“أموت وأعرف مين اللي زقني”

شاءت “الدَفعة” أو “الزقة” أن أكون المذيع المناوب لأقرأ البيان الأخير للقيادة العراقية.

لا أعلم إن كنت قاصدا التقاط اللحظة التاريخية أم أن اللحظة التاريخية أتـتـني رغما عنها أو أنا أتيتها رغما عني .. ولا أعلم أيضا ما الذي جعلني أكثر ظهورا في مسرح تلك اللحظة التاريخية. إنها الصورة والمناسبة التي تخلد في الذاكرة أو هي المصادفات أن تكون على المفارق الأساسية المحددة لتلك اللحظة.

عادة ما تنتقل النكتة بين البلدان مع تغيير بعض المسميات البسيطة كما نحن اليوم نـتـنقل بين البلدان كحقائب مهاجرة تحمل شيئا من ذكرى هنا وهناك.

غادرت العراق قبل خمسة عشر عاما بعد سنة قضيتها تحت (ضلال) الاحتلال الأمريكي للعراق وكان المستقر (مصر الكبيرة) وهناك تشكلت التجربة الغنية لي والمفقودة لأي صحفي وإعلامي لم يدرك اللحظة المصرية، والتي سنكتب عنها كثيرا.

ولكي لا أبتعد عن النكتة كثيرا والتي سمعتها في بغداد، وسمعتها أيضا في القاهرة وهي لا تختلف سوى في بعض المسميات / الجسر ودجلة عند العراقيين والكوبري والنيل عند المصريين /.
وهي أن أحدهم أخذته الغيرة والشهامة فرمى بنفسه من الجسر (الكوبري) إلى أعماق النيل أو دجلة لينقذ طفلا يصارع الغرق في عز الشتاء وبعد نجاحه في مهمته الجليلة وقد استقبلته وسائل الإعلام على الضفة الأخرى لتوثيق اللحظة التاريخية فبادره الصحفيون بالسؤال!! كيف اتخذت قرارك الشجاع بالتضحية بحياتك لأجل غيرك؟ فأجابهم متسائلا وعيناه تفيض شررا وغضبا.. أخبروني قبل أن أجيبكم، من هو الذي دفعني من أعلى الكوبري؟!!!

هي نفسها مستوحاة من مسرحية (المتزوجون) لسمير غانم وشيرين حينما تولدت اللحظة التاريخية للزواج وبقي غانم يردد عبارة (أموت واعرف مين اللي زقني).

بيان القيادة

شاءت “الدَفعة” أو “الزقة” أن أكون المذيع المناوب لأقرأ البيان الأخير للقيادة العراقية وقد تزامن مع بيانين آخرين يتضمنان تهنئتين من القيادتين القومية والقطرية لحزب البعث موجهتين للشعب العراقي بمناسبة السابع من نيسان ذكرى تأسيس الحزب، والتي صادفت قبل احتلال العراق عام 2003 بيومين فقط.
وبعد هذا البيان اختتمت حقبة مهمة جدا من تاريخ العراق الحديث وقد دخل الجيش الأمريكي إلى بغداد غازيا ومحتلا.. يقول البيان (من صدام حسين إلى القوات المسلحة بصنوفها كافة على من يتعذر عليه الوصول الى وحدته العسكرية الالتحاق بأقرب وحدة عسكرية من مكان وجوده) فكان ذلك إشارة إلى تفكك وحدات الجيش العراقي وانعدام الاتصال والتواصل بينها.
هذا البيان جاءنا إلى الفضائية العراقية مكتوبا باليد على نصف ورقة وقد سلمني إياه مدير الأخبار لقراءته. وللمرة الأولى أتوجس من قراءة مادة فلاحظ مني ذلك، ففتش في جيبه يتحسس قلمه فلم يجد فطلب مني قلمي الذي لا يفارقني فأعطيته إياه فوقع على البيان ووضع القلم في جيبه قائلا لي هذا القلم سيبقى عندي ذكرى لعلنا لا نلتقي بعد.

في بداية عام 2009 ونحن في أروقة مبنى النايل سات بمدينة الإنتاج الإعلامي لغرض إجراء ترتيبات أخذ إشارة وإجراء بعض التعاقدات لقناة تكلفنا بها حينها. بادرني مدير القسم الهندسي أو ما يشابه ذلك بالسؤال: أين التقينا يا أستاذ؟ قلت له أكيد في مكان ما سنتذكره أو ربما شاهدتني مذيعا بالقناة الفلانية بمدينة الإنتاج، فقال لي احتمال!

صورتي على الشاشة

يبدو أن المدير لم يقتنع، ففي ذاكرته شيء محبوس وظل يتطلع بملامحي وأخيرا استجمع المعلومة وتكونت له الصورة بوضوح قائلا لي الآن تذكرت، أنت من تعلقت صورته على الهواء يوما كاملا في قناة العراق الفضائية بعد إيقاف بث القناة بسبب الحرب. الرجل أصبح صديقا حميما لي وطلباتي أصبحت مستجابة ربما تكفيرا عن قطع البث وإيقافه عام 2003. إنها اللقطة التاريخية في عالم الإعلام والتي تأتيك مرغمة.

قبل يومين من كتابة هذا المقال قصدني أحد الصحفيين من الأخوة المصريين في إسطنبول، قائلا لي يا دكتور هو حضرتك كنت تقرأ بيانات صدام حسين؟ أنا شفتك بفيديوهات على اليوتيوب. قلت له نعم وهي بيانات العراق الذي كان رئيسه صدام حسين رحمه الله. فقال لي طيب أنا عايزك ببرنامج اعترافات.

دفعني هذا الأمر إلى مراجعة اليوتيوب وما نشر عليه من حكايات تأبى أن يأتي عليها القدم وكان قصدي الاطلاع عما نشر عنا في تلك المرحلة، ففوجئت بصورتي وصوتي بفيديو جديد من أيام الحرب، ولكن تحت عنوان (بيان بدء الحرب على العراق العظيم) ولم يمض على نشره سوى ثلاثة أشهر (لا أعلم أين يجدون هذه الأشياء).  وهذا هو الاعتراف الثاني!!

أخيرا لكي تكون الاعترافات كاملة تذكرت لحظة من التاريخ جمعتنا بالأستاذ محمد سعيد الصحاف وزير الإعلام الأشهر، وهو يقلدنا شارة أم المعارك، أعتقد اسمها كذلك، هي ليست أنواط الشجاعة.. حقيقة لم أعد أتذكر أسماءها، بالرغم من اعتزازي وتشرفي وزهوي بهذا الوسام.

اللحظة التاريخية مع الأستاذ الصحاف وثـقتها صورة كنت قد أضعتها مع شتات الأوراق والذكريات طيلة هذه السنين ولم أكن أتوقع الحصول عليها حتى فاجأني أخي الكبير بأنه احتفظ لي بالكثير من ذاكرتي القديمة التي تركتها في العراق والتي أحن اليها كثيرا وقد نشرت تلك الصورة على حسابي لأنني مؤمن بأن التاريخ ليس ملكا لأحد. وليس لأحد أن يختار أدواره في الحياة كما يشاء. وإلا لما سخَّر الله من يدفع أو يزق ذلك الرجل في فصل الشتاء من أعلى الكوبري إلا ليمد بحياة ذلك الطفل المسكين. أو أن يتزوج سمير غانم من شيرين بمسرحية المتزوجون ليبقى يردد (أموت وأعرف مين اللي زقني ) .

وبعيدا عن النكتة والمسرحية.. تبقى حياة الصحفيين والإعلاميين مليئة بالمحطات والمفارقات. وفيها من الأهمية ما تغني مكتبات في التاريخ والجغرافية إذا أحسن تدوينها بأمانة. لأنهم شهود على مراحل مهمة من حياة الأمم.

يقول الفيلسوف الايطالي كروتشه (التاريخ كله معاصر) إشارة إلى إمكان تجدد الوقائع ذاتها بمجرد أن تتهيأ لها الشروط التي تشكلت بها أول مرة.

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه