة بين الإجرامين، غير أنّ إسرائيل كانت تعمل بدهاء كبير في الجنوب السوريّ في حوران التي هي مدينة درعا وريفها ومعها ريف القنيطرة التابع للجولان على كسر الحاجز النفسي تجاه إسرائيل عند الشّعب الذي عاش بطشها وإجرامها وعاين أكثر من غيره من أبناء الشعب السوري إجرامها ومجازرها، مستندةً في ذلك على ركيزتين أساسيتين  هما بطش النّظام وسلوك دول الجوار، وقد مارس الكيان الإسرائيلي مجموعة من السياسات والإجراءات لقلب الصّورة والتغلغل بصورة جديدة في الوعي الشّعبي.

  • معالجة جرحى أم جَرحُ قناعات؟

مع تصاعد بطش النّظام واستهدافه للنّقاط الطبّية البدائية التي تسمى مجازًا مستشفيات ميدانية لم يكن أمام أهل حوران إلَّا إرسال جرحاهم إلى الجار الجنوبي؛ الأردن التي كانت تستقبل الجرحى ضمن شروط قاسية في البداية وتكاليف باهظة، وتُخضِع استقبالهم لحساباتها مع فصائل الثورة ومدى رضاها عن معاركهم، ثمّ وصل الأمر إلى إغلاق الحدود تمامًا أمامهم ليموت عدد غير يسيرٍ منهم على الشّيك الحدودي، هنا تدخّلت إسرائيل بكلّ دهاء لترسلَ سيّارات إسعاف مع فرق طبيّة من نجمة داود إلى عدة نقاط من الحدود، ووقع النّاس ابتداءً في حيص بيص، لكنّهم أمام الأطراف المبتورة والأحشاء النافرة من أماكنها والأرواح المزهقة على الشيك الحدودي المغلق لم يجدوا بُدًّا من إرسال أبنائهم إلى عدوّهم الذي أرضعوهم أنَّ التعامل معه خيانة ورجس عظيم، ليتفاجؤوا بأنَّ هذا العدوّ يعالج أبناءهم في أرقى المستشفيات ويبالغ في اهتمامه بهم ويستقبلهم دون السّؤال عن انتماءاتهم، فقد استقبل الآلاف منهم من عموم النّاس ومن الفصائل المصنّفة إسلاميّة وغير إسلاميّة ومعتدلة وغير معتدلة، ليرجع هؤلاء الجرحى دون أن يشعروا سفراء للوجه الإسرائيليّ المُراد إطهاره، فيتحدّثون بتلقائيّة عن حسن المعاملة والحفاوة، ولأنّ الناس مفطورون على المقارنة فهم يستحضرون مع هذا المشهد صورة النّظام الذي يقتلهم باسم المقاومة والممانعة ولا يجرؤون على الوصول إلى مستشفياته، كما يستحضرون إغلاق حدود الإخوة في وجوههم، لتنتشر عبارة تلقائيّة “إسرائيل أحسن من العرب”، هذه العبارة التي تستحقّ كل الأثمان التي يدفعها الكيان الإسرائيلي لتنتشر شيئًا فشيئًا في أعماق الوعي بفضل بطش الطّغاة وجور الأخوة، وهنا يبرز سؤالٌ كبيرٌ وهو هل حقًّا كان إغلاقُ الحدود الأردنيّة في وجه الجرحى لإجبارهم للذهاب إلى المستشفيات الإسرائيليّة قرارًا سياديًّا؟

  • إسرائيل المحاصِر والمغيث

عندما حاصرت مليشيات جزب الله اللّبنانيّ عددًا من القرى والبلدات في ريف القنيطرة، وبلغ الجهد من أهلها مبلغه جوعًا وحاجةً تقدّمت إسرائيل لتستثمر اللّحظة وتلقي على تلك البلدات من الجوّ سلالًا تحمل الغذاء والدّواء، نعم إنَّها إسرائيل التي تحاصِر غزّة من أحد عشر عامًا وتفتك بأهلها تغيثُ المُحاصَرين من إخوانِهم في ريف القنيطرة، هؤلاء المُحاصَرين الذين لم يَحفلوا بكلّ تهم النّظام لهم بانّهم مرتزقة إسرائيل، واكتفوا بترديد “يلعن أبوكو على أبو المقاومة” وما أغلاه من ثمن يضعه نظام الأسد وميليشيات حزب الله في جيب الكيان الإسرائيليّ، فالمُحاصَر لا يُلام إن سبَّ من يحاصره وسبّ الذريعة المعلَنة لحصاره.

  • معركة حوران وإغاثة الملهوف

ما إن شنّت روسيا والنّظام المعركة الأخيرة على حوران حتّى شهدت القرى والمدن والبلدات موجات نزوح غير مسبوقة تجاوزت 350 ألفًا بسبب القصف الجنوني، وتوجّه النّازحون ابتداءً إلى الحدود الأردنيّة ليجدوها محكمة الإغلاق والبنادق مشهرة في وجوههم، وليصرّح رئيس الحكومة، ابن اللاجئ السوري إلى الأردن عمر الرزّاز: “إنّ الأردن استقبلت لاجئين أعلى من قدرتها ولن يتمكن من استقبال مزيدٍ منهم، وإنَّ الحدود الأردنيّة محكمة السّيطرة ومنيعة ولا خوف عليها بفضل الجيش الأردني والقوات المسلحة” ويبقى اللاجئون في العراء يلقى عشرات من أطفالهم حتفهم بسبب لدغ العقارب وفقدان الماء، وفي الوقت نفسه توجّه عشرات الآلاف إلى الحدود مع الجولان المحتلّ ليتعامل معهم الكيان الإسرائيلي من جديدٍ بدهاء كبير وليعلن الناطق باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي في بيان له “جرت الليلة الماضية عملية ليليّة خاصّة في أربع مناطق لنقل مساعدات إنسانيّة مخصّصة للسّوريين الفارّين في مخيمات بالجانب السوري من هضبة الجولان، خلال العملية اللّيليّة التي استغرقت عدّة ساعات تمّ نقل نحو ثلاثمئة خيمة بالإضافة إلى ثلاثة عشر طنّ غذاءً وثلاثة أطنان غذاءً للأطفال وثلاث منصّات نقّالة محمّلة بالمواد الطبّية والأدوية وثلاثين طنًّا من الملابس والأحذية”، وتبثّ وسائل الإعلام صورًا منتقاة بعناية لهذه العمليّة التي أطلقت عليها إسرائيل “الصّديق وقت الضّيق”، ولكم أن تتخيّلوا حال النّاس الهائمين على وجوههم في العراء من قصف نظام المقاومة والممانعة وحدود الأخ مغلقة في وجوههم ولم يجدوا يدًا تغيث لهفتهم إلَّا يد العدوّ، ولكم أن تعيدوا السؤال مرّة أخرى؛ هل حقًّا مَنَعَة الحدود في وجه لاجئين عزل بصمت من دول العالم كلّه هو مجرّد قرارٍ سيادي؟

  • الخوذ البيضاء وإنقاذ المُنقِذين

وبعد انتهاء معركة حوران، قَبلَ النّظام المنتصر أن يقوم بتسوية أوضاع المقاتلين، غير انه استثنى عناصر الدّفاع المدني المعروفين بالخوذ البيضاء؛ رغم أنَّ عملهم مدنيّ بحت، لكنّهم كانوا أحدَ أهمّ المؤسسّات التي فضحت إجرام النّظام في المحافل الغربيّة لذلك اتّهمها هو وروسيا بالوقوف وراء الهجمات الكيماويّة في مناطق مختلفة من سوريا، وهنا تتدخّل إسرائيل من جديد لتعلن استعدادها لإجلاءِ المئات من عناصر الدّفاع المدني وإيصالهم سالمين إلى الأراضي الأردنيّة بالتنسيق مع عدد من الدّول، ومن الطّبيعي أن لا يلتفت أهالي هؤلاء وأمّهاتهم وآباؤهم وجيرانهم وعموم أهل حوران إلى تهم النّظام لأبنائهم بالعمالة وهم الذين يعرفونهم جيّدًا، ويعلمون تمامًا أنّهم لو وقعوا في أيدي النّظام فإنَّ النّتيجة معروفة وموجعة جدًا، ولذا لا تستغرب أن تسمع من يقول: “يكثّر خير إسرائيل” هذه العبارة وحدها ثمن يستحقّ أن تفعل إسرائيل ما فعلته وأكثر مع الخوذ البيض.

  • المعركة المُغفَلَة

على مدار سبع سنوات ما زالت “إسرائيل” تعمل على قلب الصّورة لدى عامّة النّاس في جنوب سوريّة بكلّ هدوء وذكاء ومكر، في حوران التي تعدّ حجر الزّاوية في سورية كلها لموقعها الجيوسياسي وتأثيرها في المعادلة السياسية والأمنيّة للكيان الإسرائيلي، ولا يشكّ عاقلٌ في أنّ ما يجري في سورية من دمارٍ وخرابٍ وتخلّي الدّول عن شعبها من أهمّ أسبابه وقوعها في جوار إسرائيل، فهي ضالعةٌ في كلّ ما يجري أفصَحت أم لم تفصح؛ غير أنَّ إسرائيل عدوّ عاقل، يمارس من الإجرام ما هو أعظم بكثيرٍ ممّا هو ملطّخ على يديه المكشوفتين، وقادرٌ على استغلال الحوادث وقلب الصورة من خلال اللعب على الجزئيّات والفرعيّات وإغفال الأسباب الكليّة والقضايا الجذريّة.

ولئن كان تحسين صورة الكيان الإسرائيلي أو الحيلولة بينه وبين ذلك جريمة كبيرة؛ فإنَّ من يتحملّ مسؤوليّتها هم من فتحوا له الباب على مصراعيه لينفّذ مراميه التي طالما فشل بها، فلا تلوموا الشّعب المكلوم المضطهد الذي أغلقت كلّ الأبواب في وجهه ورأى أبناءه تتناثر أشلاؤهم وتزهق أرواحهم بيد الجلّاد وطائرات الطاغية وخذلان الأخوة ثمّ جاءه عدوّه يلبس جلد الضّأن على قلب الذئب إذا قبل من الذّئب ما يبقيه على قيد الحياة، بل اسألوا نظام الأسد ومن معه من إيران وحزب الله؛ فهم من يتحمّل المسؤوليّة الأكبر في تجميل صورة الاحتلال الصّهيونيّ وتشويه مفهوم المقاومة وفتح الباب على مصراعيه أمام التّطبيع الشعبي الذي لم تكن تحلم به إسرائيل يومًا، كما يتحمّل المسؤوليّة الجار الأردنيّ الذي أغلق أبوابه وحدوده وجعل النّاس يقارنون بين خذلان الأخ وعون العدو الخبيث، ولا يعفى من المسؤوليّة كيانات الثورة والمعارضة ومؤسساتها التي فشلت فشلا ذريعًا في قيادة الثّورة وفشلت في إدارة أمور النّاس الذين وثقوا بهم، ثمّ تركت النّاس نهابًا للكيان الإسرائيليّ ومخططاته دون أن تحرّك ساكنًا في وجه الانقلاب المفاهيميّ الذي يعسّ كما النّار في العشب اليابس.

ولكن ما ينبغي التأكيد عليه أنَّ الأزمات العميقة تخلق ظروفًا جديدة وتصيب القناعات باهتزازات عنيفة إلّا أنَّ “إسرائيل” تكون واهمةً إن ظنّت أنّها باستغلال إجرام المجرمين تستطيع قلب القناعات الراسخة رأسًا على عقب، فما بينها وبين شعوب أمتنا ليس مجرّد أفكار نتّفق عليها ونختلف، ما بينها وبيننا مقدّسات مدنّسة وقلائد من الشهداء وحبلٌ طويل من المشرّدين وأرض محتلّة ومجازر، لكنّ لا يمكن التعويل على هذا وحده في هذه المرحلة الخطيرة؛ مرحلة صفقة القرن التي لا يمكن إلَّا أن يكون جنوب سوريا في عين عاصفتها، وهي تتطلب جهودًا كبيرةً في كشف حقيقة هذا الكيان، وإزالة الغبش الذي أحدثته الماكينة الإعلاميّة والإجراءات العمليّة للكيان الإسرائيلي، وإلّا فلات ساعة مندمِ.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه