“أمل دنقل” وصرخة الرفض للتعديلات الدستورية!

في مصر السيسي تحولت الدساتير إلى لعبة يتم تغييرها حسبما يأمر به السيد الضابط أو السادة أعضاء ائتلاف ما يسمى بدعم مصر

 

 

تظل الصرخة التالية لأمل دنقل صوتا دائما لرفض الاستبداد، ولأية صورة منه مثل تعديلات دستورية من دون حوار مع شعب يبدو رافضا للعبث بدستور لم يمض عليه بضع سنوات، بل ويحوي مادة تمنع العبث بنص فترة الرئاسة.

قلت لكم مرارا:

إن الطوابير التي تمر 

في استعراض عيد الفطر والجلاء

(فتهتف النساء في النوافذ انبهارا)

لا تصنع انتصارا!

إن المدافع التي تصطف على الحدود في الصحاري

لا تطلق النيران.. إلا حين تستدير للوراء

إن الرصاصة التي تدفع فيها ثمن الكسرة والدواء

لا تقتل الأعداء

لكنها تقتلنا .. وتقتل الصغارا

تعديل دستوري غير دستوري!

لا صوت في سماء القاهرة وأجوائها إلا صوت تعديلات الدستور الذي لم يجف حبر كتابته فلم تمض خمس سنوات على كتابته.

والدساتير لا تكتب لتتغير كما تتغير افتتاحية صحف الصباح، حسبما يمليه على رؤساء تحريرها أبونا الذي في أمن الدولة أو المخابرات، ولا حسب رغبة الرائد أشرف أو النقيب إيهاب.

لكن في مصر السيسي تحولت الدساتير إلى لعبة يتم تغييرها بحسب ما أمر به السيد الضابط أو السادة أعضاء ائتلاف ما يسمى بدعم مصر.

ولعل تلك هي الفرصة الذهبية وربما الأخيرة للقوى السياسية والثورية في مصر للوحدة والاتحاد على هدف هو إسقاط هذه التعديلات التي تعلن عن دولة الحاكم الواحد الأوحد الذي لا بديل له ويسيطر علي الدولة المصرية العتيقة وعلى المؤسسات كافة. سواء تم هذا بمادة لتأبيد حكمه عشرين عاما أو بسيطرته على القضاء المصري أو بسيطرة الجيش علي الحياة في مصر بإعطائه الحق في الدفاع عن مدنية الدولة والديمقراطية.

لقد كانت (لا) صوت المعارضة والقوى السياسية والثورية هي الأعلى في فضاء التواصل الاجتماعي، وصارت قصيدة الشاعر الجنوبي الكبير أمل دنقل

(كلمات سبارتاكوس الأخيرة) ومفتتحها أنشودة الثوار في أيامنا الأخيرة:

المجد للشيطان معبود الرياح

من قال (لا) في وجه من قالوا (نعم)

من علم الإنسان تمزيق العدم

من قال (لا) فلم يمت

وظل روحا أبدية الألم.

لم يكن استهلال أمل مقصودا به المجد للشيطان فيه المعنى الديني – كما يقول الناقد الكبير جابر عصفور – إنما المقصود هو المعني المجازي البشري الذي قصد قصدا إلى خدش جدار القداسة البشرية المخيفة للزعيم الواحد الأوحد الذي فرض رجاله على الجميع أن يقولوا (نعم)..

وفي الوقت نفسه تأكيد معني فعل الرفض وضرورته في مثل هذا السياق الذي يعد فيه قول (لا) تأكيد لحضور الإنسان القادر على استبدال لوازم الحرية بلوازم الضرورة..

ومن ثم قول (لا) حين تصبح سبيلا إلى الحرية والانعتاق من الظلم.

إن أمل دنقل الذي كتب القصيدة في عام ١٩٦٢ بالإسكندرية يدعو الشعب على لسان سبارتاكوس محرر العبيد المعلق علي المشنقة أن ينطق (لا) في وجه الظلم، وإلى رفض أدوات القمع حين يقول:

يا إخوتي الذين يعبرون في الميدان مطرقين

منتظرين في نهاية المساء

في شارع الإسكندر الأكبر

لا تخجلوا ولترفعوا عيونكم إلىّ

لأنكم معلقون جانبي على مشانق القيصر

فلترفعوا عيونكم إليّ

لربما إذا التقت عيونكم بالموت في عيوني

يبتسم الفناء داخلي..  لأنكم رفعتم رأسكم.. مرة

في الأبيات ما يشير على سبيل المجاز المرسل إلى أدوات القمع في المدينة حيث تمارس السلطة ما تراه مؤديا إلى الضبط والعقاب للحفاظ على سلامة نظامها وبقائه.

ولد أمل دنقل في قرية القلعة بمحافظة قنا جنوب الصعيد في أبريل/نيسان ١٩٤٠، وبدأ كتابة القصيدة هو ابن الرابعة عشرة ونشرت أول قصيدة له في مجلة قاهرية وهو ابن السادسة عشرة بعنوان (عيد الأمومة). وهي قصيدة طويلة انبأت عن شاعر كبير. قدم أمل عددا من الدواوين الشعرية المهمة في تاريخ الشعر المصري الحديث، وتوفي “أمل دنقل” في العام ١٩٨٣  عن ٤٣ عاما، وهو صاحب أهم قصائد الرفض في الشعر العربي.

كانت قصيدة (كلمات سبارتاكوس الأخيرة) التي كتبها في عامه الثاني والعشرين بداية تحول كبير في حياه أمل وعلاقته بقصيدة الرفض. واستمر أمل رمزا لهذه القصيدة:

آه ما أقسى الجدار

عندما ينهض في وجه الشروق

ربما ننفق كل العمر كي نثقب ثغرة

ليمر النور للأجيال مرة.

إن الجميع هنا في قلب معركة ضد أبدية الحاكم وتأليهه، من أجل ألا تمرر تلك التعديلات التي تنهي الدولة وتحولها إلى دولة الرجل الواحد الأوحد.

أمل دنقل معاد للدولة التسلطية

يقول الدكتور جابر عصفور في كتابه (قصيدة الرفض قراءة في شعر أمل دنقل):

إن أمل دنقل كان معاديا للدولة التسلطية الذي ظل شعره يعلن رفضه لقواها القمعية وأجهزتها الأيديولوجية على السواء، وكانت البداية هي إدانة العسكر بوصفهم أول وأخطر الأجهزة القمعية للدولة فيقول في قصيدته (تعليق على ما حدث) التي كتبها في سبتمبر ١٩٧٠ أثناء مذبحة الفلسطينيين في الأردن  “أيلول الأسود” يقول أمل:

قلت لكم في السنة البعيدة

عن خطر الجندي

عن قلبه الأعمى؛ وعن همته القعيدة

يحرس من يمنحه راتبه الشهري

وزيه الرسمي

ليرهب الخصوم بالجعجعة الجوفاء

والقعقعة الشديدة

لكن إن يحن الموت

فداء الوطن المقهور والعقيدة

فر من الميدان

وحاصر السلطان

 واغتصب الكرسي

وأعلن (الثورة) في المذياع والجريدة

مواصفات الدولة التسلطية

ولكن ما هي مواصفات الدولة التسلطية والتي وصفها عبد الرحمن الكواكبي في كتابه (طبائع الاستبداد) الصادر عام ١٩٠١، وخلدون النقيب في دراسته عن الأصول الاجتماعية في الدولة التسلطية في كتابه (المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية)؟

ما هي سمات تلك الدولة التي ناصبها أمل دنقل العداء؟ وماهي ملامحها؟ وهل تتشابه مع تلك الدولة التي يقاومها الثوار والقوى الديمقراطية الآن في مصر؟

إن قوى القمع تبدأ وتنتهي من بنية الدولة التسلطية التي هي بحكم طبيعتها لا يمكن أن تستمر إلا بالحماية اللازمة لها والتي تقوم بها الأجهزة القمعية للدولة مثل الجيش والشرطة وما في حكمهما.

وللدولة التسلطية خصائص أولها: أنها تمارس احتكار السلطة عن طريق اختراق مؤسسات وتنظيمات المجتمع المدني وتحويلها إلى مؤسسات وتنظيمات تابعة لسلطة الدولة وتعمل بوصفها امتداد لأجهزة الدولة رغم كل شعارات الاستقلال المزعومة.

ثانيا: يخترق النظام السياسي التسلطي النظام الاقتصادي ويلحقه به فيصبح كل الاقتصاد تحت سيطرته.

وتصبح كل شركات التصنيع والإنتاج والبيع والشراء والإعلام والسينما وغيرها شركة واحدة أو اثنتين: الوطنية أو المصريين، ولعل آخرها ما أعلن عن شركة الوطنية لاستيراد السيارات بعد حملة انتشرت في الأسابيع الأخيرة بعنوان: (خليها تصدي).

ثالثا: شرعية النظام الحاكم في الدولة التسلطية لا تقوم على الشرعية الدستورية والقانون العادل، وإنما علي العنف والإرهاب و القمع أكثر من الاعتماد على الشرعية، ويتيح ذلك عدم وجود دستور فاعل ينتج عن توافق كل أطياف المجتمع السياسية والاجتماعية للأمة، فضلا عن إمكانية تعليق الدستور أو إلغائه أو استبداله أو تعديله أو تأجيل العمل به..

ويلزم عن هذه السمة أمران متضافران أولهما: تعليق الحقوق المدنية وتجديدها ومن ثم إبطالها وتجاهل الكثير من مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

رابعا: تحويل نسبة عالية من الدخل القومي إلى الإنفاق على الأجهزة القمعية لهذه الدولة على نحو يعطي للعاملين في الأجهزة العسكرية والأمنية ميزات مادية ومعنوية ضمانا لولاء هذه الأجهزة وتبعيتها للحاكم (أن من يحكمون أمتنا العربية ومصر الآن قد حفظوا هذه الخصائص تماما وينجحون الآن في تطبيقها بامتياز).

أما الخاصية الرابعة للدولة التسلطية فتتصل بأيدلوجية هذه الدولة من حيث ما تؤديه أجهزتها من رسائل ينقلها على نحو مباشر أو غير مباشر التعليم والإعلام المملوك للدولة والتحالف مع نخبتها الحاكمة فضلا عن الخطاب الديني التابع..

دقت الساعة القاسية

كان مذياع مقهى يذيع أحاديثه البالية

عن دعاة الشغب

وهم يستديرون

يشتعلون –  على الكعكة الحجرية – حول النصب

شمعدان غضب

يتوهج في الليل

والصوت يكتسح العتمة الباقية

يتغنى لليلة ميلاد مصر الجديدة!

هل تصبح معركة الدستور وتعديلاته المؤكدة للدولة التسلطية في مصر والتي ناصبها شاعرنا الكبير الملقب بالجنوبي أمل دنقل هي معركة عودة إلى الكعكة الحجرية بميدان الثورة المصرية (التحرير) وتكون ميلادا جديدا لمصر الجديدة وتصبح صوت قوي مصر الحية وثوارها هو الصوت الذي يكتسح العتمة الباقية؟

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه