أُمة في مفترق الطرق

هل الدين هو المسئول عما وصل إليه حال الأمة من الضعف والهوان والتناحر والفساد والانحطاط الحضاري؟

بين الحداثة والأصالة تقف الأمة الإسلامية لما يزيد عن القرنين عاجزة عن اتخاذ خطوة نحو المستقبل ، يتجاذبها اتجاهان كل منهما أشد قوة من الآخر، فبعد الضعف الشديد الذي مرت به دولة الخلافة قبل تفككها ، علاوة علي الانغلاق الثقافي الكبير الذي فرضته علي العالم الإسلامي خاصة منذ بداية القرن السادس عشر والذي سمي (بعصر التنوير ) في أوربا بعد الصدام العنيف مع الكنيسة التي مثلت السلطة الدينية وهي السلطة الأولي في الإمبراطوريات الأوربية مما أدي لانهيار كبير للفكرة الدينية داخل المجتمع الأوربي ثم نجاح الثورة الدموية بفرنسا والتي استمرت عشر سنوات ( 1789 حتى 1799 ) لتكون أول ثورة ليبرالية، ظلت الأمة الإسلامية تحتل مقاعد المتفرجين لا الفاعلين، معزولة تماما عن ممارسة أي دور عالمي فاعل ، فقُسِمت أراضيها لمستعمرات تابعة للدول العظمى التي استطاعت تخطي نفوذ سلطة اللاهوت متمثلا في الكنيسة، وتتخلص في ذات الوقت من استبداد الأباطرة ، تغيرت خارطة العالم لتستقر الأوضاع بأن يكون العالم أجمع في ناحية ، بينما الأمة العربية والإسلامية في الطرف الآخر من الحضارة الإنسانية الحديثة،  تقف الأمة بين قوتين ، قوة الحضارة الإسلامية الموروثة وسلطان العقيدة الإسلامية ، وبين جانب آخر من قوى الجذب وهو الحضارة الغربية التي تخطت سلطان الدين وتركته خلفها جملة لتستطيع في قفزات واسعة أن تصنع حضارة انتقلت بالإنسان إلى سطح القمر ، وها هي تقف اليوم علي مفترق طرق وعرة لا معالم لها يحفها الاستبداد والصراع ونزاعات بينها وبين حكامها في ثورات لم تكتمل بعد للخروج من كبوتها التي طالت .

البناء الحضاري في فجر الرسالة 

وفي خضم بحثنا عن السبب الرئيسي الذي أدي إلى انهيار الأمة لأكثر من قرنين، يطرح البعض سؤالا محوريا، هل الدين هو المسؤول عما وصل إليه حال الأمة من الضعف والهوان والتناحر والفساد والانحطاط الحضاري؟ هل الدين هو من وقف بالزمن عند حالة الانقسام وتفتيت الأمة لدويلات صغيرة وقوميات مختلفة؟ هل الدين هو المسؤول عن استبداد الحكام بالشعوب، والتلاعب بمقدرات البلاد لصالح أعدائها حفاظا على كراسيهم وكان الأجدر بهم الحفاظ على تلك الشعوب بتوعيتها والبذل بما يكفي للنهوض بمستقبلها الحضاري وعلى الشعوب وقتها أن تحمي هؤلاء الحكام وتمكن لهم إن هم أدوا ما عليهم من واجب؟ هل مثل الدين حائلا بين الأمة وبين القراءة والتدوين؟ هل كان الدين مسؤولا عن ذلك أم غياب الدين والتخلي عنه هو المسؤول.
ما أشبه اليوم بالبارحة العالم بين قوتين عظيمتين هما الفرس والروم ، والعرب شتات لا تجمعهم ثقافة ولا هوية ولا هدف، إنما تناحر وسبي وعبودية وخمر ونساء، القبائل الكبيرة تبتلع القبائل الصغيرة، والحرب يشعلها بيت هجاء من الشعر، والجزيرة خراب لا يعمره إلا آباء ماء تنتهي الحياة فيها حين تجف ، فلا اللغة الواحدة كانت دافعا للاتحاد بدلا من التشرذم، ولا القومية العربية والمستقبل المشترك كان حافزا علي بناء دولة، ولا الأصل والنسب كانا مانعين للوقوع في الرق إذا ختمت حربه مع أحد القبائل بالهزيمة، ثم أتى الإسلام ليس لبناء دولة ، وإنما لبناء إنسان ” اقرأ ” ، إنسان ” لا فضل لعربي علي أعجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح ، إنسان ” إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه ،  إنسان ” إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن يغرسها فليغرسها، إنسان ” تداووا عباد الله فإن الله قد جعل لكل داء دواء “، إنسان سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ليبدأ ” بإمام عادل ” ، إنسان أفضل الجهاد كلمة حق تقال عند سلطان جائر “، إنسان لا يعرف العصبية إلا لدينه ، ولا يغضب إلا لانتهاك محارم الله ، إنسان لا يعرف إلا العمل والإنتاج ، ويجعل الصلاة كالقائم علي الأرملة والمسكين ، إنسان ” قل سيروا في الأرض فانظروا ” ، أتى الإسلام ليبني ذلك الإنسان فسعى به وانطلق من صحراء الجزيرة العربية لسعة العالم فاتحا مُحبا حاملا بين يديه الخير له ، ومن هنا يتضح الجواب ، أن غياب الدين هو الذي ضيع الأمة وسقط بها لأسفل سلم الحضارة 
وهنا يعن لنا سؤال آخر ونحن على مفترق الطرق هذا، هل يمكن للأمة أن تعود؟ إن الخروج من أي كبوة ليس هو الإشكالية، وإنما الإشكالية أن تعي الأمة أنها في حاجة للتغيير وأنها يجب أن تختار والآن، وإلا فإنها ستذهب للتيه عشرات من السنوات الأخرى قبل أن تدرك ذلك، يجب عليها أن تحدد اتجاهها بصدق ذاتي دون أن تتلفت على العابرين هنا وهناك، فربما لهم هدف غير هدفها، وسبل قد لا تتفق مع سبلها  

لماذا تقدم الغرب وتخلف المسلمون؟

ونطرح السؤال الطبيعي في هذا المضمار، إذا كان الإسلام هو الحافز الأول والوحيد للبناء الحضاري للفرد المسلم والأمة المسلمة، فلماذا تقدم الغرب بغير دين؟ بل وبِعَداء كبير لكل ما يمثل الدين؟ والجواب يتضح لنا من خلال استعراض تاريخ الكنيسة في عصر التنوير وموقفها من العلم والعلماء الذين وصمتهم بالكفر والخروج عليها ومعاداة الرب ، حين دخل العلم في صدام كبير مع الكنيسة التي وضعت حقائق مزيفة للكون ونسبتها للدين مثل الأرض مربعة والأرض مركز الكون ، لقد حدث صدام مع العقل الإنساني والمكتشفات المبهرة فحدث الفصام ، ولأن الإنسان يحتاج إلي دين ليستمر ، فقد استبدل الغرب إله الكنيسة بالعلم ، والعقل ، والبحث ، والقانون ، لقد عبد الغربي عقله ، وحرر رب الكنيسة من معتقداتها المقدسة فأصبح الرب عندهم قابل للنقد والتحلل من عبادته ، وأصبح الحساب المجتمعي لمن يخالف القانون وليس لمن يخالف الكنيسة 
فما الذي يجبر المسلم علي نصب العداء لدينه؟ هل حدث له صدام ما؟ لقد حاول العربي أن يقلد الغربي بتلقي كل ما يأتي منه دون تمحيص واختيار فضاع منه الطريق، وتنازعت معه طبيعته وبنيته وماضيه وحضارته وهويته، ففقد البوصلة وصار مجرد تابع لمنتج حضاري ليس نابعا من جغرافيته وتاريخه 

هل يمكن البدء من جديد:

ونحن علي مفترق الطرق نستطيع أن نبدأ من جديد ، وأن نتلمس خطواتنا نحو المستقبل من أرض ثابتة ، نرتكز على خبرات متراكمة بأنساق حضارية واضحة المعالم ، إن لكل حضارة منبع تستقي منه خطواتها ، ومنبعنا الأصيل هو روح هذا الدين الذي حول أمة الرعاة إلى أمة فتحت أبواب الدنيا وملأتها عدلا ورحمة وهذا هو النسق الذي يجب أن نعود إليه ، لا أقصد بهم النموذج العباسي علي عظمته ، وهو الذي كان يزن الكتاب العلمي بوزنه ذهب كأجر لكاتبه ، ولست أقصد به النموذج الأندلسي الذي استطاع باقتدار وبراعة أن يمزج دون إسفاف بين الفكر الإسلامي والفكر الإغريقي ،فالحقيقة أن أيا من هذه النماذج لا يصلح لأن يكون نسقا حضاريا يمكن البناء عليه في حركة تغيير كبرى تريد من خلالها إعادة بناء وتكوين أمة 
فالنسق الحضاري الوحيد الخالي من أي شوائب بشرية هو فترة حكم النبوة والخلفاء الراشدين، تلك هي قواعد البناء السليم والمتين 
فإذا أدركنا تلك الحقيقة يمكن من خلال ذلك أن نطرح مشروعنا بتساؤلاته، ونبحث عن جواب يمكن البدء من خلاله في طرح الحلول الجذرية لقضايا ليس الدين مسئولا عنها، وإنما هي قضايا اكتسبتها نتيجة بعدها عن ذلك النسق المحوري لها وعلى هذا الأساس فقط يمكن أن تبدأ
إن على الأمة أن تعي:
ــ أن التغيير آت، وأصبح حتمية وضرورة تاريخية واجتماعية، وإلا فالخيار الآخر التيه والنسيان في غياهب التاريخ 
ــ أن أمراض الأمة ليست مجرد الاستعمار، ولا التآمر الخارجي، وإنما أمراض الأمة ذاتية إن هي أدركتها كان البرء سهلا وسريعا وعميقا، وبينما رياح التغيير تهب الآن من الجنوب وقد مرت مسبقا بشمالها وغربها وشرقها، فقد آن الأوان لاتخاذ القرار الصحيح في بناء على أساس هوية تخصها وحدها دون العالمين.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه