أنوار الأنوار تكتب: تكاد النفايات تخنقني

أنوار الأنوار*

من أرض الجنون والتوحّش، وتحديدًا من الشقة الخامسة في البناية العاشرة لأحد شوارع حيّ رابين في مدينة كرميئيل حيث أقيم، عالقةٌ أنا الآن في ورطتي. هنا حيث لنا ترف تعدّد أوجه الموت وسبله : فقد تموت بطعنةٍ من أوباش المتطرفين اليهود الباحثين عن عربيٍّ قربانًا لإلههم وهيكله، قبل أن يسوّقوك مجرمًا إرهابيًّا  ومخرِّبًا، أو يباغتك حتفك بيد أفراد شرطة يدّعون أنك كنت “تنوي” الاعتداء عليهم حين تلصصوا على أفكارك أو أحلامك التي أطلّت من ملامحك العربية. وقد تكون حتى طعنةً من أخيك الفلسطينيّ الذي لم يدرك أنك مثله فلسطينيّ وأنّك مثله حامل لعنة حقّ الموت مذ ولدت، فيحسِبك إسرائيليًّا حين تنطلق يده باحثةً عن انتقام عشوائيّ في حافلةٍ استقلّيتَها نحو دراستك، أو مطعمٍ كنتَ تبحث فيه عن لقمة عيشك. ثمّ عليك  أن تبارك موتك وتزغرد له ممتنًّا.. دون أن تميّز جيّدًا بين الرصاصات والسكاكين.
ولأني اعتادني النشاز حدّ الإدمان، فمن نشازي مثلا أني  كلما هممت أن أصفق كغيري لزغاريد الموت انبعثت في قلبي كلّ أصوات الزغاريد الفائتة.. ولم أنسَ كم زرعنا منه أملا في أن يزهر حياةً  فإذا هو يضيع بلا ثمرٍ، لأننا نعرف جيدًا كيف ننثر أشلاء الحياة دون أن نعرف أبدًا كيف نعيد قطفها. فأظلّ أسأل كم من الشباب سنذرّي دمهم مزغردين ثم ما نلبث أن  ننساهم بعد أن ننتبه أننا لم نورثهم غير حق الموت وأننا لم نُجد غرس موتهم ليزهر حقًّا!؟
في وقت يهدر دم العربي ويشرعَن قتله بكل سهولة مع وسمه بالمخرب والإرهابيّ، ويستباح دم كل فلسطينيّ في أرضه بدعوى تهديده لقاتله، وسط هستيريا الخراب التي جعلت من خروجي إلى عملي تهديدًا لجاري الذي يخشى العرب، وبينما ما زال عضو الكنيست العربي يؤمن أنّ دوره هو نشر صور المجرمين الذين يقتلوننا والإشارة لنا لنرى وحشيّتهم، غير مدركٍ أنّ وجوده جاء كي يشقّ مسارًا إضافيا في المقاومة. وحيث كلّ أعضاء “القائمة المشتركة” التي صدّعونا بأهمّيتها ووحدتها وخوّنوا من لا ينتخبها باعتبارها سبيلا للمقاومة ، لا ينجحون الآن بالضغط لانتزاع قانون يحمي المواطن العربيّ الفلسطينيّ في بيته وعمله، من سفك دمه بكلّ رخص، عالقةٌ أنا في ورطتي.
وبما أنّ دمي مهدورٌ ها هنا، ويمكن بكلّ بساطة أن يقتلني جاري اليهودي إذا رآني أهبط درج البناية حاملةً كيس النفايات ويعلل أنه حسبه قنابل ومتفجّرات وأنني هددته به، ثم ببساطةٍ يضيع دمي بين وسمهم لي بالإرهابية ووصف شعبي بأنني الشهيدة البطلة، فليكن أن أعلن أنني لا أمتّ للبطولة بصِلة، ولو متّ فانا ضحيّةٌ مقتولة .
أعترف أنني أصلا هشة، بكيت إذ رأيت البيضة مكسورةً في العشّ، بعد أن تنازلت عن غرفتي لعصفورين رأيتهما يجمعان القشّ عند نافذتي ونمتُ في الممر كيلا أزعج عشقهما.  ولستُ سياسية كي أجيد حسابات الربح والخسارة، أنا كاتبةٌ تحلم بالجمال وتربّي أبناءها على التعددية وحبّ الله والإنسان، وعشق الحياة والشعر والموسيقى، ولا أملك أفكار تلك التي رقصت لموت ابنها إذ اعتبرته شهيدا. بل أرتجف إن استيقظت طفلتي فزعةً من حلمٍ مزعج.  يُجفلني الدم والقتل وأكره الموت المجانيّ، ولا أومن بمن يقدّس أية قيمة على حساب  الإنسان. فإذا قتلني جاري الحاقد على درج البناية ، لا تتركوا دمي يضيع بين إرهابية وبطولة. بل اعتبروني ضحيةً، نعم ضحية.  ثم  فتشوا جيّدًا في كيس النفايات الذي أحمل،  وألقوا بها إلى المزابل كيلا تأخذها العفونة.
ستجدون بينها خطط نتنياهو ورفاقه الذين كلما أفلسوا اختلقوا هستيريا جديدةً يعتاشون عليها موهمين شعبهم أنهم الضحية معمين أعينهم عن أقبح الحقائق بأنّهم يحتلون شعبًا وأرضًا وتاريخًا، ويزرعون حياتهم في حقول دماء الآخرين والمقابر.
ثمّ شعارات ذاك “المناضل” الذي من خلف شاشة حاسوبه ودخان نرجيلته يظلّ يؤجج متعطشًا للدم والخراب، مغنيًّا للموت وسفك الدماء مفرغًا في أعداد الضحايا عقَد قمعه وقهره منسوجةً بوهم انتصار لا يتحقق.
وبلا ريب،  ورقة انتخاب ممثّلنا الذي سيغنّي تمائم وحشية قاتلي . لا تغفروا له عدم إيجاد سبيلٍ لحماية أبنائي من سفح دمائهم من بعدي. ستجدون كلمات القياديّ الذي دعا كوادره إلى مظاهرة غير قانونية كي يبني مجده على حساب اعتقال المندفعين. والأهمّ طبعًا،  كلّ  خطابات الشيوخ الذين أقنعوا الشباب بأنّ الحرب دينيةٌ وأنّ كلّ الأطفال الذين ماتوا من قبل لم يستحقوا انتفاضتهم، لولا بقعةٌ صغيرة أقدس عندهم من كلّ معاني الإنسان..
لن يزعجني بعدها لو أضفتم “خطاب انهزامي” هذا، فلمّا كنت أقدّس الإنسان وأومن أنّ المقاومة فعل حياة لا فعل موت، وأنّ ركيزتها ألا تنحصر اختيارات أبنائنا بين الموت والاستسلام، بل أن نخلق لهم خيارًا ثالثًا يعيشون فيه دون أن يتنازلوا عن حقّهم.  ولمّا كانت قناعتي دومًا بأنّ إنصاف الدماء الفيّاضة منذ عقود لن يكون بتمجيد هدر المزيد منها، بل بالسعي لإيجاد اعتراف من العالم بها، يخلّدها بغرس بديلٍ من الحياة. ولأني أحلم أن يكون القول الفصل في التأثير للمفكرين الذين يرون ما لا نرى فيعينوننا أن نراه، بينما في الواقع تنتصر الغوغاء ويخوَّن العقل إذ يتسابق أصحاب القرار لإرضاء العامّة خوفًا من خسارة التصفيق.
 وما دمتُ وسط فوضى الموت والرعب لا أنجح أن أمنح أبنائي شيئًا من الأمان، وعليّ كلّما خرجت ابنتي إلى جامعتها أن أتوقّع ألا تعود، دون أن أدرك إن كان سيطعنها جاري اليهوديّ المتطرّف أم أخي الفلسطينيّ الاستشهاديّ، فأنا أعلن انهزامي. وأعترف أنّ هذي النفايات التي تحول بين رؤيتي والأمل، هذي النفايات تحديدًا تكاد تخنقني.
_________________________

*كاتبة فلسطينية من الجليل

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه