أيام من جمر المحنة.. شاهد على سجون مبارك

الرئيس المصري الراحل حسني مبارك توفي عن عمر يناهز 91 عاما

 

وكأنه لم يكفه ثلاثين عاما حكم فيها مصر، حتى أطاحت به ثورة شعبية بدأت في الخامس والعشرين من يناير عام ألفين وأحد عشر، حتى أصر حسنى مبارك عند رحيله عن عمر يناهز اثنين وتسعين عاما على أن يتركنا في حالة من الجدل “المصطنع”. هل نشهد له أم عليه؟ هل نبكي عليه أم نبكي لحالنا؟ البعض طالب بعدم غمط حق الرجل فيكفيه أنه من أبطال حرب أكتوبر!! وأنه جنب مصر الحروب.. وحافظ على استقرارها. إلخ

وآخرون أعلنوا أنهم سامحوا الرجل على ما فعله فيهم من سجن وتعذيب، رغم أنه لم يعلن توبته وندمه قبل موته، وطلبه العفو من عموم المصريين، لكن البعض على الرغم من ذلك تطوع به !!

وأطل ثالث كعمرو موسى، وزير خارجية مبارك لسنوات طويلة، عبر حسابه على تويتر ليطالب بعدم الانشغال بحساب الرجل يوم وفاته، بل التفرغ لطلب الرحمة له، مع أنه هو نفسه من شغل نفسه يوم وفاة الرئيس محمد مرسي، بذكر ما اعتبره من خطايا مرسي – رحمه الله- في الاثنى عشر شهرا التي حكم فيها مصر!

التراجع في عهده:

مبارك لم يمتلك أي فضل على شعب مصر الذي أسلمه على مدار سنوات حكمه للفقر والمرض والتخلف، وتراجعت الدولة في عهده تراجعا مخيفا داخليا وخارجيا، ويكفيه ثورة الشعب عليه في نهاية المطاف كاستفتاء شعبي عليه بدون رتوش.

ما يهمني هنا هو تسجيل شهادتي على الأوضاع الإنسانية والحقوقية في عهده وذلك من خلال ما عايشته في سجونه ومعتقلاته على مدار اثني عشر عاما قضيتها معتقلا متنقلا بين عدد من تلك السجون، فكوني معتقلا يعني أنني لم أرتكب ما يخالف القانون لذا لجأوا إلى الجبس الإداري.

فقد طوَّر مبارك استراتيجية للقمع في مواجهة الاحتجاجات التي قادتها الجماعة الإسلامية في الثمانينيات، قبل أن ينجح في بداية التسعينيات في جرها إلى دائرة العنف ليشرعن العصف بها واستباحة كل الخطوط الحمراء في مواجهتها.

ديمومة حالة الطوارئ.. والتوسع في الاعتقال

وعد مبارك عند توليه الحكم عقب اغتيال الرئيس الأسبق أنور السادات بألا تدوم حالة الطوارئ أكثر من أشهر معدودة لكنها استمر لثلاثين عاما متصلة، إذ وجد فيها ضالته في العصف بمعارضيه وقتما شاء دون اللجوء إلى إجراءات التقاضي الطبيعية التي لم تكن لتسعفه لعدم وجود جريمة فعلية تستوجب سجن معارضيه، أو الحد من نشاطهم، لذا رأي في ديمومة حالة الطوارئ الحل الأمثل لإطلاق يد رجال الشرطة لسجن من يريدون، إذ من المعروف أن قرار السجن لا يكون في الحالة الطبيعية إلا بقرار قضائي، لكن حالة الطوارئ الاستثنائية تمنح ذلك الحق لوزير الداخلية، الذي فوض بدوره صغار الضباط لممارسة ذلك وفق قرارات اعتقال معدة ومجهزة سلفا، ولا ينقصها سوى وضع اسم المعتقل فقط.

لكنه وبالرغم من هذا الوضع الاستثنائي، فإنه لم يمكن الأجهزة الأمنية حينها من كبح جماح من تريد، أو حصر نطاق الغضب المتصاعد، فعمدت إلى توسيع دائرة الاعتقال ثم خطت الخطوة الأوسع وذلك بفتح الباب على مصراعيه أمام إعادة الاعتقال لمدد مفتوحة.

إذ نصت حالة الطوارئ على عرض المعتقل على دائرة قضائية بعد ثلاثين يوما من اعتقاله، وإذا ما قررت تلك الدائرة الإفراج عنه، يحق لوزير الداخلية الاعتراض خلال خمسة عشر يوما، ودأبت الداخلية على إرسال الاعتراض في اليوم الرابع عشر لإطالة أمد الحبس، وبناء عليه يتم تحديد جلسة ثانية أمام دائرة أخرى والتي غالبا ما كانت تؤيد قرار الإفراج الأول ليصبح قرار الإفراج نهائيا وغير قابل للطعن.

هنا تفتق ذهن النظام آنذاك عن حيلة إعادة الاعتقال مرة أخرى، إذ كان يتم ترحيل المعتقل إلى جهاز مباحث أمن الدولة التابع له في محافظته لإتمام إجراءات الإفراج، الذي كان يقوم بدوره بحجزه في مكان لا يمكن للنيابة العامة الوصول إليه بسهولة حال تقدم أهله بشكوى، مثل معسكرات فرق الأمن أو غيره، وبعد أسبوع أو عشرة أيام يعاد إرساله إلى السجن مرة أخرى بقرار اعتقال جديد، على أساس أنه خرج ومارس حياته الطبيعية وارتكب ما يستوجب الاعتقال مرة أخرى، وبهذه الحيلة الشيطانية بقي الآلاف في المعتقلات لمدد تصل إلى ست عشرة سنة كاملة.

التوسع في بناء السجون والمعتقلات

مثلما افتتح السادات سنوات حكمه بمشهد تمثيلي ظهر وهو يهدم سور أحد العنابر في سجن ليمان طره، فعل مبارك مشهدا مقارباً، بالإفراج عن بعض المعتقلين الذين شملهم قرار التحفظ الذي أصدره السادات في أواخر أيامه، والاجتماع بهم بعد ذلك.

لكن وكما فعل السادات الذي بنى سجن استقبال طرة في فترة وجيزة ليضع فيه من شملهم قرار التحفظ الشهير، توسع مبارك في بناء السجون الجديدة كسجن شديد الحراسة بطرة الذي اشتهر بسجن العقرب، وسجون الفيوم ودمنهور والوادي الجديد والنطرون وأبو زعبل.. وغيرها، وكل هذه السجون جاء تصميمها مخالفا لأبسط حقوق الإنسان من حيث التهوية الجيدة، ودخول أشعة الشمس، فكانت تشهد حالات اختناق عديدة بسبب الارتفاع غير العادي لدرجات الحراري داخلها ما أدى إلى وفاة العديد من المعتقلين، إضافة إلى إصابة الآلاف بالأمراض الصدرية المزمنة، حتى إن بعض الأطباء -ممن احتفظوا ببعض آدميتهم- قالوا لنا باننا يجب أن نكون في عداد الأموات لأن الظروف المعيشية التي تحيط بنا لا يمكن أن تساعد على الحياة أبدا! خاصة مع التكدس الهائل داخل الزنازين، ما أدى إلى انتشار الأمراض المعدية والمزمنة التي أدت إلى وفاة المئات.

التعذيب وكسر الإرادة

أحد أهم الأدوات التي اعتمدها مبارك ونظامه في كسر إرادة معارضيه، فلم يكن التعذيب الذي شهدته السجون في عهده من أجل الحصول على معلومة مثلما كانت تفعل أجهزة التحقيق، بل كان تعذيبا من أجل التعذيب يهدفون من ورائه إلى كسر إرادة المعتقل وتحطيم كرامته، ما يدفعه إلى كراهية جميع المبادئ التي آمن بها وناضل من أجلها.

التعذيب في سجون مبارك كان يبدأ مع الخطوة الأولى التي يخطوها المعتقل داخل السجن.

فعلى سبيل المثال، في بدايات عام ١٩٩٥ تم افتتاح سجن الوادي الجديد، وقرر نظام مبارك إرسال المعتقلين من الوجه البحري إليه، إذ يبعد عن القاهرة بحوالي ستمائة كيلومتر، وذلك عبر دفعات، كنت في الدفعة الخامسة منها، حيث تم حشر كل خمسين معتقلا مقيدين بالكلبشات في سيارة ترحيلات واحدة، وتحرك الموكب قرب منتصف الليل وبعد رحلة شاقة استغرقت قرابة أربع عشرة ساعة، لم يسمحوا لنا فيها بقضاء حاجتنا، أو تناول الطعام، وصلنا إلى السجن القائم بمفرده وسط صحراء موحشة لا تقل قسوة عن قسوة ما كان ينتظرنا داخل ذلك السجن، فبمجرد أن تجاوزت سيارة الترحيلات بوابة السجن، فوجئنا بعشرات الجنود المدججين بالعصي ، يتجمعون حول السيارة ويدقون عليها بعنف مع سيل من الشتائم ، ثم يأمروننا بالنزول وترك أمتعتنا في السيارة، ثم أمرونا بوضع وجوهنا للحائط وخلع جميع ملابسنا ما عدا الشورت الداخلي، ليبدأ سيل من الضرب العشوائي يصاحبه هتافات هيسترية من عينة: “عبد الناصر يا حبيب احنا دخلنا تل أبيب”، ولا أدري حتى الآن هل كان هؤلاء العساكر (والمعروف أن هذه النوعية تختار من غير المتعلمين) مقتنعين فعلا أنهم دخلوا تل أبيب؟ أم كانوا يعلمون أنه مجرد هتاف لتحفيزهم على مزيد من تعذيب المعتقلين؟!!

المهم أدخلونا إلى الزنازين لا يستر عورتنا إلا شورت داخلي فقط لنفاجأ بهم يضعون لنا الطعام على أرضية الغرفة بدون أطباق والمطلوب منا أن نتحلق حوله لنأكل في مشهد أقرب إلى الحيوانية منه إلى الإنسانية!

في سجن الوادي الجديد – كما غيره من السجون آنذاك – حددوا المحظورات وفي مقدمتها منع اقتناء المصحف، أو رفع الأذان في العنبر بصوت مرتفع..إلخ، ولما تجرأ البعض وأصر على رفع الأذان، قوبل فعله بالضرب والسحل والإيداع في تأديب السجن، وكثيرون لقوا حتفهم بعد ذلك من شدة التعذيب في عنبر التأديب.

لم تكن تلك الإجراءات القمعية تخص سجنا دون آخر، بل تشمل جميع المعتقلات تقريبا، وبنفس الدرجة من العنف، حتى إن بعض أطباء السجون لم يجدوا غضاضة من الاشتراك في حفلات التعذيب ومنهم من فاق الضباط الأصليين ضراوة.

الأمر كان يبلغ ذروته مع شن مباحث السجون حملات تفتيشية على السجون، وهو إجراء معروف في السجون، لضبط الممنوعات التي بحوزة المساجين، لكن مع المعتقلين كان الأمر مختلفا، فقد تحولت تلك التفتيشات إلى حفلات للتعذيب بوسائل مختلفة تشمل الضرب بالهراوى، أو الصعق بالكهرباء، تبدأ منذ الصباح الباكر وحتى غروب الشمس تقريبا مع تجريد المعتقلين من القليل الذي بحوزتهم. وفي بعض الأحيان كانوا يلجأون إلى ترك الكلاب لتنهش أجساد المعتقلين، أو إطلاق قنابل الغاز داخل الزنازين المغلقة، حتى أنني شعرت في إحدى هذه المرات بأنه لم يعد يفصلني عن الموت أي شيء!!

سنوات طويلة لم تفتر فيها عزيمة نظام استبدادي عن الضرب والسحل والتعذيب فهل تراه اكتفى بذلك؟!!

تحطيم أسر المعتقلين

كان مبارك يطبق الاستراتيجية التي وضعها عبد الناصر لمواجهة الإخوان في الخمسينيات والستينيات، لكن بمزيد من التوحش.

لذا وضع النظام الاستبدادي أسر المعتقلين هدفا للانتقام (الأب-الأم-الزوجة-الأبناء-الأخوة) رغم عدم مسؤوليتهم شرعا وعقلا، عن تصرفات ذويهم المحبوسين أصلا.

ومن أجل تطبيق تلك الاستراتيجية تم اعتماد عدد من الآليات أهمها:

  • استمرار الحملات الأمنية الليلية على منازل المعتقلين مع ما يصاحب تلك الحملات من تكسير وتحطيم لمحتويات المنازل، ونشر حالة من الفزع في محيط الأسرة.
  • الضغط على الزوجات لطلب الطلاق، عن طريق الاستدعاء إلى المقار الأمنية وإخضاعهن لحملة ترهيب وحدث ذلك معي بصفة شخصية لكن زوجتي رفضت ذلك بشدة.
  • منع المساعدات المالية عن أسر المعتقلين، واعتقال كل من يثبت قيامه بذلك، ليتحطم مستقبل الأبناء فيزدادوا حنقا على أبيهم.
  • الضغط على الأسر لمنع زيارة المعتقلين بل واعتقال رجال الأسرة الذين يقومون بالزيارات لإجبار النساء على القيام بتلك المهمة الشاقة التي تزداد صعوبتها مع وجود أكثر من معتقل في الأسرة مودعين في سجون مختلفة يفصل بينها مئات الكيلومترات.

ممارسات قمعية على مدار سنوات طويلة، لن تكفي تلك المساحة لكشف المزيد منها.. لكن يقيني أنه سيأتي يوم تشكل فيه لجان محايدة لتقصي الحقائق، كي تكشف للرأي العام حجم الانتهاكات التي طالت الإنسان على مدار ثلاثين عاما، تسلط فيها مبارك على حكم مصر.    

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه