أية حكومة تحتاجها تونس؟

 

نجحت تونس منذ الثورة إلى الآن في تخطي مصاعب كثيرة، صار معها الانتقال الديمقراطي في مأمن إلى حد بعيد من الانتكاس، ولكن هذا لا يمكن أن يخفي أنّ البلاد في المستوى الاقتصادي والاجتماعي مازالت بعيدة عن تحقيق طموحات مواطنيها الذين تزايدت عندهم تكاليف المعيشة لمستويات غير مسبوقة.

والحال أنّ تونس هذه الأيام تعيش على وقع تشكيل حكومة جديدة بعد الإعلان النهائي على نتائج الانتخابات التشريعية، فإنّ السؤال الحقيقي والمحرج لكل الطبقة السياسية: أية حكومة تحتاجها البلاد في ضوء التحدي الاقتصادي والاجتماعي الخانق؟

1- حكومة بسند سياسي:

عرفت المرحلة السابقة عديد التقلبات على المستوى السياسي أثرت بشكل بالغ على استقرار الحكومات المتعاقبة بعد الثورة (عشرة حكومات في ثماني سنوات) بما انعكس سلبا على الإنجاز.

يعود العامل الأساسي في هذا الأمر إلى ضعف الحزام السياسي للحكومات السابقة وانعكاس مشاكل الأحزاب الداخلية على استقرار العمل الحكومي، إذ لا شك أنّ التونسيين اليوم لا يرغبون في تكرار ما حصل خاصة بعد انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2014 عندما وجدت حكومتا السيد حبيب الصيد ومن ثم السيد يوسف الشاهد نفسيهما من دون غطاء سياسي من حزب نداء تونس الذي أتى بهما بعد فوزه في الانتخابات.

بناء على ذلك يجب أن يكون واضحا عند جميع الطبقة السياسية أنّ الحكومة القادمة، من دون سند سياسي قوي، لن تكون لها فرصة في النجاح وأنّ البيت قد يقع على ساكنيه.

2- الدمج والتركيز:   

كانت من الملاحظات الأساسية على حكومات ما بعد الثورة التوسع غير المعقول في عدد الوزراء وكتاب الدولة ففي 6 من سبتمبر/أيلول 2017 وإثر تحوير وزاري من طرف يوسف الشاهد أصبحت تركيبة الحكومة مكونة من 28 وزيرا و15 كاتب دولة.

هذا التوسع غير المبرر في ظل أوضاع اقتصادية صعبة كان محل امتعاض داخل الشارع التونسي، زاد مع ما وقف عليه التونسيون من ضعف فادح لدى مجموعة من الوزراء كشفتهم تجربة المناظرات التي أقيمت بمناسبة الانتخابات التشريعية والرئاسية الأخيرة.

إنّ الحكومة القادمة يجب أن تتصرف كحكومة أزمة بالرغم من كونها نابعة عن انتخابات، فالمطلوب منها بشكل واضح هو أن تجد حلولا للمشاكل المتراكمة وأن توقف النزيف على المستوى الاقتصادي وهذا يستلزم حكومة سريعة الحركة متقلصة العدد، وهذا يقتضي دمج بعض الوزارات القريبة من حيث الاختصاص وإلحاق بعض الملفات برئاسة الحكومة لتخفيف البيروقراطية الإدارية وخاصة في علاقة بإنجاز المشاريع الكبرى.

في هذا الصدد يمكن الحديث عن مركبات وزارية تجمع أكثر من وزارة خاصة ذات العلاقة المباشرة بالحياة اليومية للمواطنين بهدف تقليص الحلقات الإدارية والتنسيق السريع.

3- محاربة الفساد:

” لا تسامح مع إهدار مليم واحد من عرق أبناء شعبنا ” هكذا خاطب الرئيس المنتخب قيس سعيد التونسيين يوم الأربعاء 23 من أكتوبر/تشرين الأول 2019 في خطاب اليمين الدستورية التي أداها أمام نواب البرلمان المتخلي.

رئيس الدولة يعلم جيدا كغيره من ساسة البلاد أنّ انتظارات التونسيين في هذا الباب كبيرة وأنّ أحد أهم مؤشرات النجاح في المرحلة القادمة هو تحقيق اختراق في هذا الملف.

ولعل النجاح الذي حققته الدولة التونسية الشهر الماضي في الخروج من القائمة السوداء لمكافحة غسيل الاموال وتمويل الإرهاب ” سيمكنها من الرجوع بأكثر وضوح للسوق العالمية ” وفق تصريح ورد على لسان محافظ البنك المركزي التّونسي مروان العباسي في ندوة صحفية خصصت للغرض.

هذا الإنجاز سيجعل التحدي أكبر أمام الحكومة القادمة في تعزيز الإجراءات الكفيلة بتحسين مناخ الاستثمار المحلي والخارجي بالرفع من مؤشرات الشفافية والحوكمة الرشيدة، وهو ما يحتاج إجراءات قوية ضد لوبيات الفساد التي نجحت في السنوات الأخيرة في الاحتماء خلف جملة من الأحزاب السياسية بهدف مواصلة الاستفادة من مقدرات الدولة على حساب الطبقات الضعيفة.

4- هدنة اجتماعية:

شتاء تونس السياسي دائما ما يكون ساخنا وصاخبا بالتحركات الاجتماعية، حقيقة يعلمها كل التونسيين.

الحقيقة نفسها ستضع الحكومة القادمة أمام فوهة بركان، اذ من المتوقع أن تتم المصادقة عليها بنهاية شهر ديسمبر/كانون الأول إذا مضت الأمور بشكل طبيعي، في تزامن كذلك مع المصادقة على الميزانية الجديدة لسنة 2020 بما تحمله من تحديات على المستوى الاقتصادي خاصة تلك التي تتعلق بسداد ديون خارجية، حيث كشف وزير المالية التونسي رضا شلغوم في تصريح له يوم 25 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي أن حجم الديون التي يتوجب على الدولة التونسية سدادها في 2020 تفوق 4 مليارات دولار، وهو ما سيضطرها لاقتراض 11.4 مليار دينار تونسي لتمويل الموازنة الجديدة.

كل ما تقدم يجعل من الضروري الاتفاق على هدنة اجتماعية بين الحكومة القادمة والشريك الاجتماعي الأول الاتحاد العام التونسي للشغل والدعوة لعقد حوار وطني اجتماعي يضع خريطة طريق للمرحلة القادمة على قاعدة إعادة الاعتبار لقيمة العمل أو توزيع الأعباء بالعدل على كل الفاعلين الاجتماعيين.

فأي تصادم في المرحلة القادمة بين الحكومة واتحاد الشغل على شاكلة ما حصل في السنوات الماضية سيجعل الأوضاع غير قابلة للسيطرة، خاصة مع توقع لجوء اليسار الجريح بفعل نتائج الانتخابات لتوظيف تواجده القوي في جملة من النقابات لصالح عرقلة العمل الحكومي.

5- دور فاعل في ليبيا:

صحيح أن الدبلوماسية الخارجية هي من صلاحيات رئاسة الجمهورية في الدستور التونسي، ولكن لا يتصور أن يتم اتخاذ أي قرار بعيدا عن استشارة رئيس الحكومة.

في هذا الصدد فإن حجم التوافق بين رئيس الحكومة القادم ورئيس الجمهورية قيس سعيد في الملف الليبي يعتبر أمرا حيويا واستراتيجيا للدولة التونسية.

إنّ العلاقة مع ليبيا مهمة بقدر أهمية الشأن الوطني التونسي ولا يمكن لتونس أن تطمئن قبل أن يعود الاستقرار للجار الشرقي، وهنا يأتي دور الدبلوماسية التونسية في أن تكون وسيطا بين الفرقاء الليبيين وتعزز مستوى التعاون على المستوى الأمني والاقتصادي بين البلدين الشقيقين.

كما أنّ استصحاب الجار الغربي الجزائر في أي حل ليبي- ليبي يعتبر شرطا للنجاح في هذا الملف، إذ إن الاتفاق بين الجزائر وتونس في خصوص الملف الليبي سيكون له عائد إيجابي كبير على المنطقة ويقطع الطريق أمام أجندات دولية وإقليمية تريد أن تعبث بأمنها.

إنّ تونس اليوم أمام فرصة تاريخية لتعزيز دعائم انتقالها الديمقراطي، ولكن هذا يمر حتما بضرورة إيجاد حلول عاجلة لوضعها الاجتماعي والاقتصادي المترهل، وهو شرط النجاح الأساسي لأية حكومة قادمة رغم صعوبة المهمة في ظل التشتت الكبير الذي نتج عن انتخابات أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه