أيبك وأقطاي يبعثان من جديد

وسيطرت على السيسي رغبة الإنتقام من رئيسه السابق الذي أهانه يوما أمام زملائه الضباط الصغار حين وصفه بـ(بالضابط النتن)، ثم هاهو اليوم يريد إزاحته عن عرشه بانقلاب ناعم.

تروي كتب التاريخ المصري أن الملك (المملوك) عز الدين أيبك قتل صديقه المملوك فارس الدين أقطاي في 17 سبتمبر 1254، ثأرا لإهانات قديمة وجهها له زعيم المماليك البحرية أقطاي، ظل أيبك محتفظا في ذاكرته بإهانات أقطاي له حتى تمكن تماما من حكم مصر بعد زواجه من شجرة الدر، ولم يتوان عن قتل أقطاي حين شعر أنه يدبر انقلابا عليه بعد زواجه من أميرة أيوبية تضمن له تحسين وضعه السياسي والإجتماعي.

هذه القصة التاريخية الحقيقية تكررت خلال اليومين الماضيين مع فروق بسيطة، ذلك أن المشير السيسي فعل مع غريمه وقائده القديم الفريق سامي عنان ما فعله أيبك مع أقطاي، بعد أن وجد نفسه مهددا بفقدان عرشه الذي وصل إليه بانقلاب دموي، ولم يقتصر الأمر على حرمان غريمه من الترشح لأسباب هزلية، بل اعتقله وأحاله للتحقيق دون حضور محامين، واقتحم بيته وروع أهله، كما اعتقل عددا من مساعديه، وكان من الممكن أن يقتله وربما لا يزال الخيار قائما، وكل ذلك فقط لمجرد أنه قرر أن ينازله في معركة تبدو انتخابية وحقيقتها أنها منازلة بين مراكز قوى انتصر فيها فريق على آخر في الجولة الأولى، ولا تزال مفتوحة لجولات أخرى.

الضابط النتن

نفذ السيسي تهديده الواضح الذي أطلقه في ختام مؤتمر (حكاية وطن) بأنه لن يسمح للفاسد الحرامي وقصد به عنان أن يجلس على (هذا الكرسي)، ولم يشفع لعنان موقعه السابق كرئيس لأركان حرب القوات المسلحة، ونائب لرئيس المجلس العسكري الحاكم خلال الفترة الإنتقالية عقب ثورة يناير 2011، ولم يشفع له تنازله عن الترشح في مواجهة السيسي في 2014، كما لم يشفع له استمرار عضويته الشرفية في المجلس الأعلى للقوات المسلحة حتى الآن، وسيطرت على السيسي رغبة الانتقام من رئيسه السابق الذي أهانه يوما أمام زملائه الضباط الصغار حين وصفه بـ(بالضابط النتن)، ثم ها هو اليوم يريد إزاحته عن عرشه بانقلاب ناعم.

كان واضحا منذ بداية ترشح الفريق عنان في مواجهة السيسي والذي أكسب المعركة طعما خاصا، أن ما يحدث ليس عملية انتخابية حقيقية كما أنه ليس مجرد مسرحية هزلية فيها البطل والكومبارس، ولكنها كانت معركة بين مراكز قوى على شاكلة معارك المماليك البرجية والبحرية من قبل، وكان واضحا أنها ليست معركة الشعب في الأساس، وإن كان الشعب هو الذي يمكن أن يرجح كفة أحد الطرفين بعد تساوي مصادر قوتيهما الأخرى في الأجهزة الأمنية والعسكرية والإعلامية والبيروقراطية والمالية إلخ، ومع ذلك فقد كانت تلك المعركة مفيدة للشعب وللقوى السياسية التي تؤمن بالتغيير من خلال الصندوق والتي سدت أمامها أبواب التغيير، وتعاملت مع ترشح عنان باعتباره مجرد رافعة تساعدها في فتح المجال العام بعد إزالة الصخرة التي يمثلها حكم السيسي (للتذكير هناك قوى سياسية على رأسها جماعة الإخوان المسلمين والكثير من القوى الإسلامية ظلت ثابتة على موقفها باعتبار الانتخابات هي مجرد عملية شكلية تستهدف إسباغ شرعية على نظام فاقد للشرعية منذ إنقلابه في الثالث من يوليو 2013).

مواصلة الحرب

اعتقال عنان ومحاكمته مجرد جولة أولى في صراع المماليك الجدد، فلكل منهما رجاله ومراكز قوته، وستشهد الأيام المقبلة فصولا وجولات جديدة لا يمكن لأحد التكهن بمساراتها، فالسيسي الذي خصص الجيل الرابع من حربه دفاعا عن كرسيه ضد زملائه ورؤسائه العسكريين (بعد جولاته الثلاث السابقة ضد الإخوان وشباب يناير وبعض الرموز القديمة) سيواصل هذه الحرب للتخلص من كل قائد عسكري يشتم منه رائحة العمل ضده، فقد تخلص من عشرات اللواءات في المخابرات العامة التي يشعر نحوها بقلق، ولا يثق كثيرا فيها وفقا لتسريبات مدير مكتبه اللواء عباس كامل الذي عينه السيسي رئيسا لها بعد إقالة رئيسها اللواء خالد فوزي يوم 18 يناير الماضي، كما سبق للسيسي أن أقال صهره رئيس الأركان السابق اللواء محمود حجازي في أكتوبر الماضي عقب حادث الواحات الذي قتل فيه 16 ضابط شرطة، وأقال اللواء أحمد وصفي قائد الجيش الثاني في مايو الماضي، كما اختفى عن الأنظارالفريق أسامة عسكر قائد الجيش الثالث السابق ومساعد وزير الدفاع للمنطقة الشرقية، ولم يظهر إلا في بعض المناسبات البروتوكولية، وبالطيع لا يمكن تجاهل شحن الفريق قائد الطيران ورئيس الوزراء الأسبق من الإمارات في طائرة خاصة ووضعه حتى اليوم في إقامة جبرية بعد اعتزامه الترشح للإنتخابات الرئاسية، وكذا حبس العقيد أحمد قنصوة الذي أعلن نيته الترشح أيضا، ومن المتوقع أن يطيح السيسي خلال الفترة المقبلة بأعداد أكبر من القادة العسكريين القريبين من الفريق سامي عنان، أو المشتبه بعلاقتهم به، لكننا في الوقت نفسه لا نستطيع التكهن بردود فعل رجال عنان، وما إذا كانوا سينتظرون حتى تمتد سكاكين السيسي إلى رقابهم، كما لا يمكن تجاهل وجود حالة غضب داخل المؤسسة العسكرية على الأقل بين القيادات الوسيطة التي تستشعر الإهانة لما وصلت إليه صورة القوات المسلحة في نظر الشعب بعد إظهار ضباطها المقاتلين في صورة مثيرة للسخرية على خطوط الجمبري والبلطي والبسكويت، وكذا غضبها لطرق التعامل مع شفيق وعنان وقنصوة.

لم تخلُ هذه الجولة الطاحنة بين السيسي وعنان والتي حسمها الأول لصالحه مبدئيا من فوائد لجهة تحريك الدماء في شرايين الحياة السياسية المصرية ولو لبعض الوقت، كما أنها كشفت للمغيبين نوايا السيسي في استمرار الإستثار بالحكم مهما كلفه من ثمن، وكشفت للقوى السياسية التي راهنت على التغيير من خلال الانتخابات أنه باب مسدود، وبالتالي فإن عليها أن تعود للمسار الثوري الذي تراجع، ولم يتبق منه سوى بعض المظاهرات الأسبوعية المحدودة لتحالف دعم الشرعية، وبعض التحركات الحقوقية والإعلامية في الخارج، وهذا المسار الثوري يتظلب توحدا للقوى الوطنية الراغبة في التغيير على برنامج عمل موحد للخلاص من هذا النظام وإعادة المسار الديمقراطي.

                              

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه